بهدوء

بقلم
د.محرز الدريسي
”الوسطية“ المفردة التونسية الجريحة

 إذا قبلنا الثورة كخطّ افتراضي فاصل داخل ديناميكيات الساحة السياسية التونسية بين ما قبــــل وما بعد، نجد أن الوسطية ارتفعت أسهمها في سوق الدعاية الحزبية وتكثفت كفكـــــرة جذابــــة وواعــــدة إلى حد تحولها إلى شبه عقيدة مغرية أو كأنها مفتاح سحري لمعضلات الفكر السياسي والممارسة السياسية، مانحة صكوك البراءة والطهارة والعذرية المزيفة. فكل الأحزاب السياسية – بلا استثناء- تدّعي الوسطيّة وأنها تمثل الوسط، وكل الأطياف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بأدوات التحليل "الساذج" و"اللاواقعي" تدّعي التموقع في المنطقة الوسطـــى، بل يمكن أن نضيف برحابة صدر السلفية ومجموعات الحنين إلى الماضي القريب، ولما لا المجموعات التروتسكية والفوضوية المتشظية.

نحن إزاء مربع ضيق تتصارع حوله ومن أجلــــه، لا فيه، مختلف الحساسيات والاتجاهات والمرجعيات، الكبيرة والصغيرة، الساكنة فـــي وسائــــــل الإعــــلام أو المقصية عنه، ما السّر في هذا الشّغف بشعار الوسطيّة؟
يمكن أن نقترح ثلاث إجابات: 
◄الوسطية مفهوم ثقافي مترسخ في اللاوعي الجمعـــــــي ويتخــــــــذ مضمــونــــــــــا حضاريــــا، بأن  "الوسطية"هي الاعتدال " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة 143). 
◄الوسطية تعبّر عن تمثّلات تاريخية وسلوك مجتمعي ينزع نحو الاعتدال ورفض التطرف والميل نحو البروز في صيغة المعبر عن الإيقاع التونسي، والمرونة التونسية.
◄تضفي الوسطية نوعا من الجمالية والجاذبية السياسية على من يصرّح بها  ويرتديها، وقد تقرّبه من "الشعب الكريم" وتبعده عن "الشيطان الرّجيم". 
إن مساءلة مفهوم الوسطيّة ومحاولة استجلاء مضامينها، تحيل إلى "التونسيين" وأن الوسطية مرادفة للتونسة، فالتونسي مهووس بالوسط الهندسي أو منطقــــة الوســــط، حيـــــث يزدحــــم الجميــــــع في هذه المساحة الضيقة للاحتماء من مخاطر الاتهامات وهول الحصول على الفتــــات. والتقوقـــع في هذه السائدة أمر مريح ومطمئن، تصل إلى حدّ "الشنقة مع الجماعة خلاعة"، بمعني أن الموت الجماعي ليس إلا سياحة !  دون أن  ننسى "عشرة الحاكم" أي الرضا بنصف العدد، أو نصف الحق خير من غياب الحق كلّه.
إن التونسي من خلال مساراته التاريخية وتجاربه ينبذ القصووية، لذا تسعى الأحزاب إلى استلهام واستثمار المخيال الشعبي معلنة الوسطية منطلقا وأسلوبا ومنهجا. هذه الممارسة البكماء يجعلها تحتكّ بنوع من الايكولوجية السياسيــــة البعيـــدة عن التلوث والملِوث والملوَث، وتقدّم لنا أفكارا "معلبة"، أو تدخل في الفعل البيو سياسي والنضال السياســــي "المعتـــدل" والبعيد عن التطرف والأقطاب المذببة. وتقرّ بأن خياراتها وإستراتيجياتها وسياساتها منتج أصيل من بلادنا ومن صنعنا، فهي مرنة ومطواعة وسهلة وميسّرة، وأنهم القادرون على نفع البلاد وإخراج العبــــاد من ظلمات الاستبداد إلى نـــــور الديمقراطيـــــة وجنـــان الحريّة. وأن برامجهم لا تحتاج إلى تفصيل بما أنها على الوسطية مشيّدة وبالاسمنت المسلّح مترسّخة، وخططهم جليّة وشفافة وإلى ضعفاء الحال مشتاقة. وأن سياستهم مرحة، وللعنف مستثنية وبقلوب التونسيين متشبثة، ولما يهواه التوانسة مهفوفة ولما يكرهونه مغروسة، أما إيديولوجيتهم فهي مشهورة وفي القرآن مذكورة. 
هل تقدر الوسطية على احتضان كل هذه الهجرات المباشـــرة وغير المباشرة إليها؟ هل تقدر على استيعاب كل الألوان والتلوينــــات؟ هــــل إن الوسطيــــة "فكـــرة" حقيقية أم أنها الفكرة- السراب؟ ماذا تختزن من أفكار واقتراحات؟ وهل تثير الوضوح أم الغمــــوض؟ هــــل هـــــي مفهــــوم مرآوي وشفـــاف؟ أم أنها مفهوم ملتبس ومخادع؟ الوسطية ضدّ من؟ من المتطرّف؟ من المقصي من مربع الوسطية؟
إن الوسطية كفكرة وكمنهج وكقيمة أُفرغــــت مـــن محتواهـــا ومن مخزونها الثقافي والسياسي، لا تعبّر عن وضوح في الفكـــر ولا وضوح في السياسة ولا وضوح فـــــي الفعـــل، إنهـــا مفهوم بلا مضمون، فحين تختلط المفاهيم وتتداخل السجلات وتتخربط الأدوات، لا نجد إلا "قشريات" ناصعــــة. وإذا أردنـــا أن ندخــــل في ما بعد القشرة أو ما تحتها لن نكتشف إلا تعويضا عن غموض الرؤية وموارة فقر الأدوات وتغطية عن انحصار الأفـــق و تمويــه عن جذور بلا امتداد، وحاضر بــــــلا مستقبــــل وبحثـــا عن وهــــم أو فنطازيا. فالوسطية كعنوان سياسي أو إيديولوجـــــي أو ثقافـــي أو سياسي أو اجتماعي فارغـــــة من كل مدلـــــول، وأنها لا تحيل إلى وقائع أو حقيقة أو واقع أو فكرة محددة. لقد تحولت إلى رداء يخفي الخيارات ويـــــوارب الإستراتيجيـــــات، ويحـــول الأحزاب إلى سطوح بلا أحجام ومساحات إقليديــــة بلا سمـــك ولا عمــــق. كما صارت ملجأ "سعيدا" و"آمنا" للهروب من الأعين الناقدة والاستثناء الشعبي ومداعبة للحس العام واحتماء بالمتفق حوله شعبيا وللمقبول مجتمعيا.
انطلاقا مما عايناه ومارسناه وتابعناه وقرأناه، تبدو الوسطيــــة قد استنزفت في الأشهر الفارطة كخطاب طوباوي في انكماشــــه كما في تبرجه، فهي لغة لا تعكـــس فكـــرا ولا برامـــج، وعناصر انطلاقته لا تنفع بل تضر، يعمـــي ولا يُوضح ويطمس ولا يكشف. وتنقلب الوسطية مع عرابيها ووسطائها إلى يافطة غامضة لا تُبرز ولا تُشير، وإنما تعزز "بهامة" العديد وتزيد.
وبلغة مهذبة نقول أن الوسطية كعنوان سياسي مغلق لا يثري الجدل السياسي ولا يُؤطر التنافس ولا يساهم في الارتقاء بمفاهيم الفكر السياسي فــــي بلادنـــــا ولا يطــــور الحـــراك السياســـي، هذه الممارسات المصطنعة والعبارات الفارغة لا تمهد إلى بلورة فضاء سياسي فكرا وقيما وسلوكا بنائي وإيجابي، ولا تدفع إلى الانخراط  في تجويد العمارة السياسية كدعامة وسند صلب لمناخ سياسي سليم ومتوازن. إن الوسطية لا تعني إلاّ غياب الفردية وغياب المشروع وانسداد للأفق، والوسطيّة مقارنة بماذا؟ وإحالة لأي شئ؟ وبالنسبة لمن...؟
إن الوسطية "المعلبة" و"المستوردة" من قاع التاريخ البعيد أو القريب أو المنبت تتحرك على تخوم الفكرة وتلعب أمام مسرحيّة موت الإيديولوجيــــة، فهي مناورة ومواربة، لا تدقق الحدود ولا تضبط الألوان. إنها تعمّق الجروح بالحفاظ على الغموض وتداخل الخطوط وتضرب التوافق بما أنها تعتمـــــد على "الماسك" (القناع) لا على توصيف الحقيقــــــة أو الوقائع، تهاوى قناع الوسطية لأنه لا يعني سياسيا شيئا، وإيديولوجيا خاويا، إنها مفاهيم متيبّسة ومنها الألسن الخشبيّة. والوسطيّة تحرّف الرؤية وتخلّط الأوراق، وليست إلا تغطية للعري السياسي بأسمال ممزّقة وبخيوط ذهبيّة مزيّفة، إنّها وسطيّة كاذبـــــة ضدّ الذكاء وضدّ الانتماء الجماعي. 
وما ضُخّم دعائيّا ليس إلا مفهومـــــــا متكلّســــــا، لابدّ أن يلقي به في سوق" الخردوات"، وعلى الفكر السياسي لدى طبقتنا السياسية  أن يغادر طفولتــــه وأدواتــــــــه المَاقبْـــــلَ تاريخيــــــة والتي لا تتغـــذى إلا من رحيق إيديولوجي "منعش" مطمئــــن لا يبني الخيارات ولا ينشئ السياسات ولا يعزز القدرات. والوسطية لا تحيل إلى تاريخ أو مرجع أو دلالة رمزية، بل مفردة تونسية جريحة، ليست مفهوما ناجعا، هي مفهوم غير إجرائي ولا قابل للأجــــرأة في التحليل والتشخيص والاستشراف. نحن نحتاج إلى شبكة دقيقة من المفاهيم القادرة على توصيف دقيق للمشهد السياسي وحوامل تنزع للاستشراف وتقديم إشارات طريفة سليمة المنطلق والرؤية والأسلوب. ذلك أن الممارسة السياسية ليست استثمارا لما هو سائد ومترسب ومتكلّس، وإنما استشراف الغد وصناعــــــة المستقبــــل الذي لم يتبلور، والدخول في مسارات الابتكار النضالي والقيمي وتكوين الذكاء المتعدد والذكاء الجماعي. فالسياسة أنسنة للمجال العمومي وإبداع للمفاهيم وللأدوات وإنتاج لتراكيب فكرية وقيميّة حديثة تعزّز اللقاء والتوافق،إنها مسارات غير ”ستاتيكية“ تتلاقح وتتطور في مسار صناعة الموقف، تؤمن بثقافتها وبالإنسان، تؤلف بين الجغرافيا والتاريخ والمستقبل.
هذه التجارب على بساطتها وجزئيتها، لكنها برمزية كبيرة وبوعد ثابت ستكون أثرا قائما وفاعلا نوعيا، لا رغوة ولا زبدا "فأمّا  الزبد فيذهب جُفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " (الرعد 17).