من وحي الحدث

بقلم
فتحي الزغل
شكرا يا باجي

     كنتُ و لا أزال دائما أعتبرُ أن الشّعب التّونسيَّ الذي قام بثورة عظيمة، هو نفسه الذي سمح لبيادق الثورة المضادّة بمجال فسيحٍ للّعب نحــــو إفسادهــــا، والذين أسمّيـــهم بمربّع الحقــد والفوضى والانتهاز والوصوليّة. وأقصدُ المربّع الذي يتضلّع منه التجمعيّون، والإعلاميّون المتمعّشون، والخاسرون فـــــي انتخابـــات المجلــس التأسيسي، و التّيّارات الفكريّـــة الحاقدة على المشــروع الإسلامـــي و إن كانت تدّعي الدّيمقراطيّة في خطاباتها.

    فالتّجمّعيّون وأزلامهم، ومن انتسَبوا للنّظام البائد، خسروا بالثورة - التي قامت أساسًا عليهم وعلى ربّهم الأعلى - مناصبَهم وسلطتَهم ومصالحَهم التي كانت تُقضى بالهاتف. كما خسروا مزايا لا تُعدّ،ُ كانت تنهمر عليهم مطرٍا من ظُلمهم للمجتمع الذي كانُوا يعيشون بين ظهرانيه، سواءٌ في دُوّارهم أو قريتهم أو مدينتهم. مزايا كانت تُركِّع الشعبَ و تُذلُّه و تعظِّم المخلوعَ و تُجِلُّه.
  أمّا الإعلامُ – و أقصدُ من كان فيه قبل هروب واليه الأعظم- فبِحُكمِ أنّه يتشكّل في تسعة وتسعين مـــن المائــــة منـــه، من هؤلاء الذيـن لم يكن لهم أن يظهروا وراء منابرهـــم دون صكّ الــــولاء الأعمــى الذي كانوا يُمضونَه باسم المخلوع، وأصهار المخلوع، وسائق المخلوع، ووالي المخلوع، وعمدة المخلوع، وكلّ من يُنصّبُه المخلوع... فتراهم اليوم قد نصّبوا أنفسهم يتبنّونَ الخبرَ و يصنعونَه لا إيّاهُ ينقلُون. وتراهم كذلك يُنصّبون ضيوف حلقاتهم المسمومة على الشّعب تنصيبا مجّا، لا يُراعي الحرفيّة و لا المهنيّة، ولا حتى الأخلاق التي أظنّها سائرةٌ بخرابهم نحو العدم.
  أمّا الخاسرون في انتخابات المجلس التّأسيسي الأخيرة، فهم الذين كانوا يتصوّرُون أنّهم فائزون لا محــالة، و أنّ تركَةَ السّلطةَ ستؤول إليهم دحرجةً. ســــواءٌ أكانـــوا مــــن هؤلاء الذين ناضلـــــوا حقّــــا ضدّ المخلوع، فأخذتهم الثّورة على غير غرّة، أو كانوا من هؤلاء الذين نفخَ الشيطانُ في صورتهم فسَحَرهُم أفاعٍ وهم حبالُ، من الذين لم يُعرف عنهم النّضال غيرُ النوفمبريُّ، و هذا نوع من النّضال يشربُ صاحبُه من عين دافقةٍ، و يأكلُ من لحم شعبٍ سائغٍ طعمهُ، كان في ما مضى، يُقدّمه لهم المخلوعُ في زمانه في ظروف مغلقةٍ تحوي ثعابينَ جميلةَ تُسمّى عند أمثالــي رشـــوةً وعندهُـــمُ الدّعــمُ. و وجود هؤلاء دون قطعة واحدة من الكعكةِ، هو الـــذي خندقهـــم في موقعـــــهم و خطابِهــــم ذاك، فكـــان أن وحّدهــم تشارُكُهـــــم في المنافس، رغم الاختلاف الفكــريّ الجوهــريّ بينهــم. هذا إذا افترضتُ أنّ لهم فكرا.
   أمّا الضّلع الأخير في المربّع السائر بالبلاد نحو الوراء والفوضى والهرج، فهو التّيّارات الفكريّةُ اليساريّةُ باختلافها، وتدّعي أنّها ديمقرطية، وهي تجهلُ إلى اليوم أنّها أصرّت على الظّهور في مشهد البلاد الدّيمقراطي بعد الثورة، بنفس المشهد الذي عهده العالم بأسره عنها، من أنّها لا تؤمن بالديمقراطيّة إلاّ خطابا و شعاراتٍ، تمتطيها للسلطة. حتّى إذا تمكّنت منها تسلّطت وعذّبت وقتلت... وانتهكت أصول الديمقراطية نفسها، بل أصــــول الانسانيّـــة حتّـــى. و لنا في كلّ الحركات اليساريّة التي حكمت، عبرةٌ، و نحنُ أولي ألبابٍ، لا نُلدغ من جحرٍ مرّتين. فهؤلاء معروفون بحقدٍ دفين يتجاوز التنافـــسَ السياســـيِّ للمشـــروع الإسلامـــيّ خاصّــةً دون غيره من المشاريع. لذلــك فأنــت لا تجــدُ البتّةَ المتديّـــنَ بيـــن صفوفهـــم و لو نفاقًا. إذ يعتبرون الدّين شأن هامشٌ في حياة الفرد و الجماعة، بل تُنكره فصائلُ عديدة منهم. و عِداؤهم ذاك للتّيار الإسلامي إنّما هو عداءٌ لسبب عمودٍ ينسف وجودُهُ رؤيتَهم و فكرهم.
   إلاّ أن هؤلاء المُكوّنين لمربّع الثـــورة المضـــــادّة فـــي تونـــس، ولأنّهم اشتركوا فــي منافـــس واحــــدٍ،  وأقصــد ثالـــوث السّلطة الذي تقوده حركة النهضة ذات المرجعيّة الإسلامية، ينظر له كلٌّ منهم بنظرة خاصّةٍ به، لا تُشِبه نظرة الثّلاثة غيره.  فهم لم يكن لهم أن ينتظموا في تجمّع واحدٍ أبدا لولا جُبنُهم و غباؤهم السياسيّ. فبيادق القهقرى في كلّ الثورات التي سبقتنا فـــــي بلـــدان أخـــرى لم تتجمّع بذاك التنظيم و الحبكة أبدا. لأنّ تجمُّعهم  يوجب مجهودا كبيرا لكشفهم. إلاّ أنّ عنايــــة الله بهـــذا البلـــد و بهـــذه الثـــورة، هي التي قيّضت من يجمع أعجازَ نخلِ ثورتِنا في تجمّعٍ جديدٍ ديدنُه السلطةُ و المكابرةُ. فبعث الله الـــرّوح فــي موميــــاءٍ قديمةٍ ضاربةٍ في التّاريخ، قيل أنّها وُلدت قبل ميلاد أصل حزبها الذي وفدت منه. خرجت تنفض غبار السّنين عنها، تُلملِمُ هؤلاء وتجمعُهم و تُرصّفهم - على اختلافهم لجهلهم - تحت حركة سياسيّةٍ، ما كان لها أن تُولدَ، لو لم ينبطح الفائزون في الانتخابات الأخيرة لهاماناتها و فراعينها و لخدّامها، و لم يُسارعوا في أيّامهم الأولى إلى عزلتهم بقانون تشريعيٍّ واضحٍ.
   فهل أدركتم الخدمة التي قدّمها "الباجي" للشعب؟ و هل فهمتم المزيّةَ التي ستُنسبُ له بعد وفاته؟ فهل لذلك المربّع أن تجتمع أضلاعه لولاه؟