الادب الهادف

بقلم
جيلاني العبدلّي
مُتسوِّلونَ لا يتعفّفُونَ

 نزلتُ العاصمة التونسية يوما لشأن أقضيه واتجهتُ إلى شارع الحرية لأمر أسوّيه. 

ولما بلغتُ مستوى حديقة الحبيب ثامر، استوقفني مشهد لافتٌ، فلازمتُ مكاني وتابعتُ فصوله في فضول. 
شابٌّ منتصِبٌ على الرّصيف يبيع حزما من "الكاكي" مرصّفة بدقةٍ ونظامٍ فوق كيس كرْتُونيّ قد انتفض من مكانه كالمصعوق وجرى هاربا حاضنا بضاعته، وما إن اقترب من جثة مفروشة على الأرض لعجوز بدتْ للناظرين متداعية الجسد متهالكة النفس، حتى وَطَأَ طرفَ أصابعِ يدِها المطروحةِ للسؤال في اعوجاج وارتعاش مُردّدا على مسمعها: "بوليس، بوليس ، قومي، بوليس"
ثم ازورّ ببضاعته متخفّيا عن عيون الأمن.  
وما كادت تلك الجثّة المطروحة على الإسفلت تشعر بوطئه الموجع وتسمع صوته المزعج، حتى جمعتْ نفسها واستعادتْ عافيتَها وعنفوانَها وخفّتَها، واستوتْ واقفة منطلقة تسابق الريح هاربة لم يَعُدْ عليها من أثرٍ لِمَا كان يوحِي بعجز لها في البدن أو مُعيق لها في الذّهن، وتوقّفتْ عند المنعطف إلى جانب مُغيثها. 
ولمّا لاحظتْ أنّ سيارة الأمن لم تعرّجْ على المكان حيث كانا ينتصبان، ترجّلتْ عائدة وهي تلعنُ الشابّ وإلاه الشابّ مخاطبة إيّاه قائلة: 
"لقد مزّقتَ أحشائي وأذبْتَ قلبي". 
وما كادتْ تبلغُ مَرْبَضَهَا حتى هوتْ وانطرحتْ وقوّستْ رجلها اليمنى وجعلتْ تحشوها تحتها، ثم ثنتْ ذراعها اليسرى إلى الخلف وغرستْ كتفها في الأرض، ثم مدّتْ يدها اليمنى للسؤال في ارتعاش وهي تميل برأسها إلى الأسفل بفكّين معوجّين، ثم أخذتْ في ترديد مقاطعَ باعثةً على الشّفقة والعطف: "ربّي معاكم يا مُوممنين عاونوا هاالمسكينة، ربّي معاكم يا مسلمين انقذوا هاالوليّة" 
هذه الواقعة الغريبة والحادثة الفريدة، ذكّرتني في الأمس القريب بتلك السيّدة الجاثمة في بهو أحد المساجد بمدينة المحمّدية مُستعطفة مُتسوّلة كان قد انتابها تشنّجٌ وحنقٌ على أحد الخارجين من صلاة الجمعة حين رقّ لحالها ودسّ في يدها قطعة نقدية من فئة مائة مليم فقالتْ في سُخطٍ على المتبرعين والمتبرعات: 
"غريبٌ أمرُكم هنا أيّها المصلّون، في جهات أخرى يتصدّق علينا أهلُ الخير بقطع نقدية من فئة الدينار، أمّا أنتم في هذه الجهة المنحوسة فلم نعرف منكم في النفقة غير القطع من فئة المائة مليم، كأني بكم لا تعبئُون بغلاء المعيشة وأثرها السلبيّ علينا؟" 
ومع هذا المشهد الساخط عادتْ بي الذاكرة إلى شابّ آخرَ، كان قد اقترب مِنّا ونحن متوقّفون في مفترق الطريق عند الإشارة الضوئيّة، وطلب منّا عطاءً يكون لنا ذخرا يوم الحساب، وما إن أخرج مرافقي يده من جيبه وبها قطع نقدية مختلفة وجعل يتخيّر منها قطعتين من فئة المائة ملّيم، حتى هدج الشابّ بصوت متشنّج محتجّا بقوله: 
"يا سيّد، كنْ كريما يرحمك الله، وهاتِ واحدةً من هذه، مشيرا إلى قطع من فئة خمسمائة مليم أو من فئة الدينار مضيفا: 
"لماذا تتوقّف صدقاتكم دائما على القطع النقديّة من فئة مائة الملّيم"؟ 
ابتسم مرافقي لثورة "المتسوّل" وخروجه عن صمته وجاراه في مطلبه، فناوله خمسمائة ملّيم وواصلنا طريقنا معلقين على المشهد، وقد أبديتُ له يومها أنّني قد امتنعتُ من زمن غير بعيد عن إعطاء ما قد يتيسر لي من مال لممتهني التسوّل في المساجد والأزقة والطرقات والمزارات لمجرّد عجزي عن تبيّن مستحقّي الصّدقات من غيرهم، وسردْتُ له حادثةً طريفةً كنت قد عايشتُها مفادها أنني قد رأيتُ سيّدة كثيرا ما كانت تتردّدُ على صناديق القمامة صباحا لتتخيّر منها ما تراه مناسبا للاستعمال من الملابس والأواني، فآليْتُ على نفسي أن أخصّها بما يزيد عن حاجتي. 
وجَرَى الأمرُ عندي كذلك لأشهر معدودة، وعملتُ على تشجيع كثير من الأصدقاء والأقرباء ليخصوها بصدقاتهم، لعدم امتهانها للتسوّل رغم احتياجها البيّن. 
لكنّ صدمتي كانتْ كبيرة يوم أخبرني أحدُهم يوْما أنّ من رأفتُ لحالها وكثيرا ما حدّثتُ عنها، ليست إلا سيّدة مخبولةً قد اعتادتْ - وهي من أسرة ميسورة- أن تجمع أشياءَ شتّى كل صباح، فيتولى أهلها إتلافُها عند كل مساء. 
هذه الوقائعُ وغيرها ممّا يشبهها في عالم التّسوّل تشعرُني باشمئزاز بالغ من جحافل المتسوّلين الذين يمتهنون التسوّل وينتصبون في مداخل المساجد والمزارات والطرقات والمحطات والأروقة وأزداد قناعة بأنّ المحتاجين في الحقيقة غالبا ما يبدون للنّاس أغنياء من فرط تعففهم وعزة نفوسهم كما أشار إلى ذلك قول الله تعالى:
 "يحسبهم الجاهل أغنياءَ من التعفّف"
ذلك أنّهم 
 "لا يسألون النّاس إلحافا". 
فظاهرة امتهان التسول المتنامية في تونس، تبرزُ حاجة الوطن الملحّة إلى منظّمات إنسانية مستقلة ومختصة، تتمتع بحرية النشاط الإنساني، وتعمل بمعايير دقيقة في ضبط المحتاجين، وجمْعِ الصّدقات والزكوات لفائدة الفقراء والمساكين في نطاق المسؤولية والشفافية. 
إذ بميلاد هذه الجمعيّات الخيرية يصبح يسيرا التعرّفُ على المحتاجين الحقيقيين وتنظيمُ صدقاتهم.
 وعندها قد يُصبح مُبرَّرًا حجرُ التسوّل وقد يصبح مقبولا ملاحقةُ قوافلِ المتسوّلين، وبالتالي تجنيب بيوت الله وخلق الله طوابيرهم وإحراجهم وأذاهم.