تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (7)
 تكبر «رجولة» وتكبر معها تطلّعاتها، وأصبحت تراودها أفكار طالعتها وبحثت فيها فشغلتها، كما أصبحت تشارك أباها قراءة ما حصل بين يديها من منشورات تعوّد اقتناءها. تكبر «نوفل» وتكبر معها أيضا عقدها التي ما أن تظن نفسها فكت إحداها إلاّ برزت عقد أخرى كبيسة أكثر من قبل. وفهمت أنّ الحلّ لا يكون إلاّ عبر المضي الى الإمام دون الالتفات الى الخلف. عملا بقوله تعالى يخاطب لوطا «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَد ......... إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» . أجل الصّبح لديها قريب. ستصبح «رجولة» كما أرادتها والدتها أن تكون. 
أصبحت «نوفل» (رجولة) شابّة جميلة متألّقة، فاتنة إذا ابتسمت، ورقيقة إذا همست، ناعمة البشرة قمحيّة، طويلة القدّ قويّة البنية عريضة الكتفين ومسطّحة الصّدر، ضيقة الخصر يهابها من لا يعرفها. شعرها يميل الى السّواد، مسترسل الى الخلف، يغطّي كتفيها وقد قصّ بعناية وتناسق لينتهي في خطّ مستقيم. جعلت شعرها منسدلا فوق ربطة عنق جميلة وشّحتها من الأمام بعقدة الفراشة، يتوسّطها رأس دبّوس يحمل كلّ يوم شكلا مختلفا عن الآخر. أصبح هذا الطّوق يلازمها، وجعلته تحت ياقة قميصها جزءا من هيئتها وهيبتها، ولا تنزعه إلاّ في خلوتها.
أصبح نسق حياتها يبدو هادئا ورتيباً لكلّ من يعرفها، وإن كان أو كانت من المقرّبين إليها. لم تحتفظ بأصدقاء إلاّ نادرا بعد أن علّمتها التّجارب معنى الصّديق حافظ الودّ والأسرار. ولكنّ هل أطلعت أحدا من المفضّلين منهم على سرّها؟ أو لعلّ استحقاقهم لهذا التّفضيل جعلهم في موضع الثّقة التي استحقّوها، فلم يكشف أحد لها علمه بالشّيء، ولم تجرؤ البنت يوما على التّلميح لأحد بشيء من ذلك. ويبدو أنّ هؤلاء الأصدقاء عيّنة استثنائيّة من المجتمع الذي تطمح إليه «نوفل»، ومثلهم آخرون يقبلون بالآخر كيفما كان. نعم، ولِم لا؟ وهي التي تقاسمهم أفكارهم وتطلّعاتهم، وتشاركهم نشاطهم الجمعياتي الدّاعم للحرّيات في كلّ مجالاتها وخاصّة تلك المتعلّقة بالذّات الإنسانيّة لكلّ فرد من كلّ فئة دون استثناء. وهي اليوم لا تثق إلاّ في أصدقائها، هؤلاء الذين لا يتجاوز عددهم عدّ أصابع اليد، انتقتهم كما انتقوها بعد أن أخضعتهم كما أخضعوها لاختبارات قاسية، أفرزت هذه المجموعة أصدقاء يتشابهون في نسق العيش وصيغ التّفكير، ويتقاسمون نفس الأهداف. ورغم كلّ هذا التّقارب كانت نوفل دائمة الحذر.
وكيفما كانت، كان أبوها أكثر منها تخوّفا، وكان يتابع تحرّكاتها من بعيد دون أن يلفت انتباهها. أنّه يتابع نموّها لحظة بلحظة، فلم يدرك تسارعه الذي فاجأها هي أيضا حتّى أصبح يضايقها ويحرجها. وتحت رقابة «بسمة» تعلّمت كيف تتعامل مع جسمها بما لا يناسب سنّها. 
أبوها رجل طيب اكتشفته قريبا منها منذ نشوء ذاكرتها في حضنه ملفوفة من البرد وعلى بطنه يلاعبها وينساق معها دون حدود، فيركبها فوق ظهره كأنّها على صهوة حصان ويركض بها على يديه وركبتيه، ومن حين لآخر يطلق صهيلا طويلا حتّى يحمر وجهه. هذا أبوها الذي يدلّلها وتجد عنده دون سواه الأمان المفقود من شدّة حرص أمّها والخوف عليها من كلّ النّاس.
كان الوحيد الذي يُسمح لها القرب منه والوحيد الذي يجوز لها الاحتماء به منذ صغر سنّها والنّوم على صدره وفي حجره. كيف لا ؟ وقد كان لا يتوانى في تلبية طلباتها إلى حدّ الدّلال الذي كانت تقف بسمة عند حدوده، وأصبحت توقفهما أبعد من ذلك كلّما تقدّم بالطّفلة العمر. ثمّ أصبح هو نفسه بعد ذلك، يتّقي هرجها الذي صار لا يطيقه من ثقل جسدها الممتلئ، والذي تسبّب له أكثر من مرّة في أوجاع في المفاصل وأوجاع أخرى في الظّهر.
تتذكر كيف كان الانفصال الجسدي بينهما تدريجيّا حتى أصبح تباعدا، وكأنّه باتفاق بينهما حيث أصبح أبوها مدلّلها يشتكي من عدّة أوجاع وهي التي استحسنت في الحقيقة هذه الذّريعة لتعتذر وتنسحب رويدا رويدا، ثمّ تبتعد عنه منذ أن أصبحت تخجل من جسدها الذي بدأ يتشكّل وبان ما أصبح لا يلفت نظر أمّها لأنّها منتبهة إليها طول الوقت، بل أصبح يثير فيها عاصفة من الغمز واللّمز. ولم تتفطّن البنت إلى المغزى من العاصفة الأولى إلاّ بعد أن تكرّرت وتحوّلت ذات مرّة إلى تأنيب وشدّ من الشّعر.
منذ ذلك الحين لم يفتر التّواصل بين البنت وأبيها وإن أصبح عن بعد. وحسب ظنه فهو لا يترك كبيرة ولا صغيرة تخصّها إلاّ اطلع عليها دون علمها وسوّاها من حيث لا تشعر، كما كان كثير الانشغال بكلّ ما قد يثير قلقها نتيجة وضعها الاستثنائي، ويعمل كلّ ما بوسعه لتجنّب وقوعه. أمّا البنت فكانت يقظة وتستشعر كلّ حركات أبيها من حيث لا يعلم ولا تتضايق من عنايته وشغفه بها طالما تعلم يقينا أنّ أباها لا يصله منها إلاّ ما أرادت إيصاله إليه.
وفي المقابل، فهي كانت شديدة التّعلّق به ولا تبادله الأفكار بل تتلقّى منه كلّ شيء دون نقاش، وتؤجّل رأيها المخالف لمحاورتها الذّاتيّة. فكانت تلاحق أباها كذلك في قراءاته وكتاباته التي يتركها لها على مكتبه بسابق الإضمار وأحيانا مع التّرصد. فكان أبوها لها نافذة مفتوحة على واقع البلاد.
«... على خشبات المسارح بنيت عوالم مماثلة لما يدور على ركح الواقع. والواقع ليس فقط ما سجله التّاريخ بل هو أوسع وأشمل من ذلك، هو سجل الإنسانيّة وأثرها فكرا وساعدا. فهل مازال للمسارح من رواد وهل مازال ركح المسرح يتّسع لمآسي العالم؟ ...»
تتوقّف عن القراءة عند انتشار صورة أبيها فجأة على صفحة الورقة التي بين يديها وأخفت خلفها ما دوّنها. تعوّدت تنادي أباها «بابا». بهذا الاسم الذي لا يحمل إلاّ معنى وحيدا ينفرد به، وبهذا الاسم غير معرّف وكلّ تعريف ينقص من حجم الانتساب ويشكّك فيه، تناديه وتناجيه. بكل اعتزاز وفخر تناديه بملء فيها «بابا» اعترافا وحمدا للّه واستحقاقا لأبيها بحمل هذا الاسم المشاع لفظا. 
هل توقّفت إعجابا بالبابا أم بما كتب أبوها، هذا الذي لم يكن كاتبا ولا صحفيّا، ولكن لم يكن بعيدا عن الأدب ومشتقاته، إذ ظلّ ضمن من تبقّى متعلّقا بالكتاب ويلتهم كلّ ما توفّر بين يديه اعتبارا منه أنّ التّجربة الفرديّة المعاشة لا تبني شخصيّة الفرد بما يكفي. فاختار أن يكون مثقّفا، وأن يمسك من كلّ شيء بطرف. ولا يتسنى له ذلك إلاّ عبر الكتاب، قصّة ورواية ومسرحا وتاريخا. أمّا الشّعر فكان يراه ترفا. فعلى قدر ما كان زاهدا في الدّنيا إلى حدّ البخل، فهو مدمن على القراءة ولا يغلى عليه كتاب إن لم يكن بين يديه كتاب. وحتّى لا يقع في الفراغ ويلتجأ حينها إلى المكتبات التي ترهق جيبه وتأكل من مدخّرات الشّهر الزّهيدة، كان يزور بانتظام عددا من باعة الكتب القديمة تعوّد عليهم وتعودوا يعدون له ما يشتهي وما يوصي به من عناوين. 
أبوها لم يجرؤ يوما على اقتحام عالم التّكنولوجيا الحديثة، ولم تتح له بعدُ مواكبتها حتّى يتسنّى له تحميل أو تنزيل بعض الكتب والمجلاّت الجديدة من مواقع الواب. وواصل يخصّص من مرتبه المتواضع جزءا غير قليل للكتب والمجلاّت الورقيّة. وتفطّنت «نوفل» البنت المدلِّلة للبابا والنّبيهة لحجم الاقتناء الشّهري من كتب وصحف ومجلاّت، وتأكّدت كم هي باهظة ومتنامية كلفة الثّقافة. ولم يكن اكتشافها محلّ استغراب لمعرفتها كم ينفق أبوها لتوفير حاجيّاتها دون تردّد إذ يعتبره استثمارا لمستقبل ابنته. فلم يتأخّر في تجهيز مكتبها بالحاسوب الأول ثمّ الثّاني لمّا أصبح الأول حسب ادعائها ضعيف الأداء لمعالجة التّطبيقات الجديدة المتطوّرة والنّهمة. أمّا الآن فهي تشغل حاسوبها المحمول (آزوس إي 7) تتباهي به بين صديقاتها. 
«كم أنت عظيم يا أبي. سأتولّى بنفسي عوضا عنك تنزيل الإصدارات الجديدة وتحميل قصد النّشر ما شرعت في تدوينه وتخزينه منذ سنتين». 
وشرعت «نوفل» في جمع المال بمساهمة أمّها «بسمة» لإعداد هديّة لأبيها الغالي واختارت أن تكون الهديّة حاسوبا شخصيّا محمولا يفي بالحاجة.