الكلمة الحرّة

بقلم
هادي القلسي
مظلمة براكة الساحل الخصوصيّة

 المؤامرة 

 
انطلقت الحكاية في شهل أفريل 1991 بحملة اعتقالات غريبة وعجيبة في صفوف عناصر الجيـــش من مختلف الرتب والوحدات والجهات (1) قاسمهم المشترك أنهم كانوا عسكريين ذوي تكوين وتعليم متميّز وكفاءة وانضباط  ثم كان ظهور عبد الله القلال وزير الدولة وزير الداخلية على شاشة التلفاز (2) ليبرز شطارة إدارة امن الدولة في اكتشاف مؤامرة أخطبوطية  نسج خيوطها ضباط عسكريـــــون بهدف اللاستيــــلاء على الحكم وقدم تسجيلا للنقيب أحمد عمارة يعترف فيه ( نتيجة التعذيب والتهديد) بضلوعه وعدد من الضباط في إعداد الانقلاب الزعوم.
وقد حصلت حملة الاعتقــــالات بطريقــــة  تتنافى والقوانين العسكرية وأصول التعامل خاصة في كيفية الاعتقال دون تحـــّر وتثبت وتسليـــــم عسكرييـــن تحت السلاح إلى جلادي أمن الدولة بالرغم من قدرة الأمن العسكري والمحكمـــــة العسكريــــــة للتعامــــل مع كل شبهـــة أو تهمة توجه للعسكريين. لكن أوامر بن علي كانت أقوى من جميع القوانين .
 
من الثكنة إلى زراديب الداخلية
 
تمّ نقلنا إلى زراديب إدارة امن الدولة أين نالنا تعذيب ممنهج موصوف من قبل أعوان وحوش استنسخوا من الشيطان صفته وشـــّره وأبدعـــــــوا في طرق ووسائل التعذيب بتعد صارخ على النفــس البشرية. فكانت لهم فرصة التمثيل الجسدي والنفسي بعسكريين  لا ناقة لهم ولا جمل في وضعهم المحتوم وراحوا يضربون ويلكمون ويركلون ويصلبون ويجرون ويعلّقون ويسبون ويشتمون ويستفزون ويستهزئون ويمسّون الأعراض ويسكبون الماء البارد والساخـــــن على الأجساد العارية المعذّبـــة ويعتــــدون بالضـــرب على الأماكن الحساسة بوحشية لا توصف حتّى يصيب الضحية الإغماء فيتم إرساله إلى المستشفى والاحتفاظ بــــــه تحت اسم مستعـــار حتّى إذا استرجع أنفاسه أعادوه من جديد إلى التعذيب. ولعلّ التشويه الجسدي الباقي أثره على أجساد بعض الموقوفيــــــن لدليــــل صارخ على وحشية جلاّديهم .
بعد مرحلة التعذيب البشعة ، جاءنا عبد الله القلال  يوم 23 جوان 1991 ليقدّم اعتذارات بن علي لضحايا المظلمة واعترف ببطلان التهمة وأعلمنا بأننا سوف نعود إلى سالف مواقع عملنا بعـــد أن نتمتع بشهـــر من الراحة. ورغم هذا الاعتـذار فقد تمت المحاكمــــة ومقاضاة 93 عسكريا حيث تراوحت الأحكام بين 16 سنة سجنا وعدم سماع الدعوى وإخلاء سبيل 151 منهم .
 
السجن الكبير
 
تم إخلاء سبيلنا، لكن السلطة (المؤسسة العسكرية ووزيرها آنذاك عبد العزيــــــز بن ضيــــاء) اتخذت في شأننا قرارات إداريــة اقل ما يقال فيها أنها جائرة وغريبة وعجيبة تراوحت بين الإعفاء من الوظيفة مرورا بفرض الاستقالة على البعض وإحالة البعض الآخر على التقاعد بمختلف أنواعه النسبي والوجوبي و القصور المهني إلى الطرد التعسفي لآخرين.
لم يقف تعسّف السلطة عند هذا الحدّ، بل سلّط علينا بوليس النظام رقابة لصيقة تكفل بموجبها بمنعنا من العمل رغم انعدام الدخل الشهري للكثير منّا وحُرمنا من التغطية الصحيّة الاجتماعيّة وسُلبت منّا هويتنا العسكرية حتى أن البعض أجبر لإعتماد صيغة "عامل يومي" عند اصدار بطاقة التعريف . تحوّلنا إلى مساجيــن في زنزانة واسعة حيث مُنـــع عنّا السفــــر وحُجـــرت جوازاتنـــا بل أن بعضنا لم يكن باستطاعته التنقل داخل الوطن حيث تمّ تحديد أماكن تواجدنا وفرض على بعضنا الحضور إلى مراكز الأمن ثماني مرّات يوميّا قصد الإمضاء . إنها المعاناة في أعظم مظاهرها والمقاساة في أشد أشكالها،أفرزت تشتتا عائليا وإحباطا ويأسا ومذلة وفشلا تعليميا واجتماعيا لأطفالنا. فرض علينا السكوت والصمت وقبول الأمر الواقع  ودامت المعاناة عقدين كاملين لم ننعم خلالهما بأبسط حقوق الانسان في الكرامة والعيش والعدالة والحرية .
 
الحياة بعد الموت
 
جاءت ثورة الشبــــــاب وهرب بــــن علي وتحررت تونـــس من دكتاتوريته ونظامه البوليسي. لم يكن أحد يحلم بما حدث ويصدّقه (3) ولكنّه حدث وصدقناه فانطلقنا بعد 10 أيام من الثورة في التعريف بمظلمتنا وأسسنا هيئة جمعية إنصاف لقدماء العسكريين فتفاعل معها الرأي العام التونســـــي وتعاطفت معنــــا كل أطياف المجتمع وخاصة وزارة الدفاع التي استقبلت عديد المرات هيئتنا كطرف رسمي وتمت لقاءات كثيرة أفضت إلى إعداد وزارة الدفاع لآلية تعويـــــض مــــــا فــــــات وجبـــــر الأضـــــرار.  وكان يوم 14 أكتوبر 2011 يوما تاريخيا بالنسبة لنا حيث أقامت وزارة الدفاع تحت رعاية السيد وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي  والسيد الفريق أول رشيد عمار حفـــل استقبــــال  متميّز وحميمـــي وتمّ إعلامنا خلاله أن وزارة الدفاع اعــدّت آليــــة  التعويــض وجبر الأضرار وهي في انتظار السند القانونـــي لتفعيلها. وبقينا ننتظر تحقيق الحلم إلى أن أعلن السيد  سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية يوم الثامن من فيفري 2012 أن ملف مظلمة براكة الساحل ســــــوف يُغلـــق خلال أسابيع  بعد أن لام وعاب على الحكومة السابقة عدم أخذ قرار استرداد حقوقنا. ثم جاء يوم 23 جوان 2012 ليقدم رئيس الدولة السيد محمد منصف المرزوقي القائد الأعلى للقوات المسلحة  اعتذار الدولة لضحايا براكة الساحل وعائلاتهـــم ووعد برد الاعتبار لهم في اقرب الآجال  بقصر قرطاج وتمّ تحديد تاريخ 10 ديسمبـــــــر 2012 بصفتــــــــه اليوم العالمي لحقوق الإنســان  كيـــــوم رد الاعتبــــار بقصر قرطاج وذلك في انتظار إصدار السند القانوني للتعويض وجبر الأضرار وتنظير التقاعد مع الحصول على الرتبة المستحقة التي من المفروض الوصول إليهـــــا (4) 
 
خصوصية فريدة قبل الثورة وبعدها
 
ان لهذه المظلمة خصوصية فريدة قبل الثورة وبعدها وإن اختلف مضمون الخصوصيّة ففي عهد بن علي تمثّلت خصوصيتها في ظلم الدكتاتور لشعبه حيث ضرب من خلالها مؤسسة سيادة بأكملها أما بعد الثورة فخصوصيتها تتمثل فـــــي كــــــون المرســـوم عدد 1 للعفو التشريعي العام لم يشمل عسكريي براكة الساحل (5) كما لا يمكن تفعيل العودة للعمل لأن النظام الداخلي للعسكريين لا يمكّن العسكري من العودة للعمل في حالة بقائه أكثر من خمسة سنوات خارج الوظيفة وكذلك في حالة تجاوز عمره أربعين سنة . نتيجــــــــة لهذه الخصوصية فإن الحلّ يكمن في إصــــدار مرسوم خاص من طرف المجلس الوطني التأسيسي بصفتها السلطة التشريعية العليا  يتضمن النقاط التالية (6):
◄ اعتذار الدولة الذي تم يوم 23 جوان 2012 .
◄ رد الاعتبار بحفل بقصر قرطاج يحضره الضحايا وعائلاتهم وهوما وعد به الرئيـــــس وحــــدد تاريخه يوم 10 ديسمبر 2012 .
◄ ارتداء الضحايـــــا الـــــزى العسكري أثناء حفل رد الاعتبار بالرتبة المستحقة.
◄ تنظير التقاعــــــد حسب الرتبــــــة المستحقـــــة على أن يكون من تاريخ 14 جانفي 2011. 
◄ التعويض  المادي عما فات من رتب ومرتبات.
◄ الاستفادة من بعض العسكريين وإعطائهم إمكانية المساهمـــة في بناء تونس المستقبل داخل الوطن وخارجه. 
أملي أن لا يطول الانتظار ويتحقق حلم كان في اقرب الأيام سرابا فيتم القطع مع الماضي وتعود بسمة غابت أكثر من عقدين على شفاه المتضررين وأقاربهم فتتحقق بذلك العدالة وتمكّن ضحايا مسرحية براكة الساحل من قضاء ما تبقى من عمر في كنف الكرامة خاصة وان اغلبهم بلغ سن التقاعد القانوني.
 
الهوامش
 
(1) تم اعتقال 244 عسكريا – 25 ضابط سامي- 88 ضابط عون- 82 ضابط صف- 49 رجل جيش- 
(2) ظهر في 22 ماي 1991 من خلال  القنـــــاة البوق لبن علـــــي "ا ت ت"  ليعلن عن اكتشاف المؤامرة.
(3) ما حدث يوم 14 جانفي لم نحلم به ولو للحظة .أنا شخصيا لم أصدق ولم أستفق إلا بعد أكثر من عشرة أيام.
(4) نقترح أن يكون تاريخ 14 جانفي 2011 يوم إحالتنا على التقاعد يوم تحصلنا على الحرية والكرامة والعدالة .
(5) لأنه يشترط ان يكون المنتفع سجينا سياسيا ويحق له العودة للعمل. وهذا لا ينطبق علينا لأننا أولا ليست لنا خلفية سياسية حيث لا ناقة لنا ولا جمل حيث زج بنا ظلما ولم نكن حتى نفكر في الانتماء فنحن ولاؤنا الوحيد للوطن.
(6) قدّمت جمعية إنصاف مشروعا في هذا المجال وتحصل العديد من السادة أعضاء المجلس  الوطني التأسيسي على نسخ منه.