متابعات

بقلم
د.سالم العيادي
منتدى الفارابي : الّلقاء الفكريّ في " فلسفة التـّـآنس " مع الفيلسوف فتحي التّريكي

 افتتح منتدى الفارابي للدراسات والبدائل موسمه الثقافي بالتعاون مع المندوبية الجهوية للثقافة والتراث بصفاقس و كرسي اليونسكو للفلسفة بالعالم العربيّ ومركز ابن عاشور للتّنوير بلقاء فكري وفلسفي مع الفيلسوف التونسي فتحي التريكي حول ”فلسفة التآنس“ وقد ترأس اللقاء الذي جرى يوم الأحد  4 نوفمبر 2012 بقاعة الأفراح البلدية بصفاقس الأستاذ سامي براهم . 

وأن يُفتَتَح الموسمُ الثقافيُّ بالتّســـــاؤل الفلسفــــيّ عن أســـس " التّآنس " الأنطولوجيّة والمعرفيّة وعن تجلّياته الممكنة جماليًّا وإيتيقيًّا وسياسيًّا ففي ذلك غنمٌ عظيم للفلسفة وللثّقافة في آن. فأيّ غنم أعظم من أن ينفتح الحقلُ الثّقافـــيُّ علـــى الفلسفـــة في حلّها " الإشكاليّ " وترحالها " المفهوميّ " من جهة، وأن تلتحم الفلسفةُ من جهة أخرى بالوسط الثّقافيّ المتنــــوّع في مثل هذا الفضاء العموميّ ؟ وهل من قصد أجمل وأنبل من أن يكون هذا الالتحام وذاك الانفتاح مطلوبين لأجل مشروع إبداعيّ تنويريّ تحرّريّ ؟ 
لا ريب في أنّ التّلاقي الحرّ بين " الدّهشة " الفلسفيّة والوثبة الثّقافيّة الإبداعيّة ومشاريع التّنويــــر السّياســــيّ – الحضـــاريّ، هو من أهمّ مقتضيات الإصلاح الجذريّ للوعي والمناخ القيميّ ولواقع الإنتاج والتّبادل الماديّ والرّمزيّ. ولا معنـــــى للثّــــورة - في تقديرنا - إن لم تتحقّق شروطُ هذا الإصلاح الجذريّ، كما لا معنى للدّيمقراطيّة ما لم يتحوّل مطلب الإصلاح هذا إلى شأن عامّ ينخرط فيه التّونسيُّ بمقتضى مواطنته السياسيّة وبمقتضى كرامته الإنسانيّة. وقد يكون من فضائل الثّورة عندنا أنّنا قد اكتشفنا " استرداديًّا " أنّ تونس كانت دائمًا حبلى بمشاريع للتّفلسف والإبداع والتّنوير، وأنّ أنظمة الاستبداد والفساد هي الّتي كانت تُجهــــض هذه المشاريع وذلك بعزل النّخب الوطنيّة عن الشَّعْب وتحييدهــــا عن قضايا الشّأن العامّ. وقد أدرك أستاذنا الجليل فتحي التّريكي آليّات " الفكر الكليانيّ " مبكّرًا وأخضعها لعمليّة تفكيكيّة عميقـــة. وكان يدافع منذ التّسعينـــــــات من القرن الماضي عن " فلسفة التّنوّع " و " فلسفة المقاومة " ويبحث بجدّيّة الفيلسوف الحــرّ عن الشّروط الكفيلة بتحقيق الحرّيّة والكرامة. وقد أدرك الفيلسوفُ فتحي التّريكي أنّ الشّروط السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّـــة غير كافية بذاتها لتحقيق الحرّيّة والكرامة خاصّةً متى صارت مجرّد " إجراءات " يفرغها العقلُ الأداتيُّ الحسابيُّ من مضامينها القيميّة. وإذا كانت أزمة العقلانيّة اليوم تكمن في هذا الاختزال الأداتيّ للعقل وتوريطه في مشاريع الاستغلال والهيمنة، فإنّ الفلسفة لا يحقّ لها مع ذلك الانقلابُ العبثيُّ على العقل كما يدعو إلى ذلك أعلامُ الفكـــر ما بعد الحداثيّ، وإنّما عليها أن تعيد العقلَ إلى أفقه الإنسانيّ نظريًّا وعمليًّا. 
ومن منطلق الانتصار لعقلانيّة نقديّة تواصليّة منفتحة صاغ فتحي التّريكي أهمّ مفاهيمه الفلسفيّة وعلى رأسها مفهومي التّعقّــــــــــل والعيش - معًـــــا أو  التّآنـــس (Le vivre- ensemble) وذلك في سياق الكشف عن العمق الإيتيقيّ والجماليّ لحضور الإنســـان في العالم ولإقامته المشتركة في المعمورة. فما هي أهمّ المنطلقات الّتي استند إليها فتحي التّريكي في استشكال هذا المعنى الإيتيقيّ للعقل ؟ وما هي القرارات الفلسفيّة الأساسيّة الّتي اتّخذها لأجل التّحرّر من سلطة الأنساق الفلسفيّة المغلقة ؟ وفيم تتمثّل الرّكائز الكبرى لثقافة التّقدّم وفلسفة التّآنس ؟
هذه بعض الأسئلة الّتي عمّق أستاذنا الفاضل فتحي التّريكي النّظرَ فيها في محاضرته وكشف عن أبعادها الإشكالية المختلفة. ومن أهمّ الإشكالات الّتي أثارها فيلسوفنا وأهمّ المفاهيم الّتي اشتغـــل عليها في سياق بنائه لـ " فلسفة التّآنس " ما يلي :     
◄ الأسس الفلسفيّة للتّعقّل: " التّعقّليّة هي ارتباط العقل النّظريّ بالعقل العمليّ... تربط التّعقّليّةُ النّجاعة بالحقيقة بحيث لا تكون النّجاعةُ العمليّة مضادّةً للحقّ، لأنّها بهذا التّضادّ ستكون حسب الفارابي خبثًا ودهاءً " ولا ينبغي للحقيقة أن تنـفصل عن النّجاعة " لأنّها ستصبح عندئذ فارغة بدون جدوى". (انظر،العقل والحريّة. ص، 47 – بتصرّف -). 
أ -  تأخذ إشكاليّةُ العلاقة بين النّظريّ والعمليّ عند التّريكي صيغةً أخرى تبنيها قراءتُه النّقديّةُ للفلسفة المعاصرة، وهذه الصّيغة هي: كيف يمكن تجاوز الإميّة الزّائفة الّتي وجد العقلُ الفلسفيُّ نفسَه فيها اليوم: إمّا جيل دلوز أو هبرماس ؟ أي إمّا أن تكون الفلسفةُ تفكيرًا " خاصّيًّا " منسحبًا من فضاء الحوار العموميّ فتفقد الفلسفةُ بذلك صداقةَ " العموم " (حضورها في الواقع) وإمّا أن تكون عمليّة تواصليّة عموميّة باحثة عن اتّفاق ممكن بين الجميع فتفقد بذلك صداقة " المفهوم " (الصّرامة المعرفيّة). هذه الإمّيّة زائفة ومغلوطة في نظر التّريكي وذلك لأنّ صداقة العموم ممكنةٌ عنده دون إفساد صداقة المفهوم. بل إنّ الجمع بين الصّداقتين ضروريٌّ ما دام المجال الأمثل للتّفلسف هو مجال الحياة المدنيّة السّياسيّة. 
ب - وقد تبنّى التّريكي في بلورة فلسفة التّعقّل التّمييز الفارابيّ بين الفيلسوف الحق والفيلسوف البهرج: فالبهرج هو المفكّر المعزول عن النّاس والّذي يسعى إذا نــــزل من برجــــه العاجـــيّ إلى ممارسة الوصاية عليهم. " وهي حالة قد يتمّ تشجيعها سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا ". (انظر، تأصيل الحداثة وتحديث الكيان. مقال في مجلّة كلمات عدد 5 جوان – جويلية 2012.).    
◄ الأسس الفلسفيّة لـ " ثقافة التّقدّم " كما بلورها الفيلسوف فتحي التّريكي في كاتبه فلسفة الحياة اليوميّة (2009) هي إجمالا:
الحرّيّة: وتعني حقَّ الفرد في ألاّ يخضع إلاّ لقانون تمّ إقرارُه ديمقراطيًّا. وللحرّيّة أبعادٌ مختلفة تتكامل في تحسين الوضع البشريّ. ويستلهم التّريكي المعنى الفلسفيّ للحرّيّة من أعمال كانط الّذي كشف عن المقتضيات التّربويّة لتحسين الوضع الثّقافيّ والمقتضيات القانونيّة لتحسين الوضع المدنيّ والمقتضيات الدّينيّة لتحسين الوضـع الأخلاقيّ. يقــــــول التريكــــــي في هذا السّيــــاق: " فالتّربية والقانون والدّين هي وسائل ناجعة لتنمية إنسانيّة الإنسان بشرط أن تكون هي أيضًا مبنيّة على مبدأ الحرّيّة: تربية حرّة وقوانين تضمن الحرّيّة ودين حرّ يقبل حرّيّة الفرد ويعتمدها. ذلك ما يحتاجه الإنسان ليبلغ أقصى مستويات الإنسانيّة ".(ص.ص، 80-81)
المدنيّة: وتعني استقلاليّة الحياة المدنيّة عن كلّ العناصر الغيبيّة الّتي قد تكون ذريعةً للمهيمنة على الإنسان وتعطيل الرّشد العقليّ فيه. وتعني المدنيّة أيضًا تحقيق الشّرط الموضوعيّ لتجاوز الانفعاليّة الغرائزيّة الّتي قد تحوّل واقع الحريّة إلى حالة صراع مدمّر. فالتّذاوت والتّواصل الحرّ داخل المدينة يكون إمّا بـ " المحبّة التّسالميّة " أو بـ " المواجهة التّنافسيّة ".
التّعقّليّة: وتعني تجذير العقل في حياتنا العمليّة وفي اليوميّ دفاعًا عن إيتيقا العيش المشترك وما تفترضه من الإقرار المبدئيّ بالتّنوّع (ضدّ الهويّة الآحاديّة والاختلاف المحض في آن) والحرّيّة المقاومة (ضدّ اللامبالاة والانسحاب) والترحّل (ضدّ الإقامة النّهائيّة في نسق عقائديّ دوغمائيّ مغلق).
الغيريّة: وهي أساس الفلسفة التّقدّميّة المتجذّرة والمنفتحة في آن. فالغير يسكن الوعي منذ البدء ويكوّنه ويكشف عنه. وفي قلب الهويّة تقيم الغيريّة. وهكذا فإنّ الوجود في جوهره وجودٌ - معًا. وهذه " المعيّة " بعدً أساسيّ من الأبعاد الأنطولوجيّة المؤسّسة لمبدأ " الإحسان " القرآنيّ. غير أنّ الوجـــــود - معًا قد ينقلــــب إلى علاقة إقصائيّة عنيفة تصل حدّ التّحارب والتّقاتل. فما الحلّ لتجاوز هذا الإمكان الكارثيّ  ؟ 
    الإجابة عن هذا السّؤال تتكثّف نظريًّا وعمليًّا فيما يسمّيه الفيلسوف فتحي التّريكي بـ " فلسفة التّآنـــس " أي في ضــــرب من الغيريّة اختار أن يسمها بـ " الغيريّة المتسالمة " المستنـــدة إلى قيم التّوافق والتّواصل والتّآزر والضّيافة... وكلّ هذه القيم تعمل على بناء بديل عقلانيّ روحيّ ثقافيّ جماليّ يقطع مع العقل الأداتي الحسابيّ المنغلق. فكيف يتسنّى لنا تحرير فكرة التّقدّم من الدّور الذّرائعيّ الّذي لعبته لتبرير حركات الاستعمار والأنظمة الدّكتاتوريّة الكليانيّة ؟ وبأيّ معنى نحن في حاجة حيويّة اليوم إلى إحياء ثقافة التّقدّم ؟ وضمن أيّة شروط يمكن " أنسنة " التّقدّم ثقافيًّا وسياسيًّا وإيتقيًّا ؟
    هذه بعض الأسئلة الّتي عمل الفيلســــوف فتحي التّركـــي على استشكال النّظر فيها في محاضرته الافتتاحية في فلسفة التّآنس. فعسى أن تكون هذه الفلسفة أساسًا جماليًّا للإبداع الثّقافيّ وأساسًا إيتيقيًّا لمواجهة تنافسيّة ومحبّة تسالميّة في سعينا المشترك لبناء مشروع حضاريّ- سياسيّ تنويريّ تحرّريّ.