مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
الاقتصاد العالمي والمالية الإسلامية

 شهد وجه الاقتصاد العالمي طيلة العشرين سنة الماضية خاصة تحت تأثير العولمة المالية تغيرا عميقا فقد تطورت المعاملات المالية بين الدول أربع مرات أكثر من التدفقات التجارية وبلغت قيمتها اليوم خمس مرات قيمة المبادلات التجارية مما يبين بوضوح تبعية الأسواق و سعر الصرف الكاملة للتدفقات المالية.                            

كما تجاوز حجم رؤوس الأموال بكثير حجم احتياطات البنوك المركزية مؤكدا سيطرة حقيقية للدائرة المالية على الدائرة الفعلية "الحقيقية" للنشاط الاقتصادي بما هي إنتاج للقيمة المضافة  من جهة وعدم تناسبها من جهة أخرى معها بمعنى آخر أموال طائلة تتحرك لا يزنها إنتاج حقيقي متبادل مما يكشف طغيان في ميزان الاقتصاد العالمي لصالح المال وعلى حساب الإنتاج الحقيقي مما زاد من شدة المخاطر بازدياد المضاربات وتفاقمها وتنوع حجم المنتجات المبتكرة الخارجة عن المتابعة والمراقبة وتشعبها .                                                                                       
كل ذلك في إطار تسارعت فيه وتيرة العولمة المالية الناتجة أساسا عن الابتكارات المالية والانفتاح المالي و صعود فاعلين عالميين في الميدان مما أنتج  مخاطر عدوى متزايدة بين الأسواق وبين الدول كنتيجة طبيعية للاندماج المالي العالمي فأصبحت كل صدمة في الأسعار أو في السيولة في مستوى بلد ما ذات ارتدادات يصل مداها إلى العالم بأسره لذلك وغيره كانت الصدمات والاضطرابات التي عرفتها الأسواق المالية العالمية شديدة وانعكاساتها خطيرة على مستوى كل العالم وقد تتالت الأزمات المالية بدرجات متفاوتة إلى إن حدثت أزمة 2007-2008 والتي يمكن القول بأنها أصابت الأسس النظرية للعولمة المالية في الصميم وألحقت أضرارا فادحة بالأسواق المالية العالمية.                                                                                        
لقد كان لعدم الاستقرار المالي هذا انعكاسات سلبية وتكاليف اجتماعية واقتصادية عالية فقد تلاشت الكثير من الوحدات الإنتاجية وتفاقمت البطالة وتعطلت تنمية البلدان وتقلص  النمو العالمي عموما.                                                                         
لقد باتت حاجة المجتمعات الإنسانية المعاصرة اليوم مؤكدة إلى إثراء اقتصادي واليات تمويل جديدة تضع حدا للآثار الخطيرة الاجتماعية والبيئية التي باتت تهدد شروط استمرار الحياة على الأرض وترتهن بالتالي مصالح الأجيال القادمة.                     ولعل ما يلاحظ اليوم من انعدام الاستقرار الاقتصادي و المالي في العالم منذ السبعينات إلى اليوم وتعاقب  الأزمات المالية وما أحدثته من شرخ كبير لدى البنوك أضعفت الثقة في صلابتها وأثرت سلبا في قدرتها على القيام بدورها خاصة في التمويل الدائم للعملية الاقتصادية وما يشهده العالم من ظواهر سلبية باتت تهدد كيانه الاجتماعي  كالفقر و الإقصاء الاجتماعي و اختلال التوازنات خاصة الجهوية المولدة لعدم الاستقرار السياسي و الاجتماعي فضلا عن سيادة تصور تنموي بعيدا عن التمحور حول الإنسان كقيمة ثابتة و لا يأخذ كثيرا بعين الاعتبار كرامته المرتبطة شديد الارتباط بالعدل و الحرية كإطار و اقتصاره على البعد المادي الكمي و القيم الرقمية دون المعنويات و غياب القيم الأخلاقية كل ذلك يدفعنا إلى الإقرار بأهمية وحيوية إثراء المشهد الاقتصادي المالي العالمي بالماليةالاسلامية                                                  
 
لماذا المالية الإسلامية                                            
 
(1) لأهميتها المستمدة من أهمية الاقتصاد الإسلامي ذاته نظرا  لثراء تاريخه الفكري و جوانبه التطبيقية التي ساندت الحضارة الإنسانية طيلة قرون من الزمن  في مسيرتها الممتدة آلاف السنين ومن الأثر الإيجابي للمنتجات المالية الإسلامية على الاقتصاد الحديث و دورها في تخفيف جزء من الأزمات المالية التي تفتك بالنظام الاقتصادي السائد. فالصيرفية الإسلامية في طريقها إلى أن تكون منظومة متكاملة خاصة بعد أن أثبتت بعض جدواها في إيجاد بعض الحلول الملائمة للمسائل التنموية لمالها من قدرة على التصرف في المخاطر و الصمود أمام الأزمات المالية القائمة بما يعكس حاجات المجتمع و يحصنه ضد التصدع والاضطرابات ويكون إضافة نوعية خدمة للتنمية.                                                                                          
(2) بقاء المالية الإسلامية خارج الاضطرابات العابرة للقارات والغير محدودة  الأمد  والتي عرفتها البنوك والأسواق والمؤسسات المالية العالمية.تلك الاضطرابات كلفت هذه الهياكل خسائر فادحة وتراجع كإرثي في قيمة الأصول كما بلغت الديون الغير مسددة مئات المليارات من الدولارات.                                                
(3) تميز المالية الإسلامية نوعيا بإطارها الأخلاقي والقيمي في الوقت الذي يمر فيه النظام المالي الحالي بأزمة نوعية قيمية تعرف بأنها أزمة "ايتيقا" أو أزمة أخلاقية بمعنى انه نظام غير محكوم بما يجب آن يكون على عكس المالية الإسلامية المحكومة بالحلال أي بكل ما هو نفع للإنسان فردا كان أم في مجموعة وفي المقابل بالحرام أي المنع لكل ما هو ضرر بالإنسان فردا كان أم في مجموعة حسب التوجيه القرآني باعتباره هدي من خالق عالم بخلقه وبما ينفعهم وما يضرهم وله تجاههم إرادة التخفيف والتيسير والتبيين في إطار من الرحمة والمعية والنصرة.                                             
(4) تلاشي الثقة تدريجيا في المالية التعاقدية السائدة وفي المقابل بروز المالية الإسلامية في الأسواق بمنتجات مبتكرة وجديدة ترتكز على الثقة كقاعدة ذهبية محمية نسبيا ب"تقوى" المؤمنين بجدواها والمتعاملين بمنتجاتها هذه "التقوى" مصطلح محوري جامع في التصور الإسلامي يجمع بين الاستشعار والعمل والموقف والحالة والإرادة استشعار هؤلاء المتعاملين مراقبة الخالق أولا وعمل النفع في الأرض واجتناب الضرر ثانيا وموقف رضا بالنتائج ثالثا وحالة من الاستعداد للمحاسبة والمسائلة رابعا وإرادة التواضع في الأرض وعدم الفساد فيها خامسا .                                             
تعتبر "التقوى" العلاقة المطلوبة بين الإنسان وخالقه باعتباره الخالق لموارد الثروة من مواد أولية وبشر وإطار مكاني وزماني للعملية الاقتصادية برمتها كما أنها تنبع من مسلمتين اثنين شكلتا منطلقا لكل الدعوات التوحيدية على امتداد التاريخ البشري من  آدم مرورا بنوح وإبراهيم ثم موسى وعيسى وصولا إلى محمد عليهم السلام مما يكسب هاتين المسلمتين بعدا عالميا خاصة إذا علمنا أن أتباع هذه الدعوات يشكلون اليوم أكثر من ثلثي البشرية .                                                                             
والمسلمتان هما :                                                                             
◄(اولا) الاعتقاد  في جود اله واحد له المثل الأعلى في إتقان الصنع لكل شيء وفي حسن تصوير الإنسان وكذلك في قضاء حاجاته "الصمد".                                       
◄(ثانيا) الاعتقاد في حتمية اليوم الآخر كيوم للمسائلة والمحاسبة وما يمثله أولا من دافع لفعل النفع للفرد والمجتمع رغبة في طمأنينة القلوب والحياة الطيبة المشفوعة ب"الجنة" كنعيم ابدي وثانيا كرادع عن الانحراف في التصور والممارسات أي يدفع لعدم إلحاق الضرر بالنفس و/أو بالأخر وعن انتهاج نهج الفساد خوفا من أن يعيش الإنسان و/أو المجموعة عيشة ضنكا (عيشة أزمات) وتحصنا من النار وويلاتها.                                         
 إن "للتقوى" أهدافا نرى أن البشرية اليوم تلتقي معها بحثا عن تحقيقها فالتخلص من الأزمات بوجود مخارج لها ومواجهة الفقر بالحصول على الرزق وتيسير أمر الأفراد وكذلك المجتمعات كلها حسب آيات القرآن (حججه وأدلته) مكفولة ب"التقوى".              5* تزايد حجم الأصول المتصرف فيها اليوم في العالم لدى المؤسسات المالية حسب مبادئ الشريعة الإسلامية لتتجاوز ألف مليار دولار وهذا التزايد مستمر حيث تشير التقديرات إلى أنها ستصل سنة 2016 . 1800 مليار دولار.                              90 بالمائة منها تتمركز في دول الشرق الأوسط وماليزيا وتسجل نموا سنويا يفوق 15 بالمائة وقد مثلت هذه الأصول ولا تزال سواء من حيث الحجم أو نسبة الزيادة موارد معتبرة لفتت انتباه الكثير خاصة الفاعلين في الأسواق المالية العالمية  .
6* إن ديمومة و استمرار العملية التنموية المتعددة الأبعاد بما هي توفير لشروط الكرامة لكل الأجيال و على كل المستويات(بيئة - صحة – نفس).في حاجة الى المالية الإسلامية نظرا لما تتوفر عليه من أدوات تمويل تشاركي ومتواصل كالتمويل الأصغر و موارد الزكاة و الصكوك التي يمكن توظيفها في مشاريع غير بنكية أو خارج مجال النظام المالي السائد يستفيد منها مئات من ملايين البشر الذين لم يلبى النظام السائد حاجاتهم في التمويل وبقوا على هامشه وهامش العملية التنموية سواء على صعيد المشاركة او على مستوى التمتع بنتائجها . كما أظهرت المالية الإسلامية ابتكارات جديدة ظهرت في شكل منتجات مالية متنوعة تستجيب لبعض ما تتطلع إليه المجتمعات و تمكنها من رفع التحديات التي تواجهها و هي تشهد تحولات اجتماعية و سياسية مهمة كما تعرض المالية الإسلامية  فرصا للتنمية الجهوية و لمواجهة الفقر و التهميش و الإقصاء الاجتماعيين.                                                                        
 
مبادئ المالية الإسلامية      
                                           
ان فاعلية الرؤية الاقتصادية الإسلامية و نجاعة ماليتها محكومة بمبادئ القانون الإسلامي أو "الشريعة" المستمدة من "القرآن"(كتاب الله لكل الناس وهدى للمتقين) ومن "السنة" (أقوال وأفعال الرسول محمد عليه السلام) التي ترتكز عليها.
ومن هذه المبادئ يمكن التأكيد على ما يلي:
1* الإنفاق محرك للعملية الاقتصادية والعامل الحاسم للثروة: 
◄بلا إسراف لما لذلك من استنزاف للمنتج دون تحقق للهدف من الاستهلاك ذاته لان الإسراف يبدأ مباشرة بعد تحقيق الهدف الاستهلاكي للإنفاق
◄ولا تقتير و/أو اكتناز لما لذلك من تعطيل للدارة الاقتصادية . 
يعتبر الإنفاق( قوام بين الإسراف والتقتير) تجسيدا عمليا لفكرة العطاء التي يرتكز عليها المشروع الإسلامي عموما والمشروع المالي الإسلامي خصوصا والعطاء هذا تيسير لليسر بما هو حالة حياة يسيرة وميسرة إذا اقترن بالتقوى وكذلك بالتسليم بحتمية اليوم الآخر كما وعد بذلك خالق الإنسان"فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى"(الآيات 5-6-7-8-9-10 س الليل)
2*   تحليل البيع وتحريم الربا "...واحل الله البيع وحرم الربا..."(آية 275 س البقرة). 
ليس البيع كالربا فالبيع يعطي معنى للعملية الاقتصادية وهو ضمن الأنشطة الاقتصادية الأساسية بينما الربا هو شكل من أشكال استغلال حاجة المحتاج وكذلك شكل من أشكال استغلال حاجة المجتمعات للتمويل وهي تبحث عن موارد لإحداث التنمية في بلدانها. وهو كذلك كسب بدون مقابل أي دون اى إنتاج فعلى فهي طريقة ملتوية لتوزيع الثروة قائمة على أموال الناس بدون وجه حق وتتعارض مع مبدأ انسيابية الدارّة الاقتصادية.
فالربا هو كسب مقابل وضع كمية من المال على ذمة من يحتاجه بينما تؤكد نصوص الإسلام على ان المقابل لا يمكن إلا أن يكون لعمل فعلي. إن تحريم الربا يعتبر ركيزة المالية الإسلامية وكذلك قاعدة لمختلف التقنيات البنكية ومنتجاتها المالية.
 3* تحريم "الغرر" لأنه مشبع بالشك والريبة وما يعنيه ذلك من غموض وعدم القدرة على التحكم فيه وكذلك تحريم الميسر لأنه ليس نشاطا اقتصاديا بقدر ما هو لعبة حظ.
4* إقامة الوزن وعدم الطغيان فيه : سبق أن مهدنا لهذا المقال بالتأكيد على أن  المالية التعاقدية المعتمدة أفرزت هوة كبيرة بين الدائرة المالية والدائرة الفعلية الحقيقية كشفت الطغيان الحاصل في ميزان الاقتصاد  العالمي لصالح المال وعلى حساب الإنتاج الحقيقي وما كان له من نتائج خطيرة عصفت  بالأسواق المالية و ما عرفته من زيادة المخاطر و المضاربات وتنوع حجم  المنتجات  المبتكرة الخارجة عن المتابعة والمراقبة وتشعبها كل ذلك يجد علته في عدم ارتكاز العمليات التمويلية إلى سلعة حقيقية أو عمل محدد .
أما التمويل الإسلامي فانه على نقيض ذلك تماما حيث انه يفرض أصلا ملموسا ولا يعتبر التمويل عملية شرعية إلا إذا استندت إلى سلعة حقيقية أو مقابل عمل محدد.
لا يقتصر النظام المالي الإسلامي المنشود على مجموعة من المبادئ والموانع بل هو كما ذهب إلى ذلك المنتدى الأول للمالية الإسلامية  الذي عقد بصفاقس يومي 22و23جوان2012 تحت إشراف كلية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس نظام متحرر من الفائدة وأخلاقي وكذلك مسئول اجتماعيا فالمالية الإسلامية تعتبر الإنسان والبشرية عموما في قلب نظامها وبالنسبة لها الإنسان هو القيمة الأساسية وحقه في الكرامة مسالة جوهرية فهي مالية إنسانية بالأساس في تناغم مع إنسانية الإسلام ككل كما أنها تتوجه لكل الناس قضاء لحاجاتهم في انسجام أيضا مع طبيعة الإسلام العالمية وتقربا إلى الله "الصمد"أو قاضى الحاجات.