مقالات في التنمية

بقلم
محمد الشّيخ
تونس الخيارات الاقتصادية : فشل منوال التنمية وافاق ما بعد الثورة(1)

 تتميز البلاد التونسية بميزات عامة تخولها مواطن قوة لاقتصادها ، نذكر من أهمها موقعها الاستراتيجي ذي الأهمية المتميزة بحكم احتلالها موقع الوسيط بين بلدان شمال البحر المتوسط و بلدان القارة الافريقية وعلاقة متميزة خاصة بين بعض البلدان الاوروبية مثل ايطاليا وفرنسا.

كما يتميز المنتوج التونسي بالتنوع شأن الحبوب والزيت والزيتون والتمور والقوارص والأسماك والفسفاط وبعض المحروقات. وتتميّز تونس كذلك بقطاع سياحي قادر على الجاذبية وبتقاليد واختصاص في بعض الصناعات الخفيفة مثل صناعة النسيج و بيد عاملة كفئة في بعض الصناعات مثل الصناعات الميكانيكية. لذلك يمكن أن نعتبر أن الاقتصاد التونسي يمتاز بالتنوع مما يمكن رجال السياسة من خيارات متعددة لتحقيق النمو المرجو وانجاح منوال التنمية.
  نظرة تاريخية للمراحل و الخيارات الاقتصادية:
عرفت البلاد التونسية عدة تجارب اقتصادية وخيارات أساسية واقتصادية كان لها شديد الأثر على نمط المجتمع حيث تحققت نجاحات على مستوى العيش ورافق ذلك اخلالات أدت إلى أزمات اجتماعية وسياسية عديدة.
اولا :مرحلة تأسيس مرافق الدولة والمؤسسات:
توجه الاختيار إبّان الاستقلال إلى نمط اشتراكي تميّز خاصّة بتأميم المؤسسات وتونستها وبقيام الدولة بالمبادرة والاستثمار الحكومي وفي هذا الإطار تأسست الشركات الوطنية الكبرى مثل الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة الوطنية للسكك الحديدية والشركة القومية لإستغلال وتوزيع المياه والشركة التونسية للبنك والخطوط الجوية التونسية. كما تميزت هذه الفترة أساسا بتعبئة الموارد الخاصة للمساهمة في تأسيس البنوك وشركات النقل وغيرها.
ثانيا : المرحلة الاشتراكية        
انطلقت هذه المرحلة مع سنوات الستّينات وقد تميّزت بتأسيس الصناعات الكيميائية المبنية على الفسفاط  وتأسيس التعاضديات الفلاحية والتجارية ولما تواصلت المبادرة للدولة فقد كانت الى ذلك متحكمة في مفاصل الاقتصاد عبر وزارة التخطيط  والمالية والاقتصاد. وذلك باعتماد مخططات التنمية شأن مخطط  1962 – 1971 الذي كان يهدف الى:
• تحقيق الاستقلال الإقتصادي والاكتفاء الذاتي.
• تحسين دخل الفرد عبر برنامج إحلال الواردات بمنتجات محلية. 
• الجلاء الزراعي ( والذي تم فعلا في ماي 1964 )
• إنشاء ديوان الأراضي الدولية وبناء بعض السدود وتدعيم القطاع الزراعي. 
غير ان هذه المرحلة انتهت بفشل التجربة الاشتراكية لأسباب عدة من أهمها :
– الحصار الاقتصادي الفرنسي. 
– عجز بعض الشركات الحكومية. 
– معارضة شديدة من المواطنين لسياسة التعاضد وصلت الى الانفجار والانتفاضة. 
و قد تم إثر ذلك التوجه إلى  الانفتاح التدريجي والرأسمالية الحذرة والمقيدة التي مسّت خاصة القطاعات التي لم تتدخل فيها الدولة مثل  السياحة  والتجارة والصناعات الخفيفة كالنسيج والمواد الغذائية.
ثالثا : مرحلة الانفتاح الحذر و الراسمالية المحدودة
  تمّ على إثر فشل التجربة الاشتراكية وحصول الصدمة متمثّلة في أزمة سياسية، تغيير الخيارات الاقتصادية بالتوجه إلى تشجيع المبادرة الخاصة مع الحفاظ على دور الدولة  من خلال الحماية الجمركية للإنتاج المحلي ودعم استهلاك المواد الأساسية ودعم بعض الصناعات الوطنية وكان ذلك إعلان مرحلة جديدة ميّزت أساسا سنوات السبعينات وبداية الثمانينات حيث تركزت الخيارات على  :
- تحرير بعض مرافق الاقتصاد .
- تشجيع المبادرة الخاصة في قطاع الخدمات والقطاع الصناعي : (بتأسيس وكالة النهوض بالصناعة والخدمات المتصلة بها ،  تأسيس مركز النهوض بالصادرات ...).
- إبرام اتفاقيات حول الإنتاج تحت الحماية الجمركية والتصدير للدول الأوروبية loi 1972. 
- توجه الاستثمارات الصناعية بشكل كبير إلى قطاع  النسيج. 
ويمكن أن نعتبر أن هذه الخيارات حققت عديد النجاحات حيث أدت الى وجود  راس مال وطني  نتيجة  تشجيع المبادرة الخاصة  كما تدعم  قطاع الصناعات الخفيفة  وارتفع مستوى الدخل الفردي في حين استفادت الصادرات من ارتفاع أسعار البترول أثناء الأزمة البترولية وهو ما ساهم في إنعاش الإقتصاد .
ومن جهة اخرى شهدت المرحلة تحسن مردود القطاع الزراعي باعتبار الاستفادة مما تركته  الإصلاحات التي رافقت تجربة التعاضد وعلى مستوى القطاع السياحي تحسّنت مداخيل المشاريع السياحية الخاصة والعامة. وهذا بالاضافة إلى السياسة المتبعة في القطاع الصناعي والتي توجّهت إلى دعم الانتاج المحلي بواسطة الحماية الجمركية ودعم استهلاك المواد الأساسية ودعم بعض الصناعات الوطنية. 
كل هذه الاجراءات أدت إلى تحسن المداخيل وخاصة مداخيل المشاريع السياحية الخاصة وتضاعف فرص العمل بالقطاع ورغم ذلك فإن كل هذه الايجابيات لم تمنع بروز عديد الثغرات والسلبيات من أهمها :
-  انحصار الاستثمارات خاصة في المناطق الساحلية لتوفر البنية التحتية. 
- عدم التوازن بين الجهات. 
- مشاكل النزوح  إلى مدن الكبرى. 
- مشكلة الدعم الذي كان متاحا و حلا أمثل للحفاظ على القدرة الشرائية والسلم الاجتماعي في فترة الوفرة والفائض البترولي، ليصبح مصدر خطورة  وانفجار اجتماعي عند التفكير في مراجعته. 
- تبيّن أنّ الصناعات المحلية تنتج سلعا مكلّفة وغير قابلة للمزاحمة والتصدير بحكم تعويلها على الدعم والحماية. 
- فترة انخفاض الفائض البترولي وارتفاع الدعم  والإشكالات الهيكلية  والحلول غير المدروسة  وسوء التصرف، كانت سببا في بروز عجز في التوازنات العامة وتفاقم مشكلة الديون الخارجية. 
وفي النهاية وللحكم على هذه التجربة بايجابياتها وسلبياتها، فقد انتهت كذلك بأزمة سياسية واجتماعية مثلتها أزمة في ميزان الدفوعات  وتقلبات وانفجار اجتماعي مع دخول المؤسسات الدولية على الخط وفرض الشروط والاصلاحات مقابل اسناد القروض وإنقاذ  الاقتصاد الوطني .
أمّا ما خلفته هذه التجربة، فقد كان على درجة من الخطورة من حيث  تفاقم الدين الخارجي وعجز الدولة عن السداد مع الاستمرار في توريد متطلبات الاقتصاد مما أدّى  إلى فرض حزمة من الإصلاحات من المؤسسات المالية الدولية  ومما زاد في تعميق الأزمة تزامن ذلك مع الجفاف و احتداد الأزمة الاجتماعية والسياسية كالصراع العنيف بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل ثم انتفاضة الخبز إلى أن انتهت بانقلاب السابع من نوفمبر 1987. 
وقد اقترح صندوق النقد الدولي لانقاذ الاقتصاد التونسي برنامجا تبنته الحكومة وسمّي آنذاك ببرنامج الاصلاح الهيكلي وتلخصت أهم بنوده في  :
- ضرورة  تحقيق التوازن الكلّي ومزيد التوجه نحو اقتصاد السوق والخوصصة.
-  مراجعة سياسة الدّعم والحماية الجمركية. 
- إعداد الاقتصاد للاستقلال عن المداخيل النفطية.
-  التحكم في النفقات العمومية والحدّ من عجز ميزانية الدولة وذلك عبر ترشيد الدعم والاستهلاك العمومي وتقليص التشغيل في الوظيفة العمومية. 
- خوصصة المؤسسات العمومية في قطاع السياحة وصناعة النسيج ومواد البناء والصناعات الميكانيكية والقطاع البنكي. 
  - فتح الحواجز الجمركية بتقليص المعاليم وإلغاء الحواجز الكمية 
  -  استقلال السياسة النقدية عن السياسة الاقتصادية. 
  - العمل على تحرير تدريجي للدينار والتحكم في الاصدار النقدي والقروض المسندة. 
  - متابعة التضخم. 
وبذلك انخرط الاقتصاد التونسي في تطبيق هـــذه الاصلاحات التي كان لها الاثر المؤلم على المستوى الاجتماعي. 
رابعا  : مرحلة تحرير الاقتصاد و متطلبات العولمة:        
تعتبر هذه المرحلة التي ابتدات مع سنوات التسعينات والتي تمّ فيها التوجه إلى الانخراط في تحرير الاقتصاد والتوجه تدريجيا نحو اقتصاد السوق و بدأ ذلك بالتخلّي عن دعم الإنتاج المحلي والحماية الجمركية مقابل توسيع الضريبة غير المباشرة  و كذا ارتفاع الاستيراد وانفتاح السوق على المنتوجات العالمية ، وفي المقابل تم العمل على  إعادة تأهيل المؤسسات الوطنية la mise à niveau  لرفع قدرتها التنافسية. ولأجل ذلك كان من الضروري إعادة النظر في الأطر القانونية لتشجيع الاستثمار والمبادرة الحرّة وانتصاب المؤسسات (قانون إنقاذ المؤسسات، ظهور شركات المناولة، تنقيح مجلة الشركات..)
كما اتسم الاقتصاد في هذه المرحلة بالتركيز على دعم قطاع الخدمات ورفع مساهمته في الناتج المحلي وتشجيع الاستثمار الأجنبي بواسطة الامتيازات الضريبية و كذا التشجيع على التصدير و انتصاب المؤسسات المصدّرة .
و كان من الضروري ايضا ان يتم ملائمة السياسة النقدية و المالية و لذلك توجهت الاصلاحات الى  التحويل الجاري للدينار وتطوير أنظمة تحويل العملة ......
و لمواجهة البطالة و ضمان التوزن بين العرض و الطلب في سوق الشغل كان من الضروري تشجيع التكوين المهني وتشجيع المبادرة الفردية  والانتصاب للحساب الخاص خاصة منه الشباب من جهة و تشجيع بعث الشركات الصغرى والمتوسطة من جهة اخرى
ولا يمكن في هذا الاطار إنكار الإيجابيات التي جعلت الجميع يعترف بنجاح التجربة التونسية باعتراف كل المؤسسات الدولية حتى لتكون التجربة التونسية نموذج يحتذى به لبقية دول العالم و صار الحديث يدور حول المعجزة الاقتصادية التونسية باعتبار الأرضية المشجّعة  للاستثمار كما لوحظ بما لايدع مجالا للشك ارتفاع الاستهلاك وارتفاع التصدير وانعكاسه إيجابا على الميزان التجاري.
كما ارتفع كذلك مستوى الدخل الفردي مع التحكم في نسبة التضخم (4 % ) بالاضافة توسع النسيج المؤسساتي وانتصاب المؤسسات العالمية وتوفر اليد العاملة المختصة كل هذا يعكسه المؤشر الايجابي المتمثل في معدل نسبة النمو  خلال سنوات المرحلة حوالي5 % .
لكن من جهة اخرى، لا يمكن إغفال الوجه الآخر الذي ميّز المرحلة حيث كانت لتطبيقات بنود الإصلاحات على الميدان تعبيرات وآثار دون النتائج التي كان يرجى تحقيقها. فباسم الخوصصة وتحت هذا العنوان استفادت عائلات القصر والقريبة منها  بشراء المكتسبات العامة بأسعار رمزية لإعادة البيع بالأسعار الدولية كما انتشرت  السمسرة في الصفقات العمومية وتقاضي عمولات من المشترين وكذا بالحصول على قروض لشراء المؤسسات.
وتحت عنوان فتح الحواجز الجمركية، تسبب تطبيق هذا الخيار من دون الاستعداد الكافي له وتوفير الاطار الذي يقف دون سلبياته في تقليص مداخيل ميزانية الدولة بصفة ملحوظة. ويضاف إلى ذلك  ظهور مافيات التهريب المنظم الذي كان يتعاطاه أقارب الحاكم والذي أدى في وقت ما إلى تهريب جميع أنواع السلع وحتى الأسلحة أحيانا. 
أما على المستوى المالي، فقد كانت مورست سياسة نقدية ومالية أخرى غير معلنة ساهمت في شلّ القطاع المالي وإغراقه بالديون بإسناد قروض طائلة للمقربين من الحاكم مع تزييف أرقام المؤشرات وبعث الشركات الوهمية  وشركات الاحتيال مما أدى إلى إضعاف الجانب الائتماني للحركة التجارية .
وقد تركت هذه المرحلة شديد الأثر على المجتمع التونسي من كل الوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية :
فعلى المستوى الاقتصادي  خلفت هذه التجربة  تهميش واستنزاف القطاع الزراعي الذي كان  يمثل أحد دعائم الاقتصاد و أهمية  دوره في قطاع التصدير. كما عجزت السوق على استيعاب اليد العاملة  فارتفعت نسبة البطالة وتفاقم العجز الزراعي الغذائي والواردات الزراعية  ومن جهة أخرى، تكدّست الثروة لدى فئة دون أخرى نتيجة جشع المسؤولين السياسيين واحتكارهم للثروة وانفاقها لإشباع غرائزهم دون الاستثمار المنتج بالإضافة إلى التراجع الكبير في إحداث مواطن الشغل  مقابل إنفاق الأموال على البهرج والزينة وبناء القصور.
أما على  المستوى الإجتماعي، فقد شهد انخرام النسيج الاجتماعي نتيجة  توافد أعداد هائلة من الشباب إلى سوق الشغل دون أن تخصص الاستثمارات اللازمة لاستيعابهم على مدى عقود. واتسعت الفوارق الجهوية بين المناطق الساحلية المهيئة للاستثمار منذ الاستعمار وبين المناطق الداخلية التي ظلت تفتقر إلى البنية التحتية المشجعة على الاستثمار.
وإذا كان لنا أن نستخلص دروسا من هذه المرحلة فإنه يتبين من الواضح  ضرورة العمل على الدراسة واستباق الحلول بالتنبئ  بالأزمات العالمية مسبقا وأن حلول المؤسسات المالية الدولية ليست دائما حلولا ناجعة ومثالية، حيث تبين أنها أخفقت في الإصلاح الاقتصادي بتونس. كما أنه من الضروري التنبّه إلى فشل الإصلاح الذي لا يراعي العدالة بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق الجهوية  أوالذي لا يراعى فيه توازن و تنوع بين الأنشطة الاقتصادية.