ومضات قانونية

بقلم
اميمة السافي
قرينة البراءة في المادة الجزائية

 قد يكون الإنســــان محط شبهات في جريمــــة مـــا، وهـــذا ما يؤدي إلى اتخاذ بعض الإجراءات في مواجهته، فقد تكون هذه الإجراءات ذات طابع قسري يؤدي إلى الإخلال بحريات وحقوق هذا الفـــرد، تحت غطاء البحث عن مرتكب الجريمــة، وبعد أن تنبه المجتمـــع من خلال التعسفات التي تمارسها الأجهزة الساهرة على القيام بإجــــراءت البحث إلى ضـــرورة إحداث نظام يكفـــل الحـــد الأدنى من الضمانات لهذا المتهم، خلال مرحلة المحاكمة وإلى غاية صدور الحكم النهائي يقضي بإدانته، وقد تم تسمية هذا النظام بمبدأ البراءة المفترضة أو قرينة البراءة المفترضة

" والقرينة هي استنتـــــاج مجهول مــــــن معلــــــوم. والمعلــــــــــــــوم هو ان الاصـــــل فــــي الاشياء الاباحــــة ما لم يتقرر العكـــس بحكــم قضائي وبناء على نص قانوني سابق الوضع قبل وقوع الجريمة واستحقاق العقاب، والمجهول المستنتج من هذا الاصل هو بـــــراءة الانسان حتى تثبت ادانته بحكم قضائي".
 
إن البحث في واقـــــع قرينـــة البــــــــــــراءة تضطرنــــا للبحـــــــث في جميع المراحل التي تمــــر منها الدعــــوى حتى تصبــــــح جاهزة للنطق بالحكم فيها، وذلك للوقوف عنــــــد واقع قرينــــة البراءة وهي تصطـــــــدم مــــــع عمــــل المكلفيـــــن بصونهـــــا وتقريرها وذلك عبــــر المراحـــــــل التي يمر منها المتهم حتى ينطق بالحكم في حقه إما بالإدانة أو البراءة.
 
1) قرينة البراءة وضمانات المشتبه به قبل المحاكمة
 
في مرحلة الابحاث الاولية واستقراء الادلة يتحتم على الباحث انجــــاز عملـــه وفــق ما يدخل في وظائفــــه مع ضمان حرية المظنون اذ يفتـــرض في محضر البحث الاولي انه حرر من باحث مختص لتكـــــون لــــــه حجيتــــــه فالمحضــــــر لا يعتمــــد كحجـــة إلا اذا كان من الوجهة الشكليـــــة محـــــررا طبق القانــــــون وضمّن به محـــرره ما سمعه او شاهده شخصيا اثنــــاء مباشرتــــه وظيفتـه في مادة اختصاصه .
 
والبحث فــــي الجرائم يلزم الباحث بـــان يتقيــــد بقرينـــــة الاصــــل في الانســـان البراءة .وعليه والحالة تلك ان لا تتجــــه اعمالــــه عند استقراء الجريمة وجمع الادلة الى تحقيقات الادانة وحدهـــــا ويحبذ كـــــل مــــا يؤيدهـــــا من وقائع وشهادات، بل عليه موازنة ما للمتهم وما عليه بعين العدالــــة والانصاف كي يأمــــــن وقـــــوع أي شخص ضحية للاكاذيب والاباطيـــل وفـــي ذات الوقــــت يمكن ان يوصف هذا المحقق على انـــــه الأداة السليمـــــة التـــــي تنشد تحقيق العدالة.
 
والباحث علاوة على ما سلف ملزم في اطار وظائفه المتعلقة بالكشف عن الجرائم وتحرير المحاضر في شانها بعدم السعي الى جمع الادلة بطريقة غير شرعية كما هو الحال عند استعمال وسائل حديثة للتنصت على الافراد دون اذن قضائي، فاثبات الجرائم يجب ان يكون بكافة الوسائل المخولة لذلك.
 
كما ان قرينة البراءة وما يجب ان يتوفر للمتهم من ضمانات اثناء البحث الاولي يحتم على الباحث احترام الحياة الخاصة للمشتبه به وهو امر كرّسته لأهميته البالغة المواثيق الدولية والنصوص القانونية ودساتير الدول ايضا ويتجلى ذلك خصوصا في وجوب احترام حرمة مسكن ذي الشبهة اذا استوجب الامر تفتيشه ، كما هو الحال اذا ضبط في حالة تلبس او ان هناك ادلة قوية على ثبوت الجرم وكان التفتيش امرا حتميّا .
 
2) قرينة البراءة وضمانات المتهم اثناء التحقيق
 
لمرحلة التحقيـــــق اهميتها الكبـــرى في استقراء الجريمة والبحث عــــن ادلتهــــــا وما توفـــــره من ضمانات اكيـــــدة للمشتبـــه بــه ، وهي ضمانات قد لا تتوفر فــــــــــي مرحلـــــــة البحـــــث الاولـــــي.
علاوة على ذلك فلحاكم التحقيق سلطات واسعة في البحث واصدار البطاقـــــــات اللازمة عند الاقتضاء.
 
وحضور ذي الشبهة لدى التحقيق سواء كان بحالة سراح او احتفاظ او بعد جلبه تنفيذا لبطاقة جلب يشكل امرا اساسيا بما انــــــه يمكن ذي الشبهة من الدفاع عن نفسه من خلال استنطاقـــــــــــــه من قبل حاكـــــــــــم التحقيـــــــــــــق.
 
وعلى حاكم التحقيق ان يتحرى من بلوغ الاستدعاء للمشتبه به بصفة قانونية بمقره قبل اصدار بطاقة جلب ضده في الحضور لديه خاصة ان ذلك الاجراء لا يجب علـــــى حاكــــم التحقيق اللجـــوء اليه الا استثناء.
 
ثم في مرحلة ثانية، يتولّى حاكم التحقيق قبل سماع المشتبه به تدوين تصريحاته واعلامه بالتهمة او التهم المنسوبة له والفصول المنطبقة عليها ويتلقى جوابــــه بعد ان ينبهــــه بـــــان له الحـــــق فـــي الا يجيب الا بمحضر محام يختاره وينص على هذا التنبيه بالمحضر . فاذا رفض ذو الشبهة اختيار محام او لم يحضر المحامي بعـــــد استدعائــــــه كمـــــا يجب تجرى الاعمــــال بـــدون توقف على حضوره واذا كانت التهمة في جناية ولم ينتخب ذو الشبهة محاميا وطلب تعيين من يدافــع عنـــــه وجب تعييــــن محـــــام لـــه . ويتولى هذا التعيين رئيس المحكمة وينص على ذلك بالمحضر .
كما تقدم فان حاكم التحقيق يتعهـــــد بملف القضيــــة بقـــرار صادر عن النيابة العمومية من حيث الاصل بما انه يمكن ان يتعهد بالبحث في تهمة معينة بقرار صادر عن دائرة الاتهام .
وفي جميع الصور فانه ملزم بتعريف المشتبه به بالتهمة والنصوص المنطبقة عليها.
 
وفي اطار قرينة البراءة التي تظل في جانب المشتبه به الى ان يثبت خلاف ذلك، فان لهذا الاخير رد التهمة عنه بجميع وسائل الاثبات
كما منح المشرع المشتبه به حق الطعن بالاستئناف في قرارات حاكم التحقيق المضرة به سواء صدرت اثناء سير التحقيق او عند صدور قرار ختم بحث في شانه.
 
3) قرينة البراءة وضمانات المتهم اثناء المحاكمة الجزائية
 
*مبــــدا الشرعيـــــــــــة الاجرائيـــــة الجزائيــــــة :
 
نص على مبدا الشرعية الجزائية الدستور التونسي بالفصـــل 13 الذي جاء به : "العقوبة شخصية ولا تكون الا بمقتضى نص قانوني سابق الوضع عدا حالة النص الارفق" .
وهو ما اقتضاه ايضـــــا الفصل الاول من المجلــــة الجزائية الذي ورد به :" لا يعاقب احد الا بمقضتى نص من قانون سابق الوضع لكن اذا وضع قانون بعد وقوع الفعل وقبل الحكم البات وكان نصه ارفق بالمتهم فالحكم يقع بمقتضاه دون غيره".
وقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات تحتم على المحكمة المتعهدة بالتهمة ان لا تتوسع في تاويل نصوص القانون الجزائي بما قد يضر بمصلحة المتهم الشرعية .
 
*علانية المحاكمــــة:
 
ان علانية جلسة المحاكمة ضمانة لشفافيتها وعلامة دالة على نزاهة المحكمة، وهــــي من شانها ان تؤمن احتــــــرام اجراءات التقاضي ، وعلــــــــى المحكمة استدعاء المتهـــــــم ان كان بحالـــــــــــة ســــــراح كما يتحتم عليهـــــــا جلبـــــــه لحضور الجلســـــــة ان كــــــــان مودعا بمؤسســــــة سجنية
ومحاكمــــة المشتبه به فــــــــي جلســــة علنية وشفويـــــــــة من شانــــه ان يؤكد نزاهـــة القضـــــاء، فحضور الجمهور جلسة المحاكمة شهادة على براءة المشتبه بــــه ان صرح بها وكذلك شهادة على ادانته اذا نطقت المحكمة بذلك . ويحتم مبدا شفويـــة المرافعة على المحكمة سماع كل اطراف القضية وشهودهم واهــــل الخبــــرة عنــــد الاقتضــــاء وكذلـك ممثل النيابة العمومية .
 
* شفوية اجراءات المحاكمة واحترام مبدا المواجهة:
 
لا يمكن للحاكم ان يبني حكمه الا على حجج قدمت اثناء المرافعـــة وتم النقاش فيها امامـــــه شفويــــا وبمحضــــر جميع الخصـــوم، وهو امر اقرته محكمة التعقيب في عديد القرارات
 
*حق المتهم في المثول امام محكمة محايدة ومنصفة:
 
لا نزاع ان استقلالية المحكمــــة المتعهـــدة بالبـــتّ في القضيّة وحيادها ركيـــــــــــزة اساسيـــــة مـــــن شانهــــا ان تنصف المشتبه به ، فالقاضي محمول على النزاهة والحياد فـــــــي قضائـــه، "على القضـــاة ان يقضــــوا بكامـــــــل التجرد وبــــــدون اعتبــــار للاشخـــــاص او المصالـــح وليـــــــس لهم الحكـــــــم في قضيــــــة استنادا لعلمهم الشخصـــــي ولا يمكنهم المناضلة شفويا او كتابــــــة ولو بعنـــــوان استشارة في غير القضايا التي تهمهم شخصيا ".
 
4) صدور الحكم الجزائي وقرينة البراءة
 
بعد ان اضحت القضيــــة جاهـزة للفصـــــل واستوفـــــى المظنـــــون فيـــــه مالــــه مــــن دفوعـــات وادلــــى بمــــا لــــه مــــن مؤيـــدات وحـــــدد طلباتــــــه التــــي يحبــــــذ ان تكـــــون كتابــــة لمحاجـــــة المحكمــــة بهـــا عنــــد الطعــــن فـــي حكمهــــا تحجـــــز القضيـــــة للتصريح بالحكـــــم.
 
والمحكمة ملزمة عند اصدار حكمها بدرس ملف القضية من الناحية الواقعية والقانونية ويفترض انها عللت ما قضت به بصفة دقيقة وتعرضت لادلة البراءة والادانة ووازنت بينها فتعليل الاحكام لازمة لصحتها.
 
وللمتهم حق الطعن في الحكم الصادر ضده بالطرق المخولة لذلك قانونا وهو من تجليات ضمان حقوقه في محاكمة عادلة
وعلى المحكمة ان تصرح بترك سبيل المظنون فيه ان اتضحت لها براءته. 
 
ان تكريس الدساتير والتشاريع الوطنيـــــة والمواثيق الدوليــــة قرينة براءة المشتبه بـــــه وحقوقـــــه يعكـــــس مــــدى اهميتهــــا ، غير ان ذلك لا يحول مطلقا دون وجـــــوب تقصـــــي المحكمــــة ومن قبلها الباحث وحاكم التحقيق الادلة والبحث في الجرائم والتحقق من مدى نسبتها للمشتبه به خاصة ان تكريس براءة هذا الأخير يقابله ايضا حق المجتمع في تسليط عقاب رادع على كل من ثبتت ادانته.