اقتصاد ومال

بقلم
منذر محمدي
منح رؤساء مكاتب مراقبة الأداءات مهام الاعتراض على دفع ثمن بيع الأصل التجاري

 مقدّمة

 
لقد تمت إعادة تنظيم وضبط مشمولات المصالح الخارجية للإدارة العامة للأداءات بمقتضى الأمـــــر عـــدد 94 لسنة 2008 المؤرخ في 2008/01/16 والذي نقح الأمر عدد 1016 لسنة 1991 المؤرخ في غرة جويلية، كما تم تنقيحه وإتمامه بالنصوص اللاحقة.
وتعتبر مكاتب مراقبة الأداءات القلب النابض لإدارة الجباية باعتبارها المصالح الأكثر احتكاكا بالمطالب بالأداء.
وتصنف هذه المكاتب ضمن المصالح الخارجية، حيث ترجع بالنظر للمراكز الجهوية لمراقبة الأداءات، التي تتفرع بدورها عن الإدارة العامة للأداءات.
وقد منح المشرع التونسي لمكاتب مراقبــــة الأداءات  في الفصل 15 من الأمر المذكور مشمــــولات واسعة تتلخص في السهـــــر على تطبيق التشريع الجبائي وتأمين عمليات المراقبة الجبائيـــة. وفي هذا الخصوص، فقد حدّد الفصل 18 من الأمر المذكور مشمولات رؤساء مكاتب مراقبة الأداءات، حيث منحهم مهاما واسعة نذكر منها حق الاعتراض على الدفوعات لفائدة المطالبين بالأداء المدينين عند بيعهم أصولا تجارية ومنحهم شهادة رفع اليد بعد قيامهم بتسوية وضعياتهم الجبائية.
يذكر أن هذه المهمة لرؤساء مكاتب مراقبة الأداءات قد وقع نقلها حرفيا عن الفصل 12 من الأمر المنقح المشار إليه.
ويطرح هذا الموضوع بعض الإشكاليات تتعلق أهمها بما يلي:
الإشكالية الأولى: القانون الإجرائي المنطبق:
لقد نظم المشرّع مادة الإجراءات الجبائية في مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، في حين تمّ تنظيم حقوق دائني بائع الأصل التجاري بالفصل 193 وما بعده من المجلة التجارية، وحدّد في ذات النصوص طرق وإجراءات الاعتراض دون التمييز بين الدائنين. وهو أمر يمكن القول معه بأنه لا مجال لتطبيق مجلة الحقوق  والإجراءات الجبائية باعتبارها قانونا خاصا في مادة الإجراءات الجبائية.
الإشكالية الثانيــــة:هل يؤثــــر عدم إشهار بيع الأصـــل التجاري على حقوق الخزينة ؟
إن عدم تمكن الإدارة من الاعتراض لعدم إشهار بيع الأصل التجاري يمكنها من حق استفاء ديونها بالطريقــــة التي حددها المشــــرع في الفصل 204 من المجلة التجارية، الذي اعتبر أن ذمة المشتري لا تبرأ تجاه دائني البائع.
الإشكالية الثالثة والأخيرة: تتعلـــق بكون هـــــــــذا الاعتــــراض من مشمولات القابض المالي، باعتبار أن الديــــون مثقّلـــــة لديه ولا علاقة لرؤساء مكاتب مراقبة الأداءات، من الناحية المبدئية، بهذه الديون بعد تثقيلها.
وأمام هذه الإشكاليات والغموض المتعلق بالاعتراض، فانه يتّجه التساؤل عن ماهية هذا الإجراء ومدى وجاهة هذا القانون وتطابقه مع المنظومة القانونية؟
إن تنوّع الديون المستوجبة لفائدة الخزينة وتشعب الإجراءات المتعلقة بالجباية، تتطلب التعرّض لمحتوى هذا الاعتراض(أولا) لنتبيّن بعدئذ ما يمكن أن يرتبه من الآثار المتعلقة بإجراءات الاستخلاص(ثانيا).
 
اولا:  محتوى الاعتراض:
 
إن الإلمام بمحتوى هذا الاعتراض يقتضي تحديد مجاله(أ) وطرق إجرائه (ب)
(أ) مجال الاعتراض:
لا شك أن الاعتـــراض يشمل الديون الثابتة ولو كانت غير حالة، وهو أمر نص عليه الفصل 193 من المجلة التجارية.
بيد أن الإشكال يتعلق بموجب المبالغ موضوع الاعتراض وهو ما سيتم توضيحه من خلال استبعاد الإغفالات والديون غير الجبائية والتشكيك في إمكانية الاعتراض بالرغم من وجود ديون جبائية مثقلة وهو أمر سيتم توضيحه لاحقا. 
استبعاد الاغفالات والديون غير الجبائية:
إن المقصود بالدين غير الجبائي، هو كل دين مستحق لفائدة الخزينة ويكون مصدره من غير الجباية،ومثال ذلك الخطايا المثقلة لدى قابض المالية بموجب أحكام قضائية جزائية. والحجة في استبعاد الديون غير الجبائية، نشير إلى وجود عدة نصوص قانونية، ويكفي الإشارة هنا إلى الفصل 18 من الأمر المذكور، حيث ربط منح رفع اليد بتسوية الوضعية الجبائية.
أما الإغفالات أو عدم إيداع التصاريح الجبائية، فإنه يمكن القول بأنها غير معنية بالاعتراض وذلك للاعتبارات التالية:
أولا: يمكن تعريف الإغفالات بأنها عدم قيام المطالب بالأداء بواجب التصريح الجبائي، وهذا يعني أنها ليست من قبيل الديون، ولو غير الحالة، وهذا الأمر يخرجها من مناط الاعتراض المنصوص عليه بالفصل 193 وما بعده من المجلة التجارية. 
ثانيا: لقد أوجب المشرع إيداع التصاريح ولو كانت غير متضمنة لمبالغ مالية وهو ما يمكن أن نتبيّنه من عدة نصوص نذكر منها الفقرة 2 من افصل 74 والفصلين 85 و89 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية.
ولكي تؤول الإغفالات إلى ديون، يجب إتباع الإجراءات المنصوص عليها بالفصل 47 فقرة 2 والفصل 52 وما بعده من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، وهـــــي نصوص تنظـّــــم طريقـــة التنبيه على المطالبين بالأداء بتسوية وضعياتهم الجبائية وبإجراءات التوظيف الإجباري للأداء.
عدم نجاعة الاعتراض بالنسبة للديون الجبائية المثقلة:
إن مسألة وجود الدين الثابت هو شرط اقتضـــــــاه الفصــــــل 193 من المجلة التجارية والفصل 18 من الأمر المذكـــــور. وهذا يعني أن الديون المستقبلية، أي تلك التي لم تنشأ بعد، لا يمكن أن تكون محل اعتراض.
ولتحديد الديون الجبائية ، يمكن الرجوع إلى الفصل 1 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية الذي ضبط الموارد الجبائية الراجعة للدولة مهما كانت تسميتها، على نحو يجعلها تشمل المعاليم وغيرها من الموارد وأطلق عليها تسميـــــة أداء. وهذا يعني أن المبالــــــغ التي يكون مصدرها من غير الأداء على معنى هذا الفصل لا تكون مشمولة بالاعتراض.
غير أن ما يمكن التأكيد عليه هو أن الديون الجبائية لا يتم تثقيلها لدى المسؤولين بالإدارة العامة للأداءات، باعتبارها من مشمولات قابض المالية حسب الأحكام الواردة بالفصل 26 وما بعده من مجلة المحاسبة العمومية. وهذا يعني أن رؤساء مكاتب مراقبــــة الأداءات لا يمكنهم قانونا القيام بالاعتراض، وإلاّ فإن هذا الاعتراض يعتبر غير قانوني.
ومن هنا يمكن القول بأن هذه النصوص المتعلقة باعتراض رؤساء مكاتب مراقبة الأداءات على دفع ثمن بيع الأصل التجاري، قد ولدت ميتة.
(ب) الإجراءات المتبعة:
إن فرضية صحة التحليل الذي تم التوصل إليه والقائل بعدم جدوى الاعتراض لانعدام صفة رؤساء مكاتب مراقبة الأداءات قد يغنـــي عن التعرض لبقية عناصر الموضوع. بيد أنه من الناحية المنهجية فإن الموضوع يقتضي فهم كافة عناصره مما يحتم افتراض صحة الإجراء بغاية الإلمام بالموضوع وتحليله ونقده. ومن ناحية أخرى فإن ما سيتمّ التعرّض إليه يصحّ بالنسبة للاعتراض الذي يقوم به بقية الدائنين مثل قابض المالية.
وحيث لا شك أن الفصل 18 المذكور منح حق الاعتراض لرؤساء مكاتب مراقبة الأداءات. وقد نص الفصل 193 من المجلة التجارية على أنه يمكن لكل دائن ... أن يعارض في دفع الثمن على يد عدل منفذ أو بمكتوب مضمون الوصول مع الإخطار بتبليغه إلى المقر المختار في خلال 20 يوما على الأكثر من نشر أو الإعلان بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
إن تطبيق هذا الفصــــل على الاعتراض موضــــوع البحث يتطلب منا توضيح ما يلي:
التوضيح الأول: يجب أن يبلــــغ الاعتراض في المقر المختار بحيث لا مجال لتطبيق الأحكام المتعلقة بالمقر والمنصوص عليها بالفصول 2و3و4و45 من مجلة الضريبة.
التوضيح الثاني: إن التبليغ يمكن أن يكون بواسطة رسالة مضمونة الوصول أو عدول التنفيذ أما التبليغ عن طريق أعوان إدارة الجباية فانه يطرح إشكالا مرده الفصل 10 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية الذي ينصّ على أن التبليغ عن طريق أعوان مصالح الجباية مشترط بأن يكون موضوع التبليغ منصــــوص في شأنه على أجل، وهو أمر لا ينطبق على الاعتراض عند بيع الأصل التجاري. وهذا يعني أن تبليغ الاعتراض عن طريق أعوان مصالح الجباية غير ممكن بالنظر لانعدام الأجل ضمن نص الاعتراض حسب مقتضيات المجلة التجارية.
هذا فيما يتعلق بالإجراءات المتّبعـــة عند الاعتــــراض الذي لا يصح إلا ّبتوفّر بعض التنصيصات الوجوبية.
فلكي يكون الاعتراض صحيحا من الناحية الشكلية، يجب أن يتضمن بعض التنصيصات الوجوبية. فقد نص الفصل 193 من المجلة التجارية في فقرته 2 على وجوب تضمّن الاعتراض للتنصيصات التالية:اسم المعارض،مقره،مبلغ الدين و أسباب الدين
والسؤال المطروح في هذا الخصوص، هو إن كان عدم احترام هذه التنصيصات يؤدي إلى البطلان النسبي أو البطلان المطلق للاعتراض؟
وللإجابة عـــــن هـــــذا الســــؤال يمكن القول أن هذا البطلان لا يهم إلا مصلحة طرفي النزاع ويعتبر بالتالي بطلانــــــا نسبيــــا ولا يمكن أن يتمسك به إلا الطرف الذي له مصلحة في ذلك، ولا يمكن للمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها.
 
(ثانيا) كيفية استخلاص الدين موضوع الاعتراض:
 
إن الحديــــث عــــن كيفية استخــــلاص الدّيــــن، يتطلب التعرض إلى الإجراءات المتبعة (أ) ورتبة هذا الدين (ب) في صورة وجود اعتراضات أخرى، ويكون ثمن البيع لا يكفي لخلاص كافة الديون.
(أ)إجراءات الاستخلاص:
لقد نص الفصل 193 من المجلة التجارية على عدم جواز الاحتجاج على الدائنين المعترضين بكل نقل للثمن. ويجب رفع طلب إلغاء المعارضة إلى رئيس المحكمة الابتدائية المختص ترابيا.
وقد مكن الفصل 18 من الأمر المذكور رئيس مكتب مراقبة الأداءات من صلاحية منح شهادة في رفع اليد في صورة قيام البائع بتسوية وضعيته الجبائية.
ورغم الغموض الذي يشوب عبارة "تسوية الوضعية الجبائية"، فانه يمكن القول أنها لا تعنـــــي خلاص كافّة الديــــون بالضـــرورة، إذ يمكن الاتفاق على دفع جزء من الدين وجدولة المبلغ المتبقي على قسط أو عدّة أقساط .
وفي غياب اتفاق رضائي ، فإن النزاع يتم حسمه لدى المحكمة الابتدائية، في إطار يشمل بائع الأصل التجاري من جهة وكافة دائنيه من جهة أخرى.
(ب)رتبة الدّين موضوع الاعتراض:
إن قاعدة المحاصة أو تساوي الدائنين في الرتبة لها عدة استثناءات وهي الامتياز والرهن وحق الحبس. وقد تعرض إليها الفصل 192 من مجلة الحقوق العينية .
ويعتبر الدّين الممتاز حسب صريح الفصل 195 من مجلة الحقوق العينية، مفضلا على غيره مــــن الديون. وقد منح الفصـــل 199 من مجلة الحقوق العينية امتيازا عاما للخزينة، في حين منحها الفصل 34 من مجلة المحاسبة العمومية امتيازا خاصا.
وما يمكن أن نتبيّنه من هذه النصوص، هو أن ديون الخزينة مفضّلة على الدّيون العادية والدّيون الموثقة برهن. ويبقى الإشكال متعلقا بتزاحم ديون الخزينة مع الديون الأخرى الممتازة:
لقد رتب الفصل 199 من مجلة الحقوق العينية الامتيازات العامة، بأن أعطى ديون الخزينة المرتبة الرابعة. ويبقى السؤال متعلقا بتزاحم الامتيازات العامة والامتيازات الخاصة من جهة وتزاحم الامتيازات الخاصة فيما بينها من جهة أخرى.
إن التشريع التونســـــي لم يعط إجابة واضحة حول هذا الســـؤال، وكل ما في الأمر أن الفصــــل 195 من مجلة الحقوق العينية نصّ على أنّ تفضيل بعض الدائنيــــــن الممتــــازين على بعض يعتمد على اختلاف صفات الامتياز.وهذا المعيار يترك مجالا واسعا للاجتهاد.
ويمكن القول أن فكرة التخصيص ترجّح الكفّة لصالح الامتيـــــازات الخاصّة باعتبارهــــا لا تتوفر في الامتيازات العامة. وإذا أخذنا بهذا التحليل، فإن الامتياز الخاص المنصوص عليه بالفصل 34 من مجلة المحاسبة العمومية، مفضل على مصاريف تجهيز الميت المنصوص عليها بالفصل 199 من مجلة الحقوق العينية. وهذا الأمر يمكن أن يمسّ بكرامة المتوفى وبالأخلاق الحميدة.
وفي كل الحالات، فإن هناك ديونا تبقى مفضلة على سائر الديون الأخرى وهي مصاريف الدعوى القضائية المنصوص عليها بالفصل 481 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية.
ويمكن القول في النهاية أن كثرة امتيازات الخزينة قد تسبّب عزوف المؤسسات المالية عن ضخ الأموال لفائدة المستثمرين لتركز نشاطها في منح قروض الاستهلاك لفائدة الأجراء، وهذا الأمر يؤدي إلى تعطيل النمو الاقتصادي .