بهدوء

بقلم
محمد القوماني
الطاهر الحداد ودعوته الرائدة إلى المساواة وتطوير التشريعات

 يحتفل  التونسيات والتونسيون بالعيد الوطني للمرأة لهذا العـــــام إحياء للذكــــرى 56 لمجلة الأحـــــوال الشخصيـــــــة الصــــــادرة في 13 أوت 1956 وسط جدال محتـــــدم  وتجاذبات أيديولوجيــــــة وسياسية داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه، حول صيغة دسترة حقوق المرأة وموضوع المساواة بين الرجال والنســــاء. وقد بات إصدار تلك المجلة الجريئة في النهــــوض بأوضـــــاع المــــرأة والأســرة في السنــــة الأولى للاستقــــــلال، من أهــــم الإنجــــازات على الصعيد الاجتماعي التي أعطت لتونس مكانة رائدة بين أشقائها من العرب والمسلمين عامة. وربما لم يكن الإقدام على تلك الخطوة ممكنـــــا ولا المحافظـة على ذلك التوجه مُتاحا في مجتمعنــــا، لولا سبق رواد الإصـــــلاح من التونسييــــن قبل ذلك في طرق أبواب صارت اليوم مفتوحة ولولا روح التجديد والانفتاح والاعتدال التي تصبغ مجتمعنا. ولذلك يكون من المهم في هذا السياق وفي تفاعـــل غيـــــر خاف مع الجدال الذي يثيره موضــــوع المــــرأة في كتابة الدستور الجديد، أن نعرض وجهة نظرنا حول الإسلام والمساواة بين النساء والرجال، من خلال التعريف بالدعوة الرائدة في هذا المجــــال إلى المساواة وتطوير التشريعات التي تضمنهـــــــا كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي نشره المصلح التونسي الطاهر الحداد في ثلاثينات القرن الماضي.

 
تقابل في الرؤية والتقاء في المنهج
 
يشكو تناول موضوع الإسلام والمساواة بين النساء والرجال من مظلمتي مقاربتين نمطيتين تتقابــــلان في المضمــــون وتلتقيــان فـي المنهـــج. مقاربة أولى تنتصر لمنظومة حقوق الإنسان ولواقـــع المــرأة في المجتمعات الغربيـــــة، تتبنى الحداثـــة وتهاجم التراث وتتهم الإسلام بأنه يعيق تحرّر المرأة والنهوض بأوضاعهــــــا .فالإسلام في نظـــــر أصحاب هذه المقاربة يصدر عن رؤية تقليدية تحطّ من مكانة المرأة وتعتبرها مصدر فتنة وتعدّها أدنـى من الرجــل. كما تحتوي نصوص الإســـــــلام على تشريعــــات تنزل بمرتبة المرأة عن مرتبــــة الرجل، على غرار النصوص التي تقرّ تفضيل الرجال على النساء وقوامتهم عليهن والأحكام التي تكرّس التمييز الجنسي مثل أحكام الميراث والشهـــــادة وتعدّد الزوجــــات والقيود على الزواج ونحو ذلك في القــــرآن، أو أحكام السفـــــر وإمامة الصلاة والطاعة والاختــــلاط ونحوهـــــا في السنــــــة. فضلا عن ثقافة دونية المرأة في التراث الإسلامي وفي العادات والتقاليد.
وفي مقابل هذه الرؤية تسود مقاربة ثانية تفخـــر بــــأن الإســــلام أكرم المرأة ورفع منزلتها ومكّنها من جميع حقوقها عبر العصور من خلال ما تضمنته نصوص القرآن والسنة من إقرار لإنسانية المرأة وتكاملها مع شقيقها الرجل وتمكينها من حقوقها والإشادة بدورها الحيوي في الأسرة التي تحتل مكانة كبرى في المجتمع الإسلامي مقارنة بأحوال العرب في الجاهلية وبتعاليم مذاهب دينية أخرى وبأحــوال الأســــرة فــــي المجتمعـــات الغريبــــة الحديثــــة. وتحيــل هــذه المقاربــة أيّ فوارق بين النساء والرجال في التشريع إلى الفوارق الطبيعية بين الجنسيـــن التــــي هـــي سنـــة الله تعالــى في الخلق، وبالتالـــي لا تقــــر بأيـــة حاجــــة إلى تطوير التشريعات المقررة في النصوص.
 
هاتان المقاربتان المتقابلتان في الظاهر إلى حدّ التناقض تصدران في رأينا عن منهج لا تاريخي واحد في التفكير، يعتمد إسقاط عصر على آخر، الحاضر على الماضي أو الماضـــي علــــى الحاضــر، دون اعتبار لسنة التطور ولمقتضيات الوعي التاريخي وللتحولات النوعية الحاصلة في الواقع وفي الوعي البشري. فالمساواة مفهوم حديث لا يمكن بحال أن نسقط مضمونه على بيئة قديمة لنسائل تشريعاتها وعاداتها بمقتضى آخر ما استقر عليه هذا المفهوم. كما أن مفهوم المساواة لم ينشأ مكتملا. ويكفي أن نشير على سبيل المثال أ ن البشرية انتظرت سنة 1948 لتعلن في المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن الناس يولدون أحرارا متساوين في الحقوق والواجبـــات. وقد عرفت التشريعات في الغرب الحديث، قبل هذا الإعلان وبعده تطويرات عديدة لتقترب من مقتضى المساواة بين الجنسين وإنهاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي أعلنت في اتفاقية أمميــــة لاحقــــة، وما يزال الجهد مبذولا في جميع أنحاء العالم لتحقيق هذا الطموح ولا يخلو الطريق من معوّقات فكرية واجتماعية وسياسيــــة جمّـــــة ومن جدال لا ينتهي.
 
 ومن ناحية ثانية لا يمكن إعتبار صورة المرأة زمن نزول القرآن صورة مثالية لأقصى ما يمكن أن ترتقي إليه أوضاعها عبر الأزمنة والأمكنة. ولا تستقيم النظــــرة اللاتاريخيـــة للتشريـــع الإسلامـــي، إذ  التشريع وليد عصره ولا يمكن لشريعة جامدة أن تصلح لحياة متطورة، والحال أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان. لذلك اتفق الرسل عليهم السلام في العقائد واختلفوا في التشريعـات. "لكـــــل جعلنـــا منكـــم شرعــــة ومنهاجــــا"(1). أي من واقعكم وبيئتكم تنبع التشريعات  ولذلك اختلفت. ويكفي لتأكيد أثر العصر في النظر للتشريعات المتصلة بالمرأة أن نتتبع تطور تفاسير القرآن في تناول الآية المتصلة بضرب المرأة، لنرى خاصة الفارق النوعي بين التناول التراثي للآية وبين تناول المحدثين لها بداية من تفسير المنار للشيخ رشيـــد رضـــا الــــذي بـــدأ يستحضر ما يثيره تشريع الضرب من انتقاد في الثقافة الحديثة.
 
إن التردّد اليوم في إقرار مبدأ المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، لا يقل في نظرنا فداحة وشناعة عن التردّد في نبذ التمييز العنصري بين البيض والسود وتجريم نظام العبودية سيــئ الذكــــر. ولا يمكن النظـــــر إلــــى الإســــلام بسمــــو تعاليمــــه وسماحــــة تشريعـــه إلا باعتباره مصدرا وسنــــدا لإقــــرار هـــذه المســــاواة. غير أن إقرار المبدأ ودسترته لا ينهي الحوار في المقتضيات العملية والتشريعات الضامنة للمســاواة بحسب درجــــة تطــــور المجتمـــع وبما يحمي خصوصيته ومنابع القوة فيه. وهذه المقاربة الإسلامية المستنيرة التي نراها جوابا على مأزق المقاربتين السابقتين، نحاول مزيــد التبسّط فـــي شـــرح أسسهـــا من خلال التفاعل مـــع مـا سبق إليــــه الطاهر الحـــداد في هذا المجال.
 
ريادة الطاهر الحداد
 
لئن تعددت كتابات الطاهر الحداد واختلفت نضالاته، فإن اسمه اقترن بتحرير المرأة لتميزه في هذا المجال. لقد ركز المصلحون قبل الحداد علـى مسائل عديـــدة في دعواتهم للنهوض بأوضاع المرأة واحتل موضوع حق تعليم المرأة صدارة اهتماماتهم، ربما عن اختيار واع منهم لهذا المدخل لتحقيق باقي المطالب والحقوق، فإذا تعلمت المــــرأة أمكنهـــا أن تدافـــع عن حقوقها وأن تكتسح مجالات كانت محجوبة عنها، وهذا اختيار صائب ندرك جدواه اليوم من خلال التجربة التاريخية. غير أن الحداد الذي لم يختلـــف عن أسلافه من المصلحين في نقد أوضاع المرأة المسلمة وفي دعوتــــه إلى تعليمها وإلـــى تخليصهـــا من سطوة الرجل في مسائل الزواج والطلاق وسائر المعاملات، فإنه كان الوحيد الذي انفرد بين المصلحين طرح موضوع المســــــاواة وتطويـــر التشريعــــات التي تضمنها التراث الفقهي الإسلامي. ولم يكن موضوع المرأة  من زاوية النظر التي نروم إبرازهـــا إلا مجرد مثال فيما ذهب إليه الحداد خاصة في تمهيد كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" وفي خاتمة قسمه التشريعي. وهو في هذا الجانب بالذات نراه صاحب قراءة جديدة للإسلام وللتشريع الإسلامي خصوصا. ولعل ذلك يبدو جليا في قول الحداد معترضا على منهج الفقهاء في تعاملهم مع التشريعات المتصلة بالمرأة في القرآن: "ليست هذه أول مسألة جرى فيها علماء الإسلام على غير ما يريده. ولكي لا نبعد عن الموضوع نقتصر الآن على بيان مسألتي الرق والمرأة."(2)
 
أصالة المساواة في الإسلام
 
يؤكد الحــــــداد أن نصوص الشريعــــة الإسلاميــــة في كليتها ومراميها ـ أي فـــــــي مقاصدهــــا ـ "تذهب بالـــمرأة مع الرجل مذهب المساواة في وجوه الحياة."(3) ويكفي للاستـــدلال علــــــى ذلك استحضــــار الآيــــات التي تقر المساواة في أصل الخلق وعقائــــد الإســــلام التي تقوم علــــــى مســـــاواة العباد ذكـــورا وإناثا أمام الخالق الذي لم يتخذ صاحبــــة ولا ولدا والمنـــزّه عن التمييز بيـــــن عباده. إضافـــة إلى المساواة في التكليف والحساب.
 
وهذا الأصل في المساواة لا ينفي نزول القـــرآن بمرتبـــــة المرأة عن مرتبة الرجل في بعض التشريعات مثل أحكام الشهادة والميراث. ويعلل الحداد ذلك بأن: "الأحوال في جزيرة العــــرب التي اضطرتها  إلى التدرج في تقرير عامة أحكامهـــا وبالأخـــص ما كان منها متعلقا بالمرأة". (4) فقد اعتمد الإسلام منهج التدرج والتيسيـــــر على النــــاس ومراعـــاة أحوالهم والتبشير دون تنفير، خاصة مع الظواهر الاجتماعية المستفحلة والتي يصعب التخلص منها دفعة واحدة، على غرار ما يظهر من نصوص القرآن المتصلة بالربا والزنا والخمر والعبوديــــة ونحوهــــا. "على أن الإســـلام في مراعاته لسنة التدرج لم يتركنا نهيم في الشـــك)...( فقد برهــن على غرضه الاسمي في اعتبار عباد الله سواء" (5) لذا وجب التمييز بين ما جاء من أجله الإسلام من مقاصد وبين ما جـــاء به من أحكام تحقق تلك المقاصد في مرحلة معينة "يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيّن بين ما أتـــى بــــه الإســــلام وجاء من أجلــه وهو جوهره ومعناه) ...( وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضا من أغراضه"(6)
المقاصد والأحكام
 
لشرح فكرته في التمييز بين المقاصد الثابتة والأحكام العارضة يلجأ الحداد إلى القرآن ذاته، من خلال ما يُعرف في الاصطلاح بظاهرة "النسخ". فالقرآن نسخت آيات منه خلال  23 سنة من نزوله منجما آيات أخرى إما لفظا وحكما  أو حكما فقط " ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها"(7). ومن خلال أمثلة النســـخ في القرآن على غرار النصوص المتصلة بالخمر، يستنتج الحـــداد أن الظروف التي اقتضت تغيير بعض أحكام القرآن خلال  23 سنة من باب أولى أن تقتضي التغيير بعد قرون من نزول القــرآن "ونحو عشرين سنة من حياة النبي في تأسيـــــس الإســـلام كفت بل أوجبت نسخ نصوص بنصوص وأحكام بأحكام، اعتبارا لهذه السنة الأزليـــــة. فكيف بنــــا إذا وقفنا بالإسلام الخالــــد أمام الأجيال والظـــروف المتعاقبة بعد بلا انقطاع ونحــــن لا نتبـــــدل ولا نتغير"(8).
ولنا أن نتساءل مع الحداد عن سرّ الإبقاء على نصوص الآيـــات التي تم نسخ الحكم الوارد بها وتجاوزها، إذا لم تكن تلك آلية داخلية في القرآن لتعليمنا جواز تطوير التشريعات بتطور أوضاع الناس. فالتلاوة للاعتبار لا تقل أثرا من الحكم، والتشريعات في مجملها تشكل جزءا يسيرا جدّا من القرآن الخالد.
 
اتهام الفقهاء و نقد التراث
 
يقـــــول الحــــداد "لسوء حظ المسلميــــن -و لا أقول الإســــلام- أن أغلب علمائهم و فقهائهم لم يراعوا غرض الإسلام في التدرج بذلك النقـــص البــــادئ فـــي المـــــرأة و استعــــداد الرجل نحوها حتى يصير كمالا. بل هم قد أفسحوا لذلك النقص أن يعظـــم ليتسع الفرق بينهما في الأحكام ويتضخم الخلـــف بينهمــــا في الحياة. وهنا يظهر جليا أن النفسية التاريخية للعرب وسائـــر المسلميـــن في اعتبار المرأة قد تغلبت على ما يريد الإسلام لها من التقدير والعطف"(9).
 
فالحداد - على خلاف كثير من التحديثين اليوم - لا يتهــــم الإســلام في نصوصه التأسيسية (الوحي) بالدونية والتقصير. بل يتهم الفقهاء وينقد منهجهم في قراءة الشريعة. و يمارس نقدا صار ضروريا للتراث من أجل تجديده تحقيقا للنهضة المنشودة. فالفقهاء بدل أن ينظروا إلى الأحكام الاستثنائية في إطار منهج التدرّج فيطورونها باتجاه المقصد العام في المساواة، تغافلوا عن هذا المقصد وتغلبت عليهم عقليتهم الرجالية وإرثهم الثقافي والاجتماعي، فراحوا يعمقون الفوارق بين الجنسين حتــــــى عظمت. و بذلك تغلب الفـــــرع على الأصل، والحكم على المقصــــد. و كان في الواقع ما أراده الفقهـــــاء و ليـــــس ما أراده الإســـــلام. "وها نحن نجني نتائج هذا الإصلاح في أنفسنا وأبنائنا و سائر أجيال التدلــــي التــــــي تمـــــر اليوم حلقـــة من حلقاتها"(10). فالمُدوّنة الفقهية إذن ليست معبرة بالضرورة عن الشرعية، وتراث السلف ليس ملزما للخلف.
 
مقترحات الحداد
 
إن هذا المنهج الذي عبر عنه الحداد بوضوح وعمق واختصار جعله متفردا حقا. فهو على خلاف سائر المصلحين في تونـــــــس أو خارجها لا يكتفــــي بنقد التقاليد والدعوة إلى تجاوزها لأنها مخالفة للإســـلام (و هذا حال قاسم أمين مثالا) بل يقدم منهجا متكاملا في قراءة الشريعة نفسها، و يدعو إلى تطويرها بحسب مقتضيات العصر.
 
و يمكن اختصار هذا المنهج في النقاط التالية:
1- الفهم المقاصدي لنصوص الأحكــــام. أي الكشـــف عن المؤشر العام لسائر النصــــوص لبيان المقصد الذي تعبــــّر عنــــه، و النظر إلى الأحكام الفرعيـــــة على أنها معالجــــة استثنائيــــة لواقع ما في ضوء ذلك المقصد.
2- ربط الأحكام بظروفها، أي إدراك الصلة بين الحكم والأحوال الاجتماعية التي اقتضته. فكل شريعة ملائمة لزمانها.
3- تطوير الأحكام في ضوء مقاصد الشريعة ومتطلبات العصر. آي تجديد الأحكام حسب الواقــــــع الجديـــــد مع الاستفادة من المؤشرات العامة للنصوص، والاجتهادات الرائدة في ذلك المجال. فالحداد " لا ينكر اليوم وجود بعض شيوخ العلم يدركون ما يلزم لحياتنا من تطور تحميه الشريعة ولا تأباه علينا"(11).
أصداء الحداد
 
رغم الشهرة التي يحظى بها الحداد بين التونسيين المعاصرين - مؤيدين ومعارضين- فإنا لا نبالغ إذا قلنا أن منهج الحداد ودعوته قد انقطعتا بوفاته رحمه الله.
فالمناهضـــون للحداد كُثــــر - في زمانــــه  وفي زماننـا- و قد توقع هو نفسه هجمتهم الشرسة عليه و على أفكاره، فهو يقول في خاتمته القسم التشريعي بعد أن يأسف لتخلف المسلميــن  وانغلاقهم الفكري "وبذلك حكمنا علــى مواهبنـــا بالعقــــم، و أنفسنا بالمـوت، وعلى من يحاول منا علاج هذه الحالـــة أنه مفسد يحاول حرب الإســـلام و نقـــض الشريعــة"(12). فالأفكــــار حيــــــن تترسّـــخ في المجتمعات و تنتقل عبر الأجيال- وإن كانت خاطئة- تصبح أمرا مُسلما به وأصلا يقاس عليه. وهذا حال التراث الإسلامي الذي أصبـح هو الإسلام نفسـه، مع أنه اجتهاد تاريخـي، وصار من يخرج عنــــه و ينتقده يُتهم بالخــــروج عن الإســــلام. وهذا ما حصل للحداد ويحصل للمجددين دوما. بل إن رسل الله عليهم السلام كانوا يُتهمون في أقوامهم بالكفـــر والخروج عن دين الآبـــاء والأجـــداد. أما المدافعون عن الحداد فهم للأسف أيضا تخلوا عن منهجه ودعوته - وكأنهم ينكرون عليه أفكـــاره- فلم ينتظمـوا مثل الحـــداد في المرجعية الثقافية للأمة، ولم يحاولوا تطوير فهم المسلمين لنصوصهم التأسيسية ( القرآن و السنة)، ولم يخوضوا معركة جدية بدأها الحداد ضد الفهم التقليدي للشريعة والإسلام عامة. بل تنكروا لكل ذلك. وأضاعوا فرصة هامة ومدخلا فعالا لتحديث المجتمع. وراحوا يلهثون وراء تحديث سطحي يغير القوانين بطريقة إسقاطية دون أن ينفذ إلى عمق المجتمـــع أو يرتفـــع بوعـــي الجماهيــــر إلى المصالحــــة الفكريـــــة والنفسيــــة مع تلك القوانيــــن، فضلا عن المطالبة بها أو بخير منها. و لربّما راح بعض أنصار الحداد- على غرار المناوئين له-  يكفّرونه حين يتهمونه بأنه اتخذ الإسلام ذريعة لتمرير أفكاره الغربيــــة المنشأ، وإن الظروف التاريخيـــة هي التي جعلته يتحدث عن الشريعة وليست قناعته بذلك (13).
وبين المناهضين والمدافعين لا تفوتنا الإشارة إلى التباعد الكبيـــر بين الحداد والمؤسسة الزيتونية التي تخرج منها والتي ناصبته العداء في حياته، وتنكرت له و ما تــــزال، رغم تقلباتها المختلفــــة إلى يومنا هذا. 
 
حقا إن الحداد قُتل مرتين. قتل بالأمس "كمدا" حين عُزل و أساء الناس فهمه، وقسوا في معاملته، بعد صدور كتابه "إمرأتنا..." … و يقتل اليوم "منهجا" حين يتنكر المدافعون عنه والحاملون لاسمه لمنطلقاته  وتطلعاته. 
 
وفاء للحداد
 
قد لا يرتقي الحداد - بما ترك من آثار مكتوبة- إلى مصاف المُجددين الكبار في الفكر الإسلامي، وربما لم يسعفه عمره القصير في ذلك. لكن تظــــل منزلـــــــة الحداد متميزة من الزاوية التي نظرنا إليـــه من خلالها.
 
فنحن إذا جردنا الحداد من منهجه المتميز في قراءة الشريعة عموما، و قصرنا جهده على اقتراحاته بخصوص واقع المرأة التونسية و مستقبلها، لا نرى في تفكيره جدة آو طرافة، ولن يكون في أحسن الحالات سوى صدى مغاربيا لأفكار محمد عبده وقاسم أمين في المشرق العربي. و عليه فإن منهج الحـــــداد المذكـــــور هو الذي يعطيه خصوصيته ويحتاج منا إلى التعمق والمتابعة وفاءا له وخدمة للحداثة المنشودة في مجتمعنا.
لقد فتح الحداد بابا لم يُغلـــــق. و جرأ على موضوع بات اليوم أكثر إلحاحا. وقدّم مقاربة ما أحوجنا إليها اليوم وسط سجالات العلمنة والأسلمة  التي تكرّس الانقسام والاستقطاب ولا تساعد على التقدم بالحلول المناسبة لمشكلاتنا الحقيقيــــة، ومزايدات باسم الحداثــــة أو باسم الإسلام، لا تسمن ولا تغني من جوع. لكن هل تتحقق دعوة الحداد إلى المساواة وتطوير التشريعات الإسلامية ، دون تطوير نظرتنا للإسلام عامة، عقيدة وشريعة، فلسفة وأحكاما؟ و بصيغة تراثية هل تتطور أصول الفقه وتتجدد الأحكام دون أن تتطور أصول الدين؟ أعني هل تنجح في تغيير جذري للشريعة دون أن يسبق ذلك تغيير جذري للمنطلقات النظرية ولأسس نظرتنا للإسلام وحيا وعقيدة؟ وختاما هل تنجح مثل هذه المقاربة الإسلامية المستنيرة في زرع حداثة حقيقية تناسب تربتنا، و تجذّر هويتنا، وتفصـــــح عن مساهمتنا الخصوصية في الحضارة الكونية وتعيد تشكيل أبنيتنا النظرية والوجدانية، وتوحد أبعاد شخصيتنا وتقحمنا في الدورة العالمية، مشاركين لا تابعين، متفائلين لا متمرّدين. 
الإحالات
(1)   ـ الآية 48 من سورة المائدة. 
(2)   ـ الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، الدار التونسية للنشر، ص109 
(3)    ـ نفس المرجع ص107 
(4)   ـ نفس المرجع ص107 
(5)   ـ نفس المرجع ص108 
(6)   ـ نفس المرجع ص ص 12 و13 
(7)    ـ الآية 106 من سورة البقرة 
(8)    ـ نفس المرجع ص12 
(9)   ـ نفس المرجع ص109 
(10)    ـ نفس المرجع ص111 
(11)   ـ نفس المرجع ص112 
(12)   ـ نفس المرجع ص112 
(13)   ـ  قال بهذا الرأي على سبيل المثل أغلب المتدخلين في الندوة التي نظمتها جمعية نساء ديمقراطيات بمناسبة مئوية الطاهر الحداد يومي 28 و29 جانفي 2000