أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
من الهندسة إلي علم الاجتماع
 لا يكمن الشّيطان في التّفاصيل
في الحلقة الأخيرة من هذه المقالات ومن مجمل المقالات الأربع السّابقة نتبيّن أنّ الهندسة الكسوريّة تعطي أهمّيّة للتّفاصيل، بل تفاصيل التّفاصيل، ولا تهمل أيّا منها مهما كان صغيرا، لأنّ الخوف ينبع من أن يتحوّل النّظام الدّيناميكي إلى نظام عشوائي، والنّظام العشوائي هو أيّ نظام يكون حسّاسا جدّا لأتفه التّغيّرات فيه. ولا أصدق من مثال الثّورات العربيّة التي لم نكن نصدّق قبلها أنّ هذه الأنظمة الفاسدة ستهتز هزّا عنيفا بهذه التّغيّرات السّلميّة الطّفيفة. كان معظمنا على يقين أنّها لن تُزال إلّا بزلزال بقوة 100 ريختر، ومثل تلك الزّلازل غير موجودة، إذن النّتيجة معروفة سلفا.
على خلاف الهندسة الكسوريّة تأتي الهندسة الإقليديّة فتنظر للأجسام والمنظومات من بعد نسبي، فلا ترى إلاّ الأبعاد الكبيرة والصّحيحة، وتهمل تماما التّفاصيل الدّاخليّة للبناء الهندسي. ولا يقال إنّ الشّيطان يكمن في التّفاصيل، لأنّ الشّيطان إنّما يكمن في التّفاصيل التي يراد منها إزهاق الوقت بلا فائدة، وليست التّفاصيل فحسب وإنّما كلّ شيء سواء أكان صغيرا أم كبيرا وكان غرضه الهدم المطلق حينئذ يكمن الشّيطان.
ومن الهندسة الكسوريّة نتبين أنّ التّحوّلات العظمى تبدأ بنواة صغيرة، ربّما لا يراها أحد أو لا يشعر بها أحد، ثمّ تتراكم منها وحولها التّغيّرات الكمّية الرّهيبة التي تحوّلها من كمّ مهمل إلى كمّ فاعل. ينبغي أن نتذكّر «إيَّاكُم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ، فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهْلِكْنَهُ ... الحديث»(1).
الواقع والهندسة
نعلم أنّ الذّرة معظمها فراغ، وتكاد أن تكون كتلتها مركّزة في نقطة، وأنّ المجموعة الشّمسيّة كذلك، وأنّ الكون بشكل عام يملؤه الفراغ أكثر ممّا تملؤه الكتل أي أنّ الكون أيضا معظمه فراغ، لتعلم أنّ متوسّط الكثافة الكونيّة  يساوي ثلاثة وخلفها ثلاثون صفرا ثمّ الفاصلة العشريّة جرام في السّنتيميتر المكعّب، قارن بين هذه الكمّيّة الضّئيلة جدّا وكثافة الماء وكثافة الهواء على سطح الأرض، ومقارنتها بكثافة الهواء الذي يبلغ تقريبا 1225 وخلفها اثني عشر صفرا ثمّ الفاصلة العشريّة جرام في السّنتيميتر المكعّب أكثر إيضاحا للمفهوم. أي أنّ أجسامنا والمباني التي شيّدناها والجسور التي نمشي فوقها والطّائرات التي نركبها معظمها فراغ أيضا.
إذن لم يعد لنا من رابط يربط هذه الأشياء مع بعضها في نسيج واحد إلّا العلاقات، فالعلاقات بين الأشياء هي تقريبا كلّ شيء، ولا يقال إذا حلّلنا أيّ منتجين إلى عواملهما الأوليّة وكانا مثل بعضهما، (أي أنّ العوامل الأوليّة للمنتج الأوّل مثل العوامل الأوليّة للمنتج الثّاني) فإنّ المنتجين واحد. فمثلا الواحد والصّفر، إذا وضع أحدهما أمام الأخر كان النّاتجان مختلفين في الجوهر، حتّى في الكيمياء، مجموعة واحدة من الذّرّات تستطيع أن تؤلّف العديد من المركّبات التي تختلف جوهريّا في الصّفات والتي يدخل كلّ عناصر المجموعة في كلّ منها.
إذن جوهر الأشياء هي العلاقات التي تربط بين أفرادها. لذلك كانت الهندسة الإقليديّة تربط بين الكائنات الهندسيّة مثل النّقطة والخطّ والسّطح والجسم بعلاقات مبرهن على صحّتها وأمكن تطبيقها في العديد من المشاريع الواقعيّة. لذلك يحاول علماء الرّياضيّات إنتاج النّماذج الرّياضيّة التي تقترب من نمذجة الواقع  لمحاولة فهمه والتّنبؤ بمستقبله ومحاولة السّيطرة عليه وإنتاجه.  والعالم حين يعجز عن دراسة الكبير جدّا يلجأ إلى التّصغير النّهائي وينطلق منه لفهم الكبير، من ذلك علم التّفاضل والتّكامل بل والتّحليل الرّياضي بشكل عامّ حين يلجأ إلى المتناهيات في الصّغر، ومن ثمّ تكون نقطة انطلاقه لفهم العالم الأكبر. تأتي الهندسة الكسوريّة لتعمّق هذه الرّؤية من خلال دراسة التّشابه الذّاتي.  
مثال من المملكة الحشريّة
وآخر من المملكة الإنسانيّة
يتحدّث «كليفورد براون» و«لاري ليبوفيتش» في كتابهما حول التّحليل الكسوري وتطبيقاته الكمّيّة في العلوم الاجتماعيّة(2)، عن تصرّفات الفرد وحركيّة العلاقة مع محيطه الاجتماعي، ويستوحيا من فكرة التّشابه الذّاتي في الكسوريّات دراسة التّنظيم الذّاتي لدى مجتمع النّمل والنّحل.
ثمّة مثل آخر من دراسة أخرى أجراها «رون إجلاش» و «طولوالجو أدومسو» عن التّعقيد الكسوري والتّرابط في أفريقيا(3)، حيث أورد الباحثان مثالا عن كيفيّة تنظيم القُرى لدى قبائل با- إيلا Ba-ila الأفريقيّة. يمكننا أن نرى من خلال الشّكل المقابل،صورة فضائيّة لقرية تعود لهذه القبيلة وتحتها صورة توضّح المقاربة الكسوريّة لهندسة المجتمع في هذه القرية (شكل التّنظيم هذا لديه أسباب موضوعيّة متعلّقة بعلاقة هذه القبيلة مع الطّبيعة وبتأثير بعض الطّقوس الرّوحانية).
الهندسة الكسوريّة كمقاربة لفهم السّلطة
تبثّ السّلطة دماءها الصّالحة أو الطّالحة في كلّ كيانات المجتمع، بمجموعة من علاقات القوّة العنيفة/القوّة النّاعمة بدءا من أكبر كيان في الدّولة وحتى أصغر كيان تنفيذي – إداري فيها. «عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا». تتبلور السّلطة ابتداء من كيان أيديولوجي (حقيقي أو اعتباري) والاعتباري من الممكن أن يحتوي أطيافا واسعة تتمحور حول فكرة  ما، ومن ثمّ تبدأ الانتشار شعاعيّا في كلّ الاتجاهات بذات الفكرة. تبدأ السّلطة باستقطاب طبقة من رجال الأعمال الكبار وعددهم صغير بالطّبع، والذين يملكون وسائل الإنتاج العملاقة، تستطيع السّلطة من خلال هذه الطّبقة السّيطرة على المجتمع، وبما أنّ هذه المهمّة كبيرة جدّا على هذه المجموعة الصّغيرة جدّا، فإنّ هذه الطبقة تبدأ باستقطاب طبقة من رجال الأعمال غير الكبار، وتمتد هذه السّلسلة نزولا حتّى الوصول إلى الفرد المستهلك. والعلاقة التي يتمّ إنتاجها كسوريّا في السّلطة الفاسدة هي استمداد الشّرعيّة السّياسيّة من خلال بثّ الخوف وذلك بغرض تحقيق الفساد بسهولة في كلّ الأبعاد المجتمعيّة، بحيث يتمّ استغلال الطّبقة الأولى للطّبقة الثّانية، الحيتان الكبار مع الأسماك الأقل، والطّبقة الثّانية مع التي تليها، وهكذا دواليك نزولا حتّى تصل إلى الذي لا يملك إلاّ قوّة عمله، وشعار هذه العلاقة التي تردّده الطّبقة الأقل «إنت تلبس آخر موضة واحنا نعيش السّبعة في أوضة»، أمّا الطّبقة الأكبر فشعارها «نموت نموت ويحيا الوطن» لكن الجميع يعلم أن كبار رجال الأعمال هم أصحاب البلد، هم الوطن بمعنى آخر.
تنمو وتتمدّد هذه العلاقة الفاسدة من خلال أبعاد خفيّة كثيرة جدّا، لكنّها تنتج نفسها تقريبا بنفس النّهج التّسلسلي كما يحدث في التّفاعلات النّوويّة الانشطاريّة، مثل القرب والبعد من صاحب العمل، الانتماء وغير الانتماء لأيديولوجيا السّلطة، ومنها الإثنيّات الطائفيّة والعرقية في بعض البلدان (سوريا ولبنان نموذجا)، وحتّى اللّون مثلما كان في أمريكا حتّى ستينات القرن العشرين، وحتّى يستقر النّظام ولا يذهب به إلى اللاّنهاية، لابدّ من تدويرها حول مركز الخوف والفساد وإشعار القطاع الأكبر من الخائفين بأنّ هذا المركز هو مركز الطّمأنينة والأمان والصّلاح. مع العلم أنّ هذه المنظومات معقّدة جدّا لدرجة أنّ من يقوم بفعل التّخويف يمارس عليه هو أيضا ذلك الفعل نفسه من مستوى أعلى منه في هرم السّلطة باستثناء نواة النّظام التي يأتيها الخوف والكوابيس المزعجة من خارج النّظام. أمّا في الأنظمة الصّالحة فتكون العلاقة هي استمداد الشّرعيّة السّياسيّة من خلال بثّ قيم العدل الذي يقتضي القوّة المادّية في تنفيذه، وتقتضي القوّة المادّية تحصيل كلّ أسباب العلوم المادّية الحديثة، والرّحمة التي تقتضي الإيمان في تحقيقها واقعيّا، ومساواة النّاس كلّ النّاس أمام هذين المبدأين العدل والرّحمة. 
خاتمة
يقوم علم الاجتماع حتّى الآن على أدوات وصفيّة في غالبها، لا تستند إلى معايير مجرّدة دقيقة مثل نظيرتها في الفيزياء، وحتّى الأدوات الكمّيّة التي يعتمد عليها علماء الإجتماع لا تتعدّى الاستبانات التي تقيس الرّأي العام، والتّي تكون نتائجها في الغالب غير معبّرة عن الواقع، لخضوعها لعوامل كثيرة تفقدها الموضوعيّة. ممّا يجعل علم الاجتماع في النّهاية علم وصفي. لكنّنا إذا نجحنا في نمذجة علم الاجتماع أو على الأقل تزويده بنماذج رياضيّة بعيدة عن العوامل التّضليليّة، فإنّنا سنحقق قفزة نوعيّة في فهم المجتمعات البشريّة بظواهرها المعقّدة. وإن كانت المجتمعات أجزاء من الطّبيعة –وذاك أمر جدلي فلسفي حتّى النّخاع- فإنّنا نستطيع في إطار علاقات تقريبيّة معيّنة أن نعتبره كذلك، وبالتّالي من الممكن تجريده إلى رموز وعلاقات مثل تلك التي ناقشناها في مقالات سابقة عن الرّياضيّات الحيويّة (4)والتي تنمذج العلاقات المادّية بين الكائنات الحيّة، فإذا أدخلنا عليها الهندسة الكسوريّة كآداة تحليليّة لا تهمل كلّ الأبعاد صغيرها وكبيرها، نكون قد اقتربنا من محاكاة الواقع رياضيا. 
الهوامش
(1) حديث شريف عن النبي صلي الله عليه وسلم من أحاديث عبد الله بن مسعود، وهو في عمدة التفاسير للمحدث أحمد شاكر، وفي صحيح الجامع للشيخ ناصر الدين الألباني 
(2) Clifford Brown and Larry Liebovitch, «Fractal Analysis: Quantitative applications in the social science»,  SAGE Publications, Inc; 1st Edition (April 14, 2010)
(3) Ron Eglash, Toluwalogo B. Odumosu, «Fractal Complexity and Connectivity in Africa», Rensselaer Polytechnic Institute, (2005).
(4)  فوزي أحمد عبد السلام، إضاءة علي الرياضيات الحيوية ورياضيات الأوبئة، مجلة الإصلاح، باب أهل الاختصاص، العددين  156، 157، تونس، (2020).