مصلحون

بقلم
فيصل العش
من فقهاء العصر العلامة محمد الطاهر بن عاشور

 العلامة المفسر محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الطَّاهر بن عاشور ، ولد في تونس سنة (1296) هـ ، الموافق (1879) م ، وهو من أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس. حفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة 1892م وهو في الـرابعةَ عشرَ من عمره، فأظهر نبوغًا منقطع النظير، وثابر على تعليمه به حتى أحرز شهادة التطويع وهي أعلى شهادة علمية يمنحها جامع الزيتونة، وذلك في سنة 1899م وسمّي (عدلاً مبرزا) ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة 1903م كما اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة 1900م.  

برز في عدد من العلوم ونبغ فيها ، كعلم الشريعة واللغة والأدب ، وكان متقنا للُّغة الفرنسية ، وعضواَ مراسَلاً في مجمع اللغة العربية في دمشق والقاهرة ، تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس ، والقضاء ، والإفتاء. سمي حاكما بالمجلس المختلط سنة 1909 م ثم قاضيا مالكيا في سنة 1911. ارتقى إلى رتبة الإفتاء وفي سنة 1932 اختير لمنصب شيخ الإسلام المالكي، ولما حذفت النظارة العلمية أصبح أول شيخ لجامع الزيتونة واستقال من منصبه بسبب العراقيل التي وُضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، من جانب بعض الزيتونيين المتحفّظين على خطواته الإصلاحية، ومن جانب زعماء "الحزب الحر الدستوري الجديد". ليعود إلى منصبه سنة 1945 وظل به إلى ما بعد اللاستقلال. في سنة 1956م، وبعد استقلال تونس أُسندت إليه رئاسةُ الجامعة الزيتونية، إلى أن أُحيل إلى التقاعد بسبب موقفه من الحملة التي شنّها الرئيس التونسي بورقيبة ضدّ فريضة الصيام.
جهوده الإصلاحيّة ومآثره الوطنية:
استطاع ابن عاشور منذ وقت مبكر الإطلاع على أفكار الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وغيرهم من المصلحين في الساحة العربية والإسلامية، وقد تعزز إيمانه بالحاجة الى ذلك بما برز في بلاده أيضا من دعوة الى التغيير بقيادة ابن أبى الضياف وخير الدين التونسي وغيرهما من المجددين إلا انه وبقدر ما اشتد تعلقه برواد الإصلاح المسلمين فإن متابعته لما كان يحدث بالغرب لم تتوقف بفضل احتكاكه المتواصل بثقافته ورصده الدائم لمختلف إنجازاته.
لقد تشكّل الفكر الإصلاحيّ للشيخ ابن عاشور في سياق الممارسة، حيث كانت تجربته في التدريس بكل من جامع الزيتونة  ممثلا لتيار الأصالة ، والمدرسة الصادقيّة  ممثلا لتيار المعاصرة،الحاضنة الأولى لفكره الإصلاحيّ، ودوّن آراءه هذه في كتابه النفيس (أليس الصبح بقريب؟) الذي ألفه سنة 1907م  والذي كشف من خلاله عن معالم منهجه في الإصلاح، وأسلوبه في التغيير نحو الأفضل ، وحدَّد فيه أسباب تخلف العلوم، مصنفا كل علم على حدة، واعتبر أن إصلاح حال الأمة ونهضتها ، إنما تتمّ بتغيير فكرها ووعيِها، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح مناهج التعليم، وذلك من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة، التي تُدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي". 
"وشملت عناية الطاهر بن عاشور إصلاح الكتب الدراسية  فاستبدل كثيرا من الكتب القديمة التي كانت تُدرس وصبغ عليها الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة ودعا إلى تغيير أساليب التدريس وذلك بالتقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم".
وبسبب مواقفه الوطنيَّة المستندة إلى منهجه الإصلاحيّ التجديديّ، تعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت الأولى ثلاثة عقود بداية من سنة 1910 م ، تصادم فيها مع الاستعمار الفرنسي  نتيجة فتواه المعارضة لقانون التجنيس والثانية سنة 1961 م نتيجة رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وتصريحه الإذاعي بالعبارة الشهيرة  : "صدق الله وكذب بورقيبة".
جهوده العلميّة والتجديدية:
كان الطاهر بن عاشور فقيها مجددا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة أصابهم بالتكاسل وعطّل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير. فكان أول من دعا إلى تجديد أصول الفقه، في هذا العصر الحديث، وذلك في مقدمة كتابه (مقاصد الشريعة)، الّذي قدّمه باعتباره أنموذجاً لأصول الفقه القطعيّة المستخلصة من أصول الفقه.
وقد أسهم ابن عاشور في تأصيل القيم العالمية الكبرى، على أساس نموذج معرفي غير تقليدي، ووضع معالم منهجية ومعرفية بهدف التأصيل منها:اعتماد الأمة وحدة التحليل، وتأسيس المقاصد علما مستقلا عن أصول الفقه، والصياغة الحقوقية للنظرة الفقهية بدلا من الصياغة الواجباتية، ومراعاة الفطرة الإنسانية.
مؤلّفاته:
ألف عشرات الكتب في التفسير ، والحديث ، والأصول ، واللغة ، وغيرها من العلوم ، منها تفسيره المسمَّى : " التحرير والتنوير" ، و" مقاصد الشريعة " ، و" كشف المعطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ " ، و" أصول الإنشاء والخطابة " ، و" النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح " ، وغيرها من الكتب النافعة .
ومن أهم مؤلفاته المشهورة تفسيره للقرآن الكريم تحت عنوان " تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، في تفسير الكتاب المجيد" ، ثم سمي اختصاراً بـ " التحرير والتنوير" .  وهو محصّلة خمسين عامًا من العمل، حيث وضع فيه نظرته التجديدية والإصلاحية، وتميز هذا التفسير بالاهتمام بالجوانب البلاغيّة للقرآن، وعدم الاتّكال كليةً على التراث العلمي للتفسير، حيث ينتقد الشيخ  الكثير من المفسرين، كما نقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير هو الولع بالتوقف عند النقل حتى وإن كان ضعيفا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء الرأي ولو كان صوابا حقيقيا، لأنهم اعتمدوا بحسب رأيه على من سبقوهم دون إضافة قيمة علمية تذكر، وقد قال في هذا الصدد: "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به". ويعد التحرير والتنوير من أهم التفاسير الذي يرجع إليها المختصون وقد بين منهجه فيه في مقدمته فقال : " وَقَدِ اهْتَمَمْتُ فِي تَفْسِيرِي هَذَا بِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ ، وَنُكَتِ الْبَلاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَاهْتَمَمْتُ أَيْضًا بِبَيَانِ تَنَاسُبِ اتِّصَالِ الآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ... وَلَمْ أُغَادِرْ سُورَةً إِلاّ بَيَّنْتُ مَا أُحِيطُ بِهِ مِنْ أَغْرَاضِهَا ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِي جُمَلِهِ كَأَنَّهَا فِقَرٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ رَوْعَةِ انْسِجَامِهِ وَتَحْجُبُ عَنْهُ رَوَائِعَ جَمَالِهِ .
وَاهْتَمَمْتُ بِتَبْيِينِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، بِضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ مِمَّا خَلَتْ عَنْ ضَبْطِ كَثِيرٍ مِنْهُ قَوَامِيسُ اللُّغَةِ .
وَعَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمُطَالِعُ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ ، وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَوَائِدَ وَنُكَتًا عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ ، فَإِنِّي بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي الْكَشْفِ عَنْ نُكَتٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ خَلَتْ عَنْهَا التَّفَاسِيرُ ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ هِمَمُ النَّحَارِيرِ ، بِحَيْثُ سَاوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى اخْتِصَارِهِ مُطَوَّلاتِ الْقَمَاطِيرِ ، فَفِيهِ أَحْسَنُ مَا فِي التَّفَاسِير ِ، وَفِيهِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي التَّفَاسِير ، وَسَمَّيْتُهُ : تَحْرِيرَ الْمَعْنَى السَّدِيدِ وَتَنْوِيرَ الْعَقْلِ الْجَدِيدِ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ : التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِير" . انتهى من "التحرير والتنوير" (1/8) 
ولعل نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من روادها الإمام محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن، وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في معاني القرآن. وكان لتفاعل الطاهر بن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب "مقاصد الشريعة".
انطوى التوجه المقاصدي لدى بن عاشور على وعي نقدي لأسس بناء العقل الفقهي القديم، وعلى هاجس تطوير البناء الفكري للمنظومة التشريعية الإسلامية على النحو الذي يجعل من التشريع عامل تنشيط للحركة الحضارية، وعنصر تغذية لتقدم المجتمع الإنساني، ويجنب المسلم عوارض الصدام بين النص والواقع سعيا نحو تحقيق التوازن المطلوب بين موجبات الولاء لتعاليم الدين من ناحية، والاستجابة لمقتضيات التواصل الواعي مع متغيرات الزمان والمكان من ناحية ثانية.
لقد حاول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عبر ووفق قراءته المقاصدية الواعية تحرير صحيح المنقول مما لصق به من أباطيل، والرد عما يثار حول الإسلام والمسلمين من شبهات من خلال عمله الدؤوب على إحكام الوصل بين النقل و العقل، وتوطيد العلاقة بين القديم والجديد، ودعوته الى عدم التوقف عن إصلاح المؤسسة التعليمية وتوفير الدعم اللازم لها، وإعظام منزلة المرأة والتأكيد على حضورها ومشاركتها باعتبارها دعامة الأسرة، ومربية الأجيال، وناقلة القيم، الى جانب رفضه الدائم لكل أشكال الغلو ومظاهر التعصب لأن الحِجْر على الرأي ـ والكلام له ـ يكون منذرا بسوء مصير الأمة ودليلا على أنها قد أوجست في نفسها خيفةً من خلاف المخالفين وجدل المجادلين.
وقد توفي االشيخ المصلح لطاهر بن عاشور في 13 رجب 1393 هـ الموافق لـ  12 أوت 1973م عن عمر يناهز الـ (98) عاماً