القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
الجبال أوتادا الجزء الأول: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) في اللغة والتفاسير
 تعتبر الجبال بالنّسبة لمقياسنا الزّمني ملامح دائمة على سطح الأرض. لذلك ظنّ الإنسان أنّها خالدة ومظاهر مستقرّة لهذا السّطح. غير أنّنا نعلم اليوم أنّ «مظاهر الدّوام وهم سببه قصر زمن حياة الإنسان على الأرض»(1). فالجبال التي تمثّل أحد أهمّ معالم سطح الأرض، مثلها مثل الصّحاري والمحيطات، تنشأ وتتطوّر ثم تزول. لم تكن هذه الحقيقة الطّبيعيّة واردة إطلاقا في أذهان المتعلّمين زمن ظهور الرّسالة الإسلاميّة فضلا عن العامّة، وذلك في بداية القرن السّابع ميلادي بالجزيرة العربيّة. ورغم ذلك فقد ورد ذكر الجبال في القرآن الكريم ما يقرب من أربعين مرّة (6 مرّات بالإفراد و33 مرّة بالجمع).  كما استعمل القرآن كلمة رواسي 9 مرّات وهو لفظ على وزن فواعل يعني جمع الكثرة، ولم يستعمل راسيات في علاقة بالأرض، وقد نسب المفسّرون لفظ الرّواسي الى الجبال باعتبار أنّ القرآن قال إنّ الجبال أرسيت (2) . وما يثير الاهتمام حقّا هو دعوة القرآن صراحة الى النّظر في الكيفيّة التي نصبت بها الجبال -من ناحية-وتناوله لصفاتها ووظائفها وخصائصها (طول الجبال، زوال الجبال، إرساء الأرض بالجبال ....) والإشارة الى مصيرها يوم القيامة. لقد استجاب العقل البشري كرها لتلك الدّعوة للإدراك العقلي للكيفيّة التي نصبت بها الجبال، وتوصّل في شأنها الى نتائج ترتقي الى حقائق يقينيّة رغم اختلاف المقاييس الزّمنيّة بين الأحداث التي ندركها بحواسنا والأحداث التي أدت الى انتصاب الجبال. نسعى من وراء هذه السّلسلة من المقالات الى قراءة بعض الآيات التي ورد فيها ذكر الجبال والرّواسي بعلاقة بالأرض وعلومها على ضوء ما توفّر من حقائق لا يرقى اليها الشكّ توصّل إليها العلم الحديث. فما هو الهدف من وراء هذه القراءة؟ إنّه ببساطة الإجابة على السّؤال التّالي: هل القرآن نصّ تاريخي كما يروّج له العلمانيّون والملحدون، بمعنى أنّه يعكس فقط المعارف التي كانت سائدة زمن النّزول بعلاقة بالجبال، أم أنّه يدحض هذه المقولة من خلال قدرته على استيعاب الحقائق العلميّة رغم ثبات صياغته اللّغويّة؟
سنركز البحث في الجزء الأول من هذا المقال الأوّل، الذي يحمل الآية 7 من سورة النّبأ كعنوان، على الجانب اللّغوي، حيث سنعرض معنى الجبل عند العرب وما تدلّ عليه كلمة «وتد» وذلك زمن نزول الوحي. وسنراجع أهمّ ما ذكر في التّفاسير القديمة عن هذه الآية. أمّا عمّا جاء في المحاولات الحديثة لتفسير هذه الآية، فلن نختلف كثيرا معها الاّ عندما سنتقدّم في الموضوع ونتناول علاقة الجبال والرّواسي بتوازن الأرض كما سيتوضّح لاحقا. فما معنى كلمة جبل وما معنى كلمة وتد في قواميس اللّغة العربيّة؟ 
مادة (جبل) في القواميس اللّغويّة
ورد في معجم العين:«الجَبَل: اسمٌ لكلِّ وتدٍ من أوتاد الأرض إذا عظم وطال من الأعلامِ والأطوارِ والشَّناخيب والأنضادِ. فإذا صغر فهو من الأكام والقِيرانِ»(3) . وورد في مقاييس اللّغة عن مادة (جبل): «الجيم والباء واللاّم أصلٌ يطَّرد ويُقاس، وهو تجمُّع الشّيء في ارتفاعٍ. فالجبل معروف»(4).  أمّا في المصباح المنير فورد ما يلي: «الْجَبَلُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ جِبَالٌ وَأَجْبُلٌ عَلَى قِلَّةٍ قَالَ بَعْضُهُمْ وَلَا يَكُونُ جَبَلًا إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَطِيلًا»(5) . وفي معنى اسم جبل في قاموس المعاني والأسماء نجد: «في الجبل ارتفاع، وفيه ثبات، ورسوخ، ويأوي اليه الناس، ويعتصم به الخائف، ما علا من سطح الأرض، ثابت لا يتزحزح» 
 أمّا في اللّغات غير العربيّة فليس هناك اختلاف في وصف الجبل على أنّه قطعة من الأرض ترتفع على الأراضي المجاورة لها، وهذا مثال لتعريف كلمة montagne في معجم للّغة الفرنسيّة -والتي ترجمتها الحرفيّة جبل -حيث يقول في شأنها «ارتفاع أرضي عال للغاية»(6) وآخر يقول إنّ الجبل هو «ارتفاع الأرض الطّبيعي، ويتميّز باختلاف قويّ في المنحدرات بين القمم وقيعان الوادي.»(7) 
لم يكن الجبل الى غاية القرن التّاسع عشر موضوع بحث علمي، بل كان هذا المعلم من معالم الطّبيعة الخلاّبة لغزا من ألغازها ولا يستثير الاّ مشاعر الشّعراء والأدباء لما يعكس من خلود وعظمة وشموخ. وقد عكس الإسم الذي أعطي لذلك المعلم الجهل الكامل بما تخفي الأرض في باطنها، وحمل فقط صورة ما تراه العين من أنّه تجمّع من الصّخور، مكدّس على ظهر الأرض، يمتاز شكله بالارتفاع العالي بالنّسبة لما حوله وبالاستطالة وتتفرّد هيأته بالعظمة والثّبات. أمّا ما نجده في بعض المعاجم من أنّ «الجَبَل اسمٌ لكلِّ وتدٍ من أوتاد الأرض إذا عظم وطال» -كما أشرنا سابقا من أنّه ورد في معجم العين للفراهيدي-فإنّ ذلك لا يعدو الاّ أن يكون استدعاء لما يقوله القرآن باعتبار أنّه مصدر رئيسي من مصادر اللّغة العربيّة رغم أنّ هذا لا يعني بالضّرورة أنّ القرآن لا يتجاوز المعارف السّائدة زمن نزوله بل العكس هو الصّحيح كما تبين ممّا كتبناه سابقا(8) وما سيتأكد مع هذا البحث.  
مادة (وتد) في القواميس اللّغويّة
نجد في معجم العين التّالي: «وتد: الوَتِدُ معروف، وجمعُه أوتاد، وتقول: تِدْ يا فلان وَتْدًا»(9) وفي تهذيب اللّغة « يقال: وَتِدٌ واتِدٌ: أي رأسٌ مُنْتَصِبٌ. ويقال: وَتَّد فلان رِجْلَه في الأرض إذا ثبَّتها»(10). وفي المصباح المنير ورد ذكر اختلاف لغات العرب في لفظ الكلمة إذ: «الْوَتِدُ بِكَسْرِ التَّاءِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَهِيَ الْفُصْحَى وَجَمْعُهُ أَوْتَادٌ وَفَتْحُ التَّاءِ لُغَةٌ وَأَهْلُ نَجْدٍ يُسَكِّنُونَ التَّاءَ فَيُدْغِمُونَ بَعْدَ الْقَلْبِ فَيَبْقَى وَدُّ وَوَتَدْتُ الْوَتِدَ أَتِدهُ وَتْدًا مِنْ بَابِ وَعَدَ أَثْبَتُّهُ بِحَائِطٍ أَوْ بِالْأَرْضِ وَأَوْتَدْتُهُ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ»(11). أمّا في لسان العرب فورد: «الوتِدُ، بِالْكَسْرِ، والوَتْدُ والوَدُّ: مَا رُزَّ فِي الحائِط أَو الأَرض مِنَ الْخَشَبِ، وَالْجَمْعُ أَوتادٌ»(12) . ونختم بالذي وجدناه بالمعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم حيث يرى كاتبه أنّ المعنى المحوري هو « الثّبات رسوخًا: كما هي وظيفة الوتد لتشدّ به الخيام ونحوها»(13) .  يتبيّن ممّا سبق أنّ من لوازم أصل لفظ الوتد هو الدّخول لجسم في محلّ بإحكام وشدّة مع الثّبات والتّثبيت، فالمعنى الأصلي للوتد يتضمّن إذا الانتصاب والثّبات، فهو جسم مغروز في الأرض يجمع بين خاصّتي الثّبات والتّثبيت. 
الجبال أوتادا: مفهوم قرآني
إذا اعتمدنا على ما يؤدّي لفظ الجبل من معنى وما يرسم لفظ الوتد من صورة عن الجبل، نرى في الآية 7 من سورة النّبأ، عندما نضعها في سياقها الزّمني، جرأة في إخبار النّاس عن وجود جزء مخفي عن العيون، ولا قبل لهم حينها من التّأكد منه: إنّ ما يبدو تجمّعا من الصّخور هو حسب الآية غير ذلك، بل هو كتلة صخريّة مغروزة في الأرض، ممّا يعني أنّ للجبال امتدادا داخل الأرض، فهو ثابت في الأرض من جهة ومن المحتمل، لغة، أن يكون مثّبتا لها من جهة أخرى، وهو ما يدلّ عليه لفظ الوتد ولا يقوله لفظ الجبل بمفرده باعتباره يعكس فقط الصّورة التي توجد في الذّهن عنه والمدركة بحاسّة البصر.  فلفظ الجبل لا يؤدّي معنى بعلاقة ببنية الجبل ووظيفته ولكن الجملة (الجبال أوتادا) تؤدّي ذلك المعنى بل وترسم صورة دقيقة عن الجبال بما يظهر منها وما لا يظهر وتخبر عن دورها في الطّبيعة.
«الجبال أوتادا» في التّفاسير القديمة
ولأهمّية التّفاسير القديمة في الإحاطة بالمعاني المحتملة للآية التي تخبر بأنّ الجبال أوتاد، سنعرض أهمّ ما جاء فيها، ولكن لابدّ من الإشارة الى أنّ تلك التّفاسير هي مقيّدة من جهة بما تسمح به اللّغة من معنى لكلمتي الجبل والوتد، ومن جهة ثانية بالتّصور السّائد عن الجبال زمن انتاجها أي هي مرآة تعكس المعارف العلميّة المتوفّرة آنذاك.
نبدأ من أقدم التّفاسير حيث يقول مقاتل في تفسيره (14) أنّ الجبال أوتادا «على الأرض لئلا تزول بأهلها، فاستقرّت وخلق الجبال بعد خلق الأرض». وفي نفس المعنى ينقل الطّبري(15) عن قتاده قوله «والجبال للأرض أوتاداً أن تميد بكم». ويعطي الطّبراني(16)  صورة متكاملة للمعنى الذي ساد لهذه الآية بقوله «والجبالُ أوتادٌ للأرضِ؛ لأنَّ الأرضَ كانت تنكفئُ بأهلِها على وجهِ الماء، فأرسَاها اللّهُ بالثّوابتِ حتى لا تَميدَ بأهلها». وهو ما يقوله الزمخشري(17) من أن «اللّه أرسى الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد» بمعنى أن الله «شبه الجبال بـ « الأوتاد « لأنها تمسك وتثقل وتمنع الأرض أن تميد» كما جاء عن ابن عطية(18) . وهذا التشبيه وصفه الألوسي(19) بالبليغ اذ غاب عنه وجه الشبه وأداته. و يرى ابن عاشور بأنه «يجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سَبح الأرض في الكرة الهوائية إذْ نُتُوّ الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكُرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تيّاره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة»(20). 
لم يهتم المفسرون كثيرا بما يوحي به استعمال لفظ الوتد من وجود امتداد للجبال داخل الأرض لأن الأمر يتجاوز معارفهم وذهبوا الى المراد من جعل الجبال أوتادا فقط وهو، حسب ما يؤول اليه معنى الوتد، ارساء الأرض وتثبيتها ومنعها من الميد والانكفاء والميل والاضطراب –وهذا كلامهم-كما تثبت الخيام بالأوتاد كما هو معروف لديهم. وقد دعموا هذا المنحى الذي ساروا فيه في تفاسيرهم أولا بالآيات التي تقول بأن الرواسي تمنع الأرض من الميد مثل «وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ»(21)  وقد اعتبر جميعهم أن الرواسي هي الجبال، وهو ما لا نتفق معهم فيه، وثانيا ما رأوا في ضخامة الجبال من ثقل تفعل في إرساء الأرض ما تفعله الاثقال لإرساء السفن حسب رأيهم. وهنا لا بد من الملاحظة أن في هذا التفسير تصور للأرض على أنها مستقرة فوق الماء وهو ما نجده مثلا في تفسير الرازي  للآية 15 من سورة النحل « وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» والتي يقول في شانها « المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء، فإنها تميد من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت. قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت، فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال»(22). وأما ما ورد في التحرير والتنوير عن ابن عاشور وذكرناه سابقا فهو دليل على أن العقل البشري يسعى دائما لفهم آية الأوتاد وغيرها من الآيات التي فيها إشارة لظاهرة طبيعية درست علميا، على ضوء ما جد من معارف علمية وهو توجه انخرطنا فيه بوعي بل ونعتبره واجب يفرضه المصدر الإلهي للقرآن، فلا يعقل أن نجد في القرآن إشارة الى ظاهرة طبيعية أدلى العلم الحديث بدلوه فيها ووصل الى نتائج تناقض مع ما تحمل تلك الإشارة من معان ممكنة لغويا. 
فهل أريد بالوتد غير المعنى الموضوع له في الأصل كما ورد عن الزمخشري الذي قال: «ومن المجاز: وتد الله الأرض بالجبال وأوتدها ووتّدها. والجبال أوتاد الأرض»(23)  أم أن الجبال أوتاد بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ هذا ما سنتناوله في الجزء الثّاني من هذا المبحث.
الهوامش
(1) «وشاح الأرض تحت المحيطات» - Scientific American, March 1994.
(2) «وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا»: الآية 32 من سورة النازعات .
(3) (جبل) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م  
(4) (جبل) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م 
(5) المصباح المنير-أبو العباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م  
(6)   https://www.universalis.fr/dictionnaire/montagne
(7)   Le petit Larousse
(8)   أنظر مجلة الإصلاح الالكترونية alislahmag.com
(9)   معجم العين (وتد) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م
(10) تهذيب اللغة (وتد) تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
(11) (وتد) المصباح المنير-أبو العباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
(12) (وتد) لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م 
(13) (وتد) المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
(14) تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
(15)  تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
(16) تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
(17)  تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) 
(18)  تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
(19)  تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
(20)  تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
(21) الآية 31 من سورة الأنبياء
(22) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) 
(23)  (وتد) أساس البلاغة-أبو القاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م