بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
المقاربة التشاركية في الحقل المدرسي: الآليات والتجليات

 المقدمة

 
ترتبط المفاهيم المشكّلة لـ"للإصلاح التّربوي" وآلياتها المؤسّساتيّة في ظل العولمة الرّاهنة بالنزعة نحو إعادة تشكيل النّظام التّربوي وفق مقاربات ورؤى سياسية وأيديولوجيّة جديدة. وهي أبرز مرحلة تاريخيّة تصبح فيها عمليّة التّخطيط لـ"المشروع التّربوي" في الدّولة الوطنيّة تدار من قبل بعض الهياكل والمؤسّسات العالميّة أي لم تعد التّربية شأنا وطنيّا داخليّا نتيجة ظهور شبكات من القوى والفاعلين الدّوليين الجدد الذين أصبحوا يمتلكون النّفوذ والسّلطة الحقيقيّة في إدارة العالم  عبر ما يسمّيه البعض  بـ" الحكم العالمي من دون دولة"(1). هذا الحكم العالمي الجديد أصبح واضحا في الخطاب التّربوي العربي الرّسمي وفي مختلف المواثيق التّربوية الإقليميّة والدّولية التي تدعو كلها إلى "تدويل" المسألة التّربوية من حيث وضع فلسفة التّعليم وأهدافه وإدارته والسّيطرة عليه وعلى مناهجه وعلى القيم التي ينبغي أن يبثّها أو يحافظ عليها النّظام التّربوي(2). 
كما إنّ تحديث التّعليم وفق المقاربة العالميّة الجديدة يتطلّب إعادة تشكيل طرق تنظيم المؤسّسة التّربوية وإدخال مفاهيم وأساليب جديدة في التّسيير مستوحاة من ميكانيزمات اقتصاد السّوق مثل: "الكفايات" و"الجودة" و"المقاربة التشاركيـــة" و" المهننة" و"التمكين"...الخ. وعلى الرّغـــــــــم من أنّ أسس هذه المقاربـــــات ومفاهيمهــــا مازالت في طور التّشكّل بالنّسبة إلى بعض الــــدّول العربيـــة، إلاّ أنّها باتت مؤكّدة على مستوى الاستراتيجيات والنظم التربوية في مختلف المستويات التعليمية. 
  إنّ ما نهدف إليه في هذه الورقــة هـــــو محاولــــة  - قراءة سوسيولوجيّة – استقرائية حول مضمون إحدى المفاهيم الجديدة الذي اخترقت الحقل التّربوي العربي عموما والتّونسي خصوصا ضمن السّياق العالمي الرّاهن، وهو مفهوم "المقاربة التشاركية" الذي أصبح يشكّل أحد أعمدة البنـــــاء المفهومــــي لما يمكن أن نسمّيه بـ"مورفولوجيا الإصلاحات" التّربوية في عصرالعولمة الرّاهن. 
 
المبحث الأول: الشراكة التّربوية في القانون التربوي التّونسي
 
أفرد "المخطّط التّاسع للتّنميـــــة الاقتصاديّـــــة والاجتماعيّــة"(3) في الباب السّادس، محورا خاصّا بـ "الشّباب". وأهم ما ورد فيه، أنّ 80% من الشّباب يعتبر أنّ البرامج التّعليميّـــة يجب أن تبنى على الممارسة والتّطبيق، وأنّ كثافة المواد تؤثّر على مردود التّلميذ. ويرى 57% من الشّباب أيضا أنّ مسألة تمويل تحسين مردوديّة التّعليم والتّكوين المهني لم تعد من مشمولات الدّولة بمفردها بل من مهامّ الدّولة والأولياء معا. فمنذ أن انخرطت البلاد التّونسيّة في سياسة إعادة الهيكلة الاقتصاديّة أواخر الثّمانينـــات من القرن الماضي، صدرت عديد القوانين التي تدعو إلى تشجيع الاستثمار الخاص في الحقل التربوي في مختلف مستوياته التعليمية، وترافقت معها عمليّات التّفويت التّدريجي في بعض مؤسّساته لفائدة القطاع الخاص.
 
أولا: "الخطة التنفيذية لمدرسة الغد"(4).       
 
مثّلت هذه الوثيقة تحوّلا نوعيّا في الشّأن التّربوي في تونس. وكانت منطلقا جديدًا لهندسة صورة مدرسة الغد. فقد حملت رؤية مغايرة للمؤسسة التّربوية. وتستند هذه الرّؤية إلى مقاربة مفاهيمية وبيداغوجية وتربوية جديدة من قبيل الجودة والشّراكة والخوصصة...الخ ذات المحمولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة عما سبق من مشاريع تربوية. فالخطاب الرسمي يرى أنّ هذا المشروع التحديثي الجديد الذي انخرطت فيه المنظومة التّربوية التّونسية وحرصت فيه على إعادة صياغة مفاهيمه وقيمه قد جاء حتى يستجيب إلى تطلعات التجربة التحديثية الوطنية وتفاعلها مع التحولات الإقليمية والدّولية. لذلك تستهل هذه الوثيقة النص بالقول: إنّ مدرسة الغد مسار إصلاحي تجديدي ومنهجية للتحوّل والتطوير المستمر. وهي تقوم على آليات كفيلة بجعلها تتفاعل مع المستجدات المعرفية والتكنولوجية والاقتصاديّة والاجتماعيّة وتتلاءم مع حاجيات البلاد ومقتضيات العولمة(5). 
ومن خلال الخطّة التّنفيذيّة لمدرسة الغد، وفي محور علاقة المدرسة بالمحيط الاقتصادي، دعت هذه الوثيقة إلى جعل المدرسة التّونسيّة مواكبة للعصر ومرتبطة بالمحيط الاقتصادي المتغيّر وذلك عبر:
◄ تبنّي واحتضان المؤسّسات الاقتصاديّة للمؤسّسات التّربويّة،
◄ الرّبط الوثيق بين خرّيجي المؤسّسات التّربويّة وحاجيات المحيط الاقتصادي وإحكام التّفاعل مع عالم الشّغل،
◄ توظيف التّوجيه واختيار الشّعب المدرسية تبعا لمتطلّبات وحاجات المحيط الاقتصادي والاجتماعي.
 
ثانيا: القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي
 
 يؤكّد القانون التّوجيهي للتّربية والتّعليـــــم المدرســـي المــــؤرخ في 23 جويلية 2002 على مبدأ الشّراكــــــة في التربية. وهـــــو من المبادئ التي تمّ بمقتضاها إقرار تفتّح المدرسة على محيطها. إذ يشير الفصل 32 إلى "تشريك كلّ الأطراف المعنيّة من الأسرة التّربويّة وممثّلي الأولياء والتّلاميذ والجمعيّات ذات العلاقة". وحسب القانون الذي أحدث – نظريّا آلياتها ـ وهما: "مجلس المؤسّسة" و"المجلس البيداغوجي" سيتمّ تجسيد هذه الشّراكة من خلال:
◄ التّكريس الفعلي لتحويل المدرسة إلى مؤسّسة اقتصاديّة تقوم على الاستثمار التّربوي، إذ إنّ مجلس المؤسّسة عبارة عن مجلس إدارة لها، سواء في تركيبته أو مشمولاته أو مصادر تمويله(6)،
◄ ربط المدرسة عبر ما يسمّى بـ"مشروع المؤسّسة" الذي يصوغه هذا المجلس برنامجا وأنظمة وزمنا مدرسيّا وأهدافا وخدمات بمتطلّبات المؤسّسات الاقتصاديّة ومصالحها أي إخضاع المؤسّسة التّربوية إلى تقلّبات السّوق "المرونة"،
◄ تخلّي الدّولة عن دورها في تمويل التّعليم من خلال تعويض التّمويل العمومي الإلزامي في شكل ميزانيّة سنويّة إلى مجرّد منح مثلمــــــا يؤكّد الفصــــــــل36 من القانون التّوجيهي،
◄ فتح الباب أمام الخواص أفرادا ومؤسّسات وشركات للاستثمار المباشر في قطاع التّعليم ممّا يسمح لهم بالتّدخّل الفعلي في التّسيير والإشراف ورسم السّياسات التّعليميّة مستقبلا.
 
 ثالثا: الأمر المنظم للحياة المدرسية(7)
 
لقد جاء نص هذا القانون متوافقا ومكملا للمرجعيات التشريعية السّابقة ومؤكدا على مبدأ  الشّراكة التربوية وضابطا لآلياتها بشكل أكثر وضوحا. فمن خلال العنوان الثالث من هذا القانون الذي ورد تحت عنوان " في الأطراف المتدخلة في الحياة المدرسية" حيث أكد الفصل الحادي عشر(الفصل 11) على أن تتوزّع الأطراف الفاعلة في الحياة المدرسية حسب موقعها من المؤسسة التربوية وأدوارها فيها إلى أطراف من داخل المؤسسة التربوية وأطراف من خارجها.
1ـ يقصد بالأطراف من داخل المؤسسة: إطار الإشراف الإداري والمدرسون والقيمون والتلاميذ والأعوان الإداريون والفنيون والعملة.
2ـ يقصد بالأطراف من خارج المؤسسة التربوية: الأشخاص الماديون والمعنويون الذين تربطهم بالمؤسسة علاقات تعاون وتكامل ومشاركة، وهم :الأولياء والجمعيات ذات العلاقة والجماعات المحلية.
 فالتّحوّل الاقتصادي الرّاهن ساهم في تغيير أهداف التّربية في المجتمع ومناهجها وأنماط وأساليب إدارتها. التي أصبحت تستند وفق "المقاربة التّشاركية" إلى مبدأ تشريك جميع المؤسّسات والمحيط المجتمعي في صنع المشروع التّربوي وأن يشتركوا جميعا في تطبيقه. وكانت هذه المنطلقات وراء العديد من الدّعوات الرّسميّة إلى تكريس مزيد من مهنة التّعليم والتّكوين وجعلهما مرتبطين بشكل أساسي بحاجات السّوق الاقتصاديّة.
  فالمقاربة التشاركية تقتضي مساهمة مختلف الفاعلين الاجتماعيّين المنحدرين من مشارب متعدّدة وذات مصالح مختلفة ومتعارضة أحيانا. فبغضّ النّظر عن الدّولة التي تشكّل فيه فاعلا رئيسا، هناك الجماعات المحلّية والمؤسّسات العامّة والفاعلون الاقتصاديّون والنّقابات والجمعيّات التي تسعى إلى الانخراط في الفعل التربوي لتحقيق مصالحها الخاصة. . فكيف يمكن بلوغ  هذا الهدف دون المساس بمقتضيات الإنصاف والإستحقاقية في التعليم؟ 
 
المبحث الثاني: آليّات التّسيير التّشاركي ومعيقات التّفعيل:
 
(1) المجالس المدرسيّة: الهيكلة والمهام
 
لتنفيذ "مشروع مدرسة الغد" ولتفعيل "المقاربة التّشاركية"، قام المشرّع التّونسي بإرساء هيكلة تنظيميّة جديدة بالمؤسّسات التّربويّة تتمثّل في مجلسين هما :"مجلس المؤسّسة" و"المجلس البيداغوجي للمدرّسين" الّلذان يشتركان كلّ حسب مشمولاته "الاستشاريّة" في "وضع مشروع المدرسة وتقييمه وتعديله عند الاقتضاء"(8). 
 وهذه المجالس حسب هذا القانون تمثّل خطوة على درب تحديث المنظومة التّربويّة وتطويرها. كما يتنزّل إحداث هـــــذه المجالـــس في إطار اعتماد مقاربة جديدة للعلاقات بين مكوّنات الأسرة التّربويّة قوامها الحوار والتّشاور والاحترام المتبادل مثلمــــا ورد في "الأمر المنظّم للحياة لمدرسية" بأنّ مجلس المؤسّسة يشكّل تحوّلا حقيقيّا في تاريخ المدرسة التّونسية وخطوة هامّة لإرساء ثقافة جديدة في مؤسّساتنا التّربويّة(9).
 ويؤكّد الفصل 32 من هذا القانون علــــى "الإمكانيّة للخــــواص من التّدخّل في تسيير شؤون المؤسّسة التّربوية، وذلك عبر "مجلس المؤسّسة" المفتوح في تركيبته لأطراف تعمل خارجها مثل الجمعيّات والمنظّمات ذات العلاقة، وحق المشاركة في وضع مشاريعها التّربويّة. أمّا المجلس البيداغوجي فهو عبارة عن هيكل استشاري يطلق عليه"المجلس البيداغوجي للإدراة الجهويّة"(10) ويتولّى هذا المجلس النّظر بصفة دوريّة في مسائل التّربية والتّكوين ذات الطّابع البيداغوجي. 
  فالنّص القانوني يكرّس مبدأ الديمقراطية والمشاركة في التسيير المدرسي. هذا من حيث شكل إدارة المؤسّسة باعتبار أنّ المجلسين مهمّتهما "المساعدة" في التّسيير، لكن تبقى السلطة الحقيقيّــــة في يد فرد واحد وهو"المدير" الذي يتمتــــع بحــــق الموافقـــــة على قرارات المجلس أو رفضهــــا. لذلك لا يمكن لهذه المجالس - إن وجدت- أنّ تُغير الكثير في وضع المدرسة بشكــــــل عــــــام. كما إنّ الإقرار بوجود هذه المجالس بمؤسّساتنا التّربوية(11) لا ينفي صورية فعلها وعدم قدرتها إلى حدّ الآن على تفعيل دورها في حلّ المشاكل المدرسيّة، أو في تطوير مستوى مشاركتها في تأطير العمل التّربوي والتّعليمي ككلّ. فأغلب الفاعليـــــن الاجتماعيّيــــن في المدرسة لا يرون في هذه المجالس أيّ تجديد للممارسة الإداريّة.
 
(2) تعدّد الآليات والمآل واحد:
 
تبدو هذه الهيكلة الجديدة في الظّاهر أنّها تكريس لديمقراطية التّعليم، وحدّ من "مركزيّة" القرار التّربوي، وإضفاء للمرونة على سير تشكّلات الفعل التسييري في الحقل التّربوي، وحرص على تجويد الأداء التّربوي. لكنّها في مستوى أجرأتها عمليّا، تفقد معناها بالنّظر إلى الواقع التّربوي الحالي، نتيجة عدم توافق تلك التّجديدات مع الخيارات الكبرى التي بنت عليها الدّولة سياستها في مجال التّعليم منذ الاستقلال.
لذلك ظلت تعترضها صعوبات وعوائق عديدة أهمها:
1ـ إنّ إحداث هياكل برمجة وتخطيط وتسيير وتنفيــذ في مستوى كل مؤسّسة تربوية، إجراء لاينكر أحد دوره في جعل الشّأن البيداغوجي وثيق الصّلة بالواقع التّربوي في خصوصيّته وحاجاته، وأقرب إلى القائمين عليه من إطار تربوي مدرّسين ومؤطّرين وموظّفين وعملة وأولياء، مما يحفزّهم إلى المشاركة الفعليّـــة في إنجاح المشروع التّربوي. ولكنّ ضعف هامش القرار الممنوح لهم والذي لا يتعدّى حدود ما يمكــــن أن نسميها بـ"الاستشارة الممنوحة" (المقيّدة) لهذه الهياكل الجديدة. في حين بقيت كلّ المسائل التّربويّة الرّئيسيّة تتولاّها الهياكل الإداريّة المدرسيّة والجهويّة والمركزيّة، وهو ما يجعل من هذه المجالس وكــــــلّ ما تصوّغه من تصوّرات أو ما تقترحه من مشاريع أفعالا صوريّة، وخالية من أيّ فاعليّة حقيقيّة في تنظيم المؤسّسة التّربوية وتسييرها.
2ـ إنّ تنصّل الدّولة من دورها الاجتماعي في التّربية والتّعليم يجعل مشروع المؤسّسة ومجالسها خاضعة لضغوطات المانحين والمموّلين ولإملاءاتهم، ويجعل من هذه الجهات المستثمرة في الحقل التّربــــــوي، هي الموجّهة والمحدّدة لخيارتها التّربويّة (البرامج الدّراسيّة، الزّمن المدرسي، نظام الشّراكة والتّسويق..). كما يفسح المجال واسعا أمام مظاهر المحاباة والمحسوبيّة والولاءات الشّخصية لأصحاب النّفوذ، ومن ثمّ تترسّخ في المدرسة قيم مدرسيّة جديدة مثل: الرّشوة، والنمذجة والانحلال الأخلاقي...الخ
مازالت البيئة المدرسيّة غير مهيّأة للإيفاء بشروط التّسيير التّشاركي. كما إن مؤسّساتنا التّربوية لا تتوفّر فيها إلى حدّ الآن اشتراطات التّغيير الفعلي ســــواء على مستوى الإداري والتّنظيمي أو على المستوى الثّقافي الرّمزي. فأغلب الفاعلين الاجتماعييــــــــــن في المدرسة من مدرسين وإداريين وأعوان تأطير متّفقون حول عدم مصداقية هذه الآليات الجديدة التي يكتنفها الغموض في مستوى التّعيين والأهــداف، وعلى أنّها لا تتوافق مع واقعنا المدرسي. فإذا وجدت هذه المجالس بالمؤسّسة، فإنّ دورها فــــي التّسييـــر لا يتوافق مع أهداف الإصلاح التّربوي. 
3ـ في ما يتعلّق بمنح الأولياء صلاحيّات أوسع ودورا أكبر في تصريف الشّأن التّربـــــوي: لاشكّ أنّ هذا الدّور لا يمكـــــن أن يثمر إلاّ إذا كان المحيط الحاف بالمدرسة سليما، وأداء هياكل المؤسّسة التّربوية متناغما ومتكاملا، وهو أمر مفقود في واقعنا الحالي. إنّه واقع لا يتعدّى دور الولي فيه القدح في الإطار التّربوي والمدرّسين خاصّة، والدّفاع الأعمى عن منظوره، ومحاولة تكريس منطق المحاباة وحتّى الضّغط والتّحريض في بعض الأحيان. لهذا فإنّ توسيع الهامش الممنوح للولي في ظلّ هذا الواقع يشجّعـــــه إلى التّمادي في الممارسة المتناقضة مع أهداف المدرسة وتصوّراته المغلوطة في الحقل التّربوي. فاستقالة الولي في أغلب الجهات، خاصّة بالمناطق الدّاخليّة والأحياء الشّعبيّة، عامل آخر يفرغ هذه الإجراءات الجديدة من كلّ محتوى، ويجعلها لا تتعدّى "الشّعارات الأيديولوجيّة" التّعبوية المفروضـــــــة على واقــــــــــع لا يحتملها. بحيث يقتصر حضور الولي على قلّة غير ممثّلة، تعبّئها أطراف خارجية- من خارج الحقل التّربوي- وتوجّهها لخدمة خياراتها-السّياسية- وبرامجها المستقبليّة.
4ـ  إنّ الفعل التّشاركي في الحقل المدرسي يتطلب هيكلة مدروسة لمختلف المتدخّلين في الحقل التّربوي أي لا بدّ من أن تعيد بناء آليات التّجديد التّربوي ووسائله التّنظيميّة وفق متطلّبات التّجديـــــد في مختلف مجالات المؤسّسة التّربوية. ويقتضي هذا التّجديد ضبط آليات العمل والموارد الممكنة واللاّزمة في إطار إستراتيجية عمل أساسها الواقعيّة والاعتراف بالآخر.
فجوهر الإصلاح التّربوي الجديد في مستوى تحديث آليات التّسيير للمؤسّسة التّربوية، وفي نظر أغلب الدّارسين العــــــرب، لم يكــــن في جوهره صادرا عن تمثّل موضوعي للحاجات التّربوية وتشخيص دقيق لنقائصه، بقدر ما جاء استجابة للامتلاءات الماليّة الدّوليّة، وتكييفا للتعليم مع حاجيات السّوق.
  لذلك بقي المشروع الجديد للإصلاح التربوي في وطننا العربي يتميز بـ:
1ـ انعدام أو ضعف المقاربة التشاركية وشكليتها في وضع مشروع المؤسّسة وفي تشكيل الفعل التربوي عموما، لأن الجهة الوحيدة المسؤولة على وضع هذا المشروع هي السّلطات العليا المركزية (الوزارة ) وبالتنسيق مع الإدارات الجهوية للتربية أحيانا،
2ـ غياب المشاركة في ثمرات هذا المشروع والقرارات وغياب فاعليتها وإنجازيتها لدى مختلف الأطراف المتدخلة في الحقل المدرسي (داخلية وخارجية) وغابت معها ثقافة تحمل المسؤولية لديها،
3ـ من العوامل المعرقلة لهذه المقاربة التشاركية أيضا هي عدم الالتزام بالقوانين والاستراتيجيات التربوية نتيجة هيمنة منطق الارتجالية، واكتفاء المسؤولين في هذا الحقل باعتماد قيم المماطلة والتسويق للمقاربات دون العمل على إنجازها في ظل غياب الشفافية والمساءلة ممـــــا أدى إلى تراكــــــم المشاكل والعجـــــز عن مواجهتها والفشل في إيجاد الحلول لها بشكل مباشر وحيني.
إنّ "المقاربة التّشاركية" ـ الدّاخلية والخارجية ـ في الحقل التربوي ترتبط بمسألة السّيطرة والنّفوذ، وقدرة مسيّري هذه المؤسّسات التربوية على وضع مشاريعها وتنفيذها وتقييمهـــــــا. وبالتّالي، فهي مرتبطة بمفاهيم إداريّة وثقافية وسياسية أخرى مثل اللاّمركزيّة، والتّمكين، والعمل عبر الفرق...الخ التي تستوجب واقعا مؤسّسيا وثقافيا مغايرا عمّا هو موجود في واقعنا المدرسي الحالي.
  فما يسمّيهم القانون بـ "الأطراف الخارجيّة" للمؤسّسة (الأولياء والجمعيّات والشّركات الخاصّة..) لم يستطيعوا إلى حدّ الآن في تونس، وفي الوطن العربي عموما، من الاندماج بشكل فعلي وصريــــــح فــــــي المنظومــــــــة "التّشاركيّـــــــة" الجديـــــدة، أو حتّى في السّعي إلى محاولة مأسسة تعاونهم معها. لذلك تبقى المساهمات المادّية مرتبطة ومتوقفــــــة على الميولات الشّخصيّة لهذه الأطراف وعلى خلفيّاتها السّياسية أيضا. كما تتوقف أغلب هذه المساهمـــات على بعض المناسبات المدرسيّة مثل: مناسبات الاحتفالات المدرسيّة عند افتتاح السّنة الدّراسيّــــــــة أو عند اختتامها (التّبرّع ببعض الجوائز والهدايا..). 
قد يكون عدم توافر صيغ واضحة لآليات الشّراكة الفعّالة بين مؤسّسات المجتمع المدني ومنظّماته والمدرسة أحد الأسباب الرّئيسيّــــــــــة في فشـــــــل هذه المقاربة. ولكنّ الأسباب الرّئيسة في شبه القطيعة بينهما تعود إلى معوّقات هيكليّة وسياسيّة وثقافيّة. 
 وعلى الرغم من أنّ مدارسنا تمرّ بمرحلة تغييـــــــر في ثقافتها الإداريّة سواء فـــــي مستـــــوى التّنظيــــم أو التّسيير، فإن هذا الانتقال مثلما يرى الباحث "عبد الوهّاب بن حفيظ"، جاء في شكل "طفرة". والمقصود بالطّفرة هنا هو الانتقال من مرحلة إلى أخرى من دون المرور بالمراحل الانتقاليّة الضّروريّة للتّغيير. فالانتقــــــــال من الثّقافة "الرّعائيّة التّقليديّة" (ماقبل الاستقلال) إلى"الثّقافة الخضوعيّة" ( الدّولة الوطنيّة) بمثابة الانتقال الدّائري، الذي بقي عاجزا إلى حدّ ما على إدخال الأجيال الجديدة إلى مستوى ثقافة المشاركة بشكل تراكمي.(12) فالثقافـــــة السياسيــــة في الوطن العربي لها تأثير كبير في المجال الاجتماعي والثقافي والتربوي بشكل خاص. والثقافة السياسيـــة في أي مجتمع هي التي تدفع الأفراد والجماعــــــات، إما باتجاه الانخراط في بناء المؤسسات، أو تدفعهم باتجاه اللامبالاة والسلبية(13).
 هناك شبه إجماع على أنّ هذا المشروع تعترضه عدّة صعوبات وتحدّيات حتى تتمّ أجرأته عمليّا بمؤسّساتنا التّربوية. فهناك فرق بين ما هو منتظر أو مؤمّــــــل من هذه الإصلاحات القانونيّة، وبين ما هو سائد فعلا في واقع حال هذه المؤسّسات. فقد تميّز الوضع التّربوي بـ:
◄ سيطرة الهياكل المركزيّة والجهويّــــة التّربويــــة في عمليّة اتّخاذ القرارات التّرتيبيّة والتّنظيميّة، ممّا حول "الصّلاحيات الاستشاريّة" لآليّات تسيير المؤسّسة، والمنصوص عليها في القوانين، ليست ذات فاعليّة حقيقيّة في تحقيق أهداف هذه التّغييرات،
◄ عدم التّحديد الدّقيق لوظائف مختلف الأطراف المتدخّلة في الحقل التّربوي ولمسؤولياتها، أنتج حالة من اللاّ مبالاة، وجمودا في العلاقات التّفاعليّة بين هذه الأطراف،
◄ إنّ جمود العلاقات الاجتماعيّة داخل المؤسّسة ومع محيطها الخارجي وعدم مرونتها (شفافيتها)، أدّى إلى ظهور عديد السلوكيّات والمواقف السلبيّة وغير المسؤولة أحيانا( منها ما هو مكشوف ومنها ما خفي) من قبل مختلف الأطراف الداخليّة والخارجيّة، التي تحولت إلى أشكال من المعيقات الذاتيّة والموضوعية أحالت دون تفعيل المقاربة التّشاركيّة في قيادة المدرسة من بينها:
(1) معيقات نابعة من المديرين (المركزيّين والجهويّين والمدرّسيين) أنفسهم الذين لم يتدرّبوا على الثّقافــــة التّشاركيّـــة في مؤسّساتهم، ومن خلال ميلهم الطّبيعي والثّقافي إلى استدامة الحفاظ على السّلطة والتفرّد بتحمّل المسؤوليّة في المؤسّسة،
(2) معيقات لدى مختلف الموظّفين وخاصّة منهم المدرّسين الذين يرون أنّ دورهم في المدرسة يتوقّف على مهــــــام التّدريــــس، وأنّ تكليفهم ببعض الصّلاحيات الإداريّة يعتبر في نظر أغلبهم عبئا تربويّا واجتماعيّا لم يألفوه سابقا،
(3) معيقات معنويّة: تشمل مختلف الأطراف المتدخّلين في الفعل المدرسي. فالأولياء في وضعيّة شبه مستقلّة كلّيا عن ما تشهده المؤسّسة التّربوية من تحوّلات. أيّ غياب المتابعة والشّعور باللاّمبالاة ممّا يحيط بمنظوريهم. أمّا المدرّسون فيعتبرون مشاركتهم في العمليّة التّربويّة لا تتجاوز حدود جدران فصولهم. 
 كما أنّ تواصل العمل وفق مقاربة"الرّقابة الأحاديّة" من قبل مؤسّسات الدّولة على هذا الحقل في مختلف مستوياته الإداريّة والماليّة والثقافية والرّمزيّة، سهّلت استدامة هذا الشّكل من الرّقابة في عمقها الاجتماعي والثّقافي، لتتجلّى بعد ذلك في مستوى الممارسات والتّفاعلات وردود الأفعال الموقفيّة ذات الآثار المهنيّة والاجتماعيّة في المؤسّسة التّربوية التّونسيّة. فالقوانين والتّشريعات المدرسيّة لم تعد تمثّل المحدّدات الوحيدة والرّئيسيّة لطرق اشتغال المؤسّسة، بل هي مجرّد وسائل شكليّة وصوريــــة لأنّ جوهر "التّجربة المدرسيّة"(14) ظلّ خاضعا إلى محدّدات ثقافيّة وقيميّة وإلى نظام العلاقات والتّفاعلات بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين. فهذه العلاقات والممارسات اليومية هي التي تحدّد المعاير التّنظيميّة للمؤسسة وآليّات تسييرها الفعليّة.
 
   الخاتمة
 
 على الرّغم من أن جميع الاستراتيجيات العربية لتطوير التربيــة منذ عام 1979 أكّدت على أنه لا يمكن تطوير المشهد التربوي والتعليمي إذا لم نتعقل الظاهرة المدرسية في جميع أبعادها الاجتماعية والمؤسساتية والتنظيمية، وأن لا نكتفي برصد مؤشراتها الكمية فقط، فإن من أبرز مظاهر الأزمـــــة التربويـــــة في مجتمعنا العربي مازالت قائمة وذات أبعاد اجتماعيّة وثّقافيّة وتنظيميّة وهي ناتجة كما يقول "بيار إيريك تيكسيي" ((Pierre Eric Texier عن "هشاشة أدوات التّسيير"(15) . وهذه الهشاشة ناتجة عن الخاصيّة الوقتيّة للمرجعيّات القانونيّة وارتباطها بالتغييرات السّياسية والأيديولوجية للدولة. 
إنّ ما شهـــــده نظـــــام التّربيـــــة والتّعليــــم، في ظل العولمــــة، من "إصلاحات" متتالية من حيث نزع المركزة في التّسيير، وعدم التّقنين، والتّبشير باستقلال المؤسّسات وغياب الضّبط عن البرامج، واعتماد مقاربات جديدة (الكفايات) وإقامة شراكات مع عالم المقاولة والمال وتشجيع التّعليم الخاص، تعبّر جميعها عن ظهور "ثوابت" أو "مبادئ" (des principes) جديدة في السّياسة التّربويّة تماثلا مع سياسات التّربية في أغلب دول العالم ذات النظام الاقتصادي الليبرالي. وكانت من نتائجها نتيجة غياب المعايير الواضحة في تقويم الإدارة المدرسيّة من حيث الأهداف وتحديد المسؤوليّات والمهام وأساليب التّسيير المتبّعة، وكلّ الإمكانيّات الفعليّة القائمة في المؤسّسة. وظل الغموض يسيطر على مناخ المدرسة من حيث قنوات الاتّصال والمعلومات والتّفاعلات. انّه مناخ سلبي تهيمن عليه مشاعر الشّك والرّيبة وغياب الثّقة المتبادلة بين الفاعلين داخل المدرسة ومع محيطها، ولعلّه كما قال"ريمون فايونكورت" Raymond Vaillancourt أصبحنا نعيش "زمن الغموض والضّبابية"(16) (Le temps de l’ambiguité)  لذلك، بقي هذا المشروع "التشاركي" حبيس إطاره المرجعي القانوني والنّظري والأيديولوجي، ما دامت أرضيّته المادّية والثقافيّة والنّفسيّة لم يتم تهيئتها بعد لاحتضانه شكلا ومعنى، فكرًا وممارسة. 
 
   المراجع
 
(1) جان زيغلر، سادة العالم الجدد، ترجمة محمد زكريا إسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2004.
(2) - المنظمة العربية للتربية والعلم والثقافة، استراتيجية  تطوير التربية العربية المحدثة، تونس 2006، ص88.
(3) - تستند الوثيقة في هذه المعطيات الى" الاستشارة الوطنية حول تونس القرن الحادي والعشرين(1996)، والتي تمت تحت شعار" تونس تصغي الى شبابها" شارك فيها حوالي100000 شاب ممن تتراوح أعمارهم بين 25و29سنة.
(4) - صدرت هذه الوثيقة تحت شعار " نحو مجتمع المعرفة" الإصلاح التربوي الجديد،و الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007، جوان 2002.
(5) أنظر الوثيقة المرجعية لمدرسة الغد، مرجع سابق، ص 7.
(6) - أنظر الفصلين 32 و36 من القانون التوجيهي، المؤرخ في 2 جويلية 2002..
(7) ـ  الأمر عدد 2437 لسنة 200 مؤرخ في 19 أكتوبر 2004 يتعلق بتنظيم الحياة المدرسية.
(8) - الأمر المنظم للحياة المدرسية، مصدر سابق، الفقرة الأولى من الفصل 13.
(9) الأمر المنظم للحياة المدرسية، مصدر سابق، ص 17.
(10) - الفصل 9 من الأمر عدد 463 المؤرخ في 3مارس2007، مصدر سابق.
(11) - تم تركيز هذه المجالس بالمؤسسات التربوية، خلال الثلاثية الأولى للسنة الدراسية2006-2007، بمقتضى منشور صادر عن وزارة التربية والتكوين تحت عدد75/1/2006 والمؤرخ في 26أكتوبر 2006. رغم أنه سبقه صدور منشور عن وزارة التربية والتكوين تحت عدد 9/1/2005 في 12فيفري 2005 ينص على بداية العمل بها خلال السنة الدراسية 2005/2006. 
(12) عبد الوهاب بن حفيظ، "تهافت الثقافة الرعائية ومأزق بيداغوجية الطاعة، ملاحظات حول التربية على المواطنة في العالم العربي"، ورد في "التربية والمواطنة في الوطن العربي"، مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس، كراسات المركز، خارج السلسلة، عدد4 تونس2005، ص88. 
(13) ت حسين علوان، إشكالية بناء الثقافة التشاركية في الوطن العربي، (سلسلة طريق المعرفة)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان ، الطبعة الأولى 2009ن ص12. 
(14) Cf. François Dubet, Les lycéens, Paris, Foyard, 1991. 
(15)Jaques Ardiano, Education et politique, Paris, Ed Anthropos, 1999, p.124 
(16) Raymond Vaillancourt, Le temps de l’ambiguité le contexte politique du changement, Presse de l’université du Québec, 2006 
————————