كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
الوطن.... الصيّادون والذئاب

 بعد الرابع عشر من جانفي،  ﺫُكِرت لنا قصة ثلاث إخوة، من حاضرة تونس وما جاورها وما تابعها ،مختلفي التوجهات والرؤى والمنطلقات،اتفقوا ﺫات يوم من شهر أكتوبر(18) على مواجهة الاستبداد ،بالوسائل السلمية وبكل أساليب النضال ،من اجل دحره وإدخاله الجحر اﻠﺫي يستحق أن يكون فيه ، وبعد تشاور واﺧﺫ و عطاء، فيه التنازل الشيء الكثير والتعاطي الايجابي ، من اجل اﻠﺫهاب جميعا في نفس المسار و لنفس الهدف، لان المرحلة تتطلب ﺫلك ،وكان الإجماع وقتها،  الدفع بكل الطاقات الممكنة، للوقوف جماعة ضد المستبد و بطانته ومشاريعه ،دون اختلاس النظر إلى السلطة ومراكزها ونفوذها، فالسلطة تغري وتغوي، والمال أيضا، ولهم من التاريخ نظر و عبر ، ولهم في يهوﺫا الاسخريوطي(الذي باع معلمه بأرخص الأثمان، فخسر الاثنين) نموذجا حاولوا جاهدين الابتعاد عنه، ولو أن فيهم، من كانت نفسه تختانه، ليمد حبل الود السري مع النُطٌاق والمتكلمين باسم المستبد الجاهل . لكن ولان الثورة جاءت على حين غرة، بعد تصحر خاله البعض موتا ويئس الآخر من فعل شيء ، دفع كل منهم من طاقته وعلاقاته لتأخذ  الثورة مسارها وتبلغ مداها، لكن الملل تسرب للبعض منهم، وخصوصا وان لكل منهم توابع وزوابع ،فمنهم من حسم الأمر بان لا صلاح ولا إصلاح للفساد وان هذا النظام  لا يٌصٍلح ولا يٌصلَح، وآخر اخذ العصا من بعد الوسط، لم يعطي شرعية لنظام فاسد، لكنه لم يدفع بكل طاقته، حتى لا يتحمل العبء الأكبر إن أخفقت الثورة، علما وان جراحه لم تندمل في ذلك الوقت،  والثالث حاول أن يدخل يديه إلى المغارة  ويتواصل خلسة مع الاستبداد، ويمده ليلا من 13 جانفي بحبل سري للنجاة، على أن يتعهد الفساد بالإشراف على الانتقال السلمي للسلطة في 2014، مع علمه وخبرته بان هذا الفساد ليس له دين ولا عهد ولا وعد (وهل كان يوما للثعلب دينا).

وذكر، أن الثالث، وبعد أن اطمأن، من كتمان سره على إخوته، خصوصا وأن الثورة جرفت الرأس الفاسد، ولم تبلغ بعد إلى شرايينه وعروقه، انتقل أولا من التواصل السري، إلى ممارسة المهنة جهرا مع بقايا من شاركوا المستبد حفلاته، ومارس مهنة أخرى معها، كإطفائي، يبعثه من يشعل الحرائق كي يطفئها، في لعبة التلهي والإتعاب. ولأن المهنة الجديدة كانت ممتعة وفيها تلميع مجاني للصورة، للصيرورة وللمستقبل، ولان الكرسي مغري وجذاب، انجذب هذا الكائن الحي الذي له رأس وقبعة، إليها انجذابا لا فكاك منه، وكانت الجاذبية أقوى حتى من الجاذبية  الفيزيائية كما فسرها نيوتن، وعوض أن يخربش المغارة قبلا ويفتحها أكثر، ادخل رأسه فيها، والنتيجة هي أننا تحصلنا على جسم وقبعة دون راس، ومَثلُهم كمثل ما ذُكر من قبل رسول حمزاتوف في إحدى رواياته الرائعة عن الصيادين الثلاث وذلك بأنه " عرف ثلاث صيادين بوجود ذئب يختبئ في الوادي غير بعيد عن القرية فقرروا اصطياده وقتله . سرت بين الناس روايات كثيرة مختلفة عن صيدهم الذئب .....
حين طورد الذئب اندس في مغارة لينجو بنفسه من الصيادين، لم يكن للمغارة إلا مدخل واحد، وكان هذا المدخل ضيقا جدا مثل مدخل السلطة، لا يستطيع أن ينفذ منه إلا الرأس وحده، اختبأ الصيادون وراء صخرة، وحوَلوا بنادقهم إلى مدخل المغارة، واخذوا ينتظرون خروج الذئب من المغارة، لكن الذئب لم يكن غبي على ما يبدو،  فظل بكل هدوء داخلها، يعني هذا، أن الخاسر سيكون ذلك الذي سيمل الهدوء والانتظار قبل غيره،وأدرك الملل احد الصيادين ،فقرر أن يندس بأي شكل كان في المغارة ويطرد الذئب منها(مثل أخينا السابق) ،فاقترب من الكوة ودس رأسه فيها ،"صمت المقدم وفغر فاه المشاهدين كأن على رؤوسهم الطير "< ظل الصيادان الآخران فترة طويلة ،يراقبان زميلهما مستغربين ،لماذا لا يحاول التقدم أو على الأقل سحب رأسه ،و أخيرا ملا هما أيضا الانتظار ، فاقتربا منه وهزاه، فإذا هو دون راس . 
 فماذا حصل...؟
<أخذ الصيادان يتساءلان:هل كان لزميلهما الصياد راس قبل أن يندس أم لا ؟
احدهما قال:انه كان لديه على ما يبدو رأس،قال الثاني :انه لم يكن له على ما يبدو رأس >
قال الراوي ربما و قال  القراء انه وعلى ما يبدو كان له ثلاث رؤوس .
< حمل الصيادان الجسم دون راس إلى القرية واخبرا أهلها بما جرى، قال احد الشيوخ: نظرا لان الصياد اندس، قاصدا الذئب فانه لم يكن له راس منذ أمد بعيد، وربما منذ ولادته.
وانطلقوا إلى زوجته المترملة يستوضحون الأمر، قالت:- من أين لي أن اعرف إن كان لزوجي رأس، كل ما اذكره هو انه كان يوصي كل عام على قبعة جديدة >
ولما انتهى  الكلام ،  وانصرف الناس يجوبون ربوع الوطن، وعلى الصورة التي يعرفها عليه الجميع، بمن فيهم الصياد، الذي لا ندري أبرأس دخل المغارة أم من دونه، و هل كان يوصي كل سنة على قبعة جديدة  لان له راس أم لأنه ليس له راس ،  فكر الجميع و في نفس اللحظة و اقتنعوا " الذي له رأس والذي ليس له رأس"بان كل واحد منهم ، فهم ومنذ صباه، انه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلا لشعبه بقبعة أو بدونها ، برأس أو بدونه، وذكرهم الشيخ بأن على كل منهم، قبل أن يشهر الخنجر في وجه شعبه، ينبغي عليه أن  يعرف أن حده قاطع ،وان أي إنسان في حاجة إلى عامين ليتعلم الكلام، والى ستين عاما ليتعلم الصمت ،وان في بعض الأحيان الكلمة احد من الخنجر، وان الواقعية هي حين ندعو النسر نسرا لا حينما ندعو الديك نسرا،وكذلك من الممكن أن يكون أي منا تقدميا، لكن دون موهبة و رؤية، وان العاقل يطلب من جاره أعواد ثقاب كي يضرم النار في موقده ، أما الأحمق الجاهل الذي ليس له رأس، يطلب من أصدقائه أعوادا تضرم النار في القلب في الوطن ،في الزيتون في النخيل في العنب،في القمح في الشعير ،في الخبز في الخميرة ،وقيل من قبل أن سم الأفعى يمكن أن يكون ترياقا إذا كان في أيدي ماهرة ، وعسل النحل يمكن أن يكون سما إذا كان في يدي أحمق .
وفي انصرافهم هذا جاءهم طفل يسأل هل ضربتم يوما، الذي ليس له راس ،قال البعض: نعم بالأحذية وقال آخرون بالقبضة فقال الطفل كان يجب أن تضربوه بالقفل ،فقال آخر مازحا ،ضربناه بالصندوق ،فسألهم الطفل إذا أين ضربتموه ومتى، فقهقهت الجماهير وقالت، في الأماكن الرخوة من الذاكرة،وفي مكاتب الاقتراع يوم  23  أكتوبر،قال الطفل نعم فرأسه هو المذنب الأكبر .
وفي فترة الانتقال ومع حكومة تسيير الأعمال، توجه الحكماء بالقول، إلى الذين تاهوا مع الزمن في زحمة أزقة الوطن ،إلى المنهكين والمتعبين من الجري وراء قطعة جبن وربع خبزة وبعض تراب من شوارع الوطن ،إلى الحالمين ، كل ليلة ، بان يصبحوا وقد عثروا على مساحة في الفضاء المعتم ، إلى الكادحين و الصامتين، الذين تشغلهم حياة ساعة على صناعة كفن ، إليكم ، إلى أبنائكم ، إخوانكم ،أخواتكم،أصدقائكم وصديقاتكم ،إليكم والى مهجكم ،عليكم تطوير ذاتكم وإبراز طاقاتكم والحرص على العمل، لأنه معكم وبكم يبنى أحلى وطن ،انتم الصمام الذي يحمي من انحراف الزمن ،وانتم القناديل التي تضيء دروب الأطفال و الأيامى وكبيري السن .
انتم الأمل، والعزم الإصرار و الشجن ،من بين أظافركم ينز قطر الندى، ليسقي المجد على مهل ،وعلى صدى نجواكم ينحصر الخوف، وعلى خطاكم يسير الوطن ،طاقاتكم كبلت و دجنت من قبل، و الآن لم يعد أمامكم من سبيل، إلا التحرر و التحرير، لتجميع الطاقة، لان البناء استحقاق كما الشغل والغناء والعزف المنفرد .
وإياكم والغفلة ، فالحكام دائما ما ينتظرون الغفلة منكم ،كي يسرقوا الكراسي التي سلمها الشعب لهم، ويضعوها على ذمة الأبناء والأصهار والأقرباء والخدم ، و سيجدون من يسهل لهم ويخدمهم في ذلك، بالرأس أو بدونه،بالقبعة أو بدونها ،بالقفازات أو من دونها ،وعوض أن يدخلوا ومن معهم، من أبواب الوطن ، دائما ما يحاولون إدخال الوطن، من ثقب الحداثة أو العائلة أو الشركات، علهم بذلك يخلدون كمن كان مثلهم من قبلهم من أباطرة الدول .
إليكم، والى الذين لم يعد لهم رؤوس، والذين لهم رؤوس وليس لهم عقول ،والذين لهم عقول ولا يسكنهم قلب الوطن، هذه لكم علّكم تسترجعوا وتعودوا لتعزفوا ألحانا يفرح الشعب بها يوما بعدما أراد الحياة والنماء.
<القلب نفسه تستهدفه الرصاصة والوردة .
والوجه نفسه تأتيه الضحكات و الدموع.
والشفاه نفسها تذوق السم والعسل.
وفي السماء نفسها تطير الصقور والحمام.
وفي العش نفسه ،في الغيمة السوداء نفسها تنبثق النار والماء.
وعلى المسمار نفسه تعلق ألقيثارة و الخنجر >
والساحات نفسها فيها المعتصم والمتربع على الأرائك
والتأسيسي نفسه فيه الرؤوس والفؤوس.
والتاريخ نفسه ذكرت فيه الحضارة والحظائر.