الادب الهادف

بقلم
جيلاني العبدلّي
«وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»

 كان وهو في سن السابعة عشرة من عمره يعمل على توسيع علاقاته وتنويع مصادر قراءته كشاب يتجه نحو رسم الملامح العامة لشخصيته. وقد حصل ذات مناسبة على عنوان لمجلة تخص الشباب من القراء باشتراك سنوي مجاني فلم يتردد في مراسلتها في سياق الرغبة في المعرفة وحب الاطلاع دون أن يعطي الأمر أهمية كبرى.

 وبعد مرور حوالي شهر على هذه المراسلة، وبالتحديد خلال العطلة المدرسية لفصل الربيع من سنة 1979 وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد بلغه وهو موجود في تونس العاصمة أن مجموعة من أعوان الأمن الوطني بباجة قد خرجت إلى عائلته في أعماق الريف على بعد 25 كلم من مدينة باجة، باحثة عنه على وجه السرعة دون إطلاعها على الأسباب الدافعة إلى ذلك، الأمر الذي خلف لوالده ولوالدته حيرة واضطرابا وخوفا عليه.
فكرّ في المسألة كثيرا، وقلبها من جميع الوجوه المحتملة، فلم يجد في سيرته السالفة ولا في سيرته الراهنة ما يخشى أن يكون بسببه محلّ مساءلة. وعند انتهاء العطلة التحق مباشرة بالمعهد المختلط للتعليم الثانوي بباجة، أين كان يواصل دراسته، لكنه اصطدم في مدخله قبيل الثامنة صباحا في يوم أثنين بأربعة أعوان بالزي المدني سرعان ما أمسكوا به، وسحبوا بطاقة تعريفه الوطنية للتثبت من هويته، ثم زجوا به في سيارة مدنية وحوّلوا وجهته إلى منطقة الشرطة الفنية بباجة، تحت وابل من اللطم واللكم والألفاظ السّوقية، وأخيرا دفعوا به وهم يركلونه ويتوعدونه في غرفة رطبة تنبعث منها روائح كريهة.
بعد حوالي نصف ساعة، دخل عليه عون تبيّن فيما بعد أنه رئيس الفرقة حمادي بالعربي، وخاطبه بألفاظ نابية قائلا: « تريد أن تصبح معارضا يا سي.....» وشرع يصفعه ويلكمه متوعدا له بقوله: « اليوم نلقنك درسا » موجها إليه نعوتا مشينة لا يليق ذكرها، ثم خرج دون أن يفصح عن التهمة الموجهة إليه، وبقي دامعا خائفا شارد الذهن، في وضع لا قدرة له على فك رموزه.
وبعد فترة وجيزة، دخل عليه عون آخر طويل القامة ضخم الجثة حليق الرأس مخيف المنظر، واقترب منه يصفعه، ويركله، ويدفعه أرضا قائلا: « ستُدعى إلى التحقيق وإذا لم تقل الحقيقة كاملة سأحوّلك إلى غرفة ثانية لأسلك معك أساليب أخرى » ثم انصرف.
مضى وقت قصير  أقبل بعده عون آخر، وكانت علامات الاكتراب بادية على وجه الشاب، فتظاهر له  بالاستلطاف، وجاءه بكأس ماء وقال له: «خذْ، اشرب» فشرب. 
ثم أخرج من جيبه علبة سجائر وقال له : « خذ سيجارة » ( وهنا فهم من هذا الاستلطاف أن العون كان يختبره إن كان شخصا متدينا أم لا ويختبر درجة الالتزام الديني عنده: في عدم التدخين وفي صيام يومي الاثنين والخميس) ولما أجابه بأنه لا يدخن قال له: حسنا لا تكتئب سأساعدك لكي يُطلق سراحك بشرط، أن تقول الحقيقة وتبدي ندمك إذا دُعيت إلى التحقيق «فهنا أغلب أعوان الأمن كلاب لا يرحمون، إذا وقع بين أيديهم أحد نهشوه» حسب ما قال.
وفي تلك اللحظة، دخل عليه عون من الذين كانوا قد اقتادوه إلى منطقة الأمن، ودفعه أمامه للخروج وهو يلطمه على رأسه، إلى أن أدخله غرفة خاصة بالتحقيق، ثم انصرف.
بقي المسكين متسمرا أمام مكتب به موظف كان بصدد الكتابة بالآلة الراقنة، مطرقا لا ينبس ببنت شفة، وكانت الساعة تشير إلى منتصف النهار.
 بعد برهة من الزمن، رفع الموظف رأسه وهو مقطب الجبين، وحدق في وجه الشاب، وشخص هيأته من رأسه إلى أخمص قدميه ثم قال: ما اسمك؟
أجابه مقدّما له إسمه ولقبه لكنّ الموظّف قال له بصوت غليظ: «اذكر إسمك الثلاثي يا سيد».
 ولما ذكر له إسمه الثلاثي قال له: «تأكد أنني أعرف عنك كل شيء، أعرف عنك كل صغيرة وكبيرة منذ ولدت إلى اليوم، ولكني أريد أن أتبين درجة صدقك في ما تصرح به، لنختار الأسلوب المناسب في التعامل معك ».
 واسترسل يسرد أمثلة لوقائع عاشها الشاب فعلا في مراحل مختلفة من حياته العائلية والدراسية، من المؤكد أنه كان قد استقاها من الأرشيف المدرسي ومن عمدة الجهة، ليوهمه أو ليثبت له أن جهاز الأمن لا تخفى عنه خافية وهو أعلم بما تطوي الصدور.
وفي خاتمة سرده حذره من مغبّة اللف والدوران ومحاولة إخفاء الحقائق، لأنه إذا فعل ذلك أضاع على نفسه فرصة الصفح عنه وإطلاق سراحه كما قال. ثم نظر في ساعته اليدوية، ونهض من كرسيه قائلا: حسنا، عد إلى حيث كنت، وسأدعوك في ما بعد لاستكمال البحث، وأعاده إلى غرفته اللعينة.
مكث هناك يفحص الجدران البائسة، ويجترّ مرارة المظلمة المسلطة عليه، مُنهكا، كسير النفس، خاوي البطن، لا يلوي على شيء غير الخلاص من ذاك العالم الفظيع.
وفي حدود الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، دُعي من جديد لاستكمال التحقيق معه. وقد تنوعت الأسئلة: إن كانت له صلة بمعارضين معينين؟ وإن كان يعرف أشخاصا نقابيين؟
وما هي طبيعة علاقاته الخارجية؟ ومنْ هي الجهة التي يراسلها باستمرار في الخارج؟
ولما كانت إجاباته تلقائية وخالية من المضامين التي قد تدينه، ثارت ثائرة مستنطقه، فقام يصفعه، صارخا في وجهه قائلا: «وهاتان المراسلتان أليستا موجهتين إليك من الخارج؟» وأشار بإصبعه إلى ظرفين من الحجم الكبير على مكتبه يحويان مجلتين وعليهما إسمه وعنوانه الشخصي. 
عندها فقط عرف الشاب سبب إيقافه، ألا وهي قسيمة الاشتراك المجاني التي وجهها إلى تلك المجلة اللبنانية.
روى للعون المحقّقِ حيثيات تلك المراسلة، وأكد له أن الأمر لا يتجاوز حدود حب الاطلاع، غير أنه بدا غير مقتنع بإجاباته أو تظاهر بذلك، وقام إليه يدفعه خارج مكتبه ليعيده إلى غرفة الإيقاف قائلا: «سأعرف كيف أجعلك تعترف بالحقيقة».
دخل الشقي غرفته البائسة ولم يعد يقوى على الوقوف. كان عييا متهالكا، تارة يسند ظهره إلى الحائط، وتارة ينحني ثم يستقيم، وطورا يتقرفص. لقد أمضى يوما طويلا في لج المحنة، بين الإنهاك والإرباك، والجوع والعطش، والعنف الجسدي واللفظي والنفسي.
قبيل الساعة السادسة، دعاه رئيس الفرقة إلى مكتبه، وهناك بدا على غير فظاظته. دعاه إلى الجلوس، وتظاهر بندمه على اعتدائه عليه، وقال له أنه يريد أن يجنبه المهالك، ويحميه من خلطاء السوء المتربصين بأمن الوطن، وأنه مستعد لمساعدته إن كانت لديه مشاكل أو صعوبات أو احتياجات مالية، وأضاف أنه سيجعل مكتبه مفتوحا أمامه ليزوره متى شاء ومن دون ميعاد، واسترسل يستدرجه ليكون مخبرا له عن زملائه في المعهد من نشطاء الحركة التلمذية.
وفي خاتمة حديثه الطري المنمق، ووعوده المعسولة، أطلق سراحه وهو يذكّره بضرورة زيارته في أقرب الآجال، ليشرب في مكتبه قهوة، وليتعرّف بالمناسبة إلى احتياجاته من أجل تلبيتها.
كان الشاب يجاريه في مراميه، ويتظاهر بأنه سيجتهد في الأمر حتى يُسهّل على نفسه الخروج من المحنة التي وقع فيها. ولَكَمْ تنفس الصعداء لحظة مغادرته منطقة الأمن، وهو شديد الاحتقان، كسير الخاطر، محطم النفس، منهك البدن، جاف الحلق، خاوي البطن، ومع ذلك حمد الله لمجرد خلاصه مستحضرا قوله جلّ جلاله: «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»