قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة 1
 لعلّك تسأل : وما الذي دعاك إلى الكتابة عن أشهر إنسان وأعظم بشر؟ أليس هو معروف إلى حدّ التّخمة؟ أليس في القرآن الكريم ذكره؟ أليس في السّنّة خلقه؟ أليس في السّيرة حياته؟ أليس يذكره كلّ مسلم ومسلمة في طول الأرض وعرضها في أقلّ من خمس ساعات مرّة واحدة على مدار الحياة، حين يقوم لصلاته؟ أليست هويّته مبسوطة كلّ الإنبساط لكلّ طالب علم؟ أجل. كلّ ذلك صحيح، عدا أنّ كثيرا منّا لا يتدبّر القرآن الكريم التّدبّر المطلوب الذي يشبعه من خلق محمّد ﷺ.
ذكر القرآن الكريم من سيرته فحسب ـ دون خلقه وفيما ثبت قطعا دون ما لم يثبت ـ زهاء ثلاثين موضعـا. وهــي كفيلــة بسبيل التّدبّر المتأنّي بتصحيح الصّورة عن محمّد ﷺ. كما تكفّلت السّنـة بذلك، إذ احتضنت كثيرا مــن خُلُقِــه العظيم وهو يعالج المشكلات ويعلّم النّاس ويقضي بينهم ويحنـو عليهم حنــوا ويحـدب عليهـم حدبـا. ولكن هــل قرأنــا السّنّة ـ قولا وعملا وإقرارا ـ قراءة متريّثة؟ ولنـا فيمـا لم تنقله السّنة بمعناها الأصوليّ والفقهـيّ غنيــة أخرى نستجلي منها خُلُقِه الكريم في حالات يومه وليله. أي ممّا عني به رجال الشّمائــل من مثــل القاضي عياض وكتابه (حقوق المصطفـى). أمّا ما دوّنته أكثر كتب السيّرة ففيه الذي فيــه، وعليــه الذي عليه. ذلك أنّ أكثر كتب السّيرة غابرهــا وحاضرهــا إنّمــا قدّمت لنــا سيرته العسكريّة الحربيّة القتاليّـة فحسـب. وقليلا ما تذكر لنــا غير ذلك من حياتـه. فإذا علمنــا أنّ كثيرا من مناهـج التّعليـم في البـلاد العربيّـة تقــوم ـ سيّما في مراحل تعليـم النّاشئة ـ على تلقين السّيرة مع ضمور كبير في تعليم السّنّة، فإنّ ذلك يقوم داعية لتصحيح الصّورة النّبويّة. إذ يُخشى أن يتخـرّج طالب العلم النّظامـيّ فينا بصورة غير دقيقة عن نبيّه محمّد ﷺ، هـي صــورة النّبيّ الذي يعــوّل على سيفه في نشر الإسلام وبثّ الهداية.
من أين جاءتنا بدعة إنتشار الإسلام بالسّيف إذن؟ من حركة الإستشراق؟ أجل. ولكن لم تساهلنا في قبول ذلك؟ أليس لأنّ تحصيننا في هذا المستوى ـ صورة محمّد ﷺ ـ ليس على ما يرام؟ داعية أخرى تجعل المرء ينهض لهذه المهمّة، وهي أنّ أكثر كتب السّيرة ـ حتّى وهي تقدّم النّبيّ العسكريّ فحسب تقريبا ـ تسرد تلك الحياة سردا. فلا تستنبط العبر ولا تستلّ الدّروس، ولا تجني ما نحتاجه نحن اليوم علاجا لمشكلاتنا ومواجهة لتحدّياتنا. بل إنّ تدوين السّيرة نفسه شابه الذي شابه، إذ لم يسلم من وضع ـ أي كذب ـ كما وقع للسّنّة ذاتها. عدا أنّ اللّه سبحانه قيّض للسّنّة جهابدة يكشفون المنتحلين والمبطلين. في حين أنّ السّيرة التي لم تخضع لعلم الرّجال جرحا وتعديلا ظلّت غير مسنودة، ولكنّ اللّه قيّض لها سيّما في العقود الأخيرة من يبيّن صحيحها من سقيمها.
لكلّ تلك الدّاعيات وغيرها، فإنّي أظنّ أنّ الصّورة العامّة عن نبيّ الأمّة والبشريّة جمعاء قاطبة محمّد ﷺ ليست دقيقة كلّ الدّقّة. ولا ريب أنّه كلّما كانت صورة محمّد ﷺ في صدور النّاس صحيحة دقيقة جامعة ـ حتّى من غير المسلمين بله المسلمين أنفسهم ـ كان الإيمان به قحّا صحيحا، وكان إتّباعه أيسر، وكان حبّه في القلوب أنفذ. وكانت سيرته نبراسا يهدي المصلحين ويهب المقاومين في كلّ الحقول مناهج تغييريّة أوفى للإسلام وللواقع سواء بسواء.
لذلك عزمت على جمع تلك الصّورة النّبوية من مصادرها الأولى: القرآن الكريم أوّلا، وبعض ما جاء في السّنة ثانيا، وما جاء في سيرته الجامعة قدر الإمكان وخصائصه ثالثا. أنهج فيها نهج الإستقراء وإلتقاط العبرة المناسبة لعصرنا. من الصّور غير الدّقيقة التي إنتحلها كثيرون منّا في علاقة مع النّبوّة أنّ بعضنا يقدّم جانبه البدنيّ الجسميّ. حتّى لكأنّك ـ وأنت تقرأ له أو تسمع ـ في مشهد بطل من أبطال رياضة كمال الأجسام. هذا أمر مخالف للمنهاج الإسلاميّ الذي قدّم لنا رسول الله ﷺ أنّه نبيّ على خلق عظيم. ولو كان خلقه مختلفا عنّا لقال :  وإنّك لعلى خلق عظيم. (بفتح الخاء ليكون المعنى : على تكوين جسميّ وبدنيّ عظيم).
أنّى لنا الإهتمام بهذا وقد أهمله القرآن الكريم نفسه ومعه السّنّة والسّيرة؟ أليس مخالفة المنهج أضرّ من مخالفة الشّرعة؟ من ضلّ منهاجيّا، فلا تغني عنه شرعته حتّى لو إستقامت. ومن إستقام منهاجيّا، فلا ضير عليه ولا ضلال حتّى لو ضمرت شرعته قليلا. أليس من أضرّ أمراضنا علينا سياسة الإنتقاء والإجتباء؟ أي أنّ بعضنا يتّبع هواه في دراسة الإسلام بصفة عامّة وسنّة محمّد ﷺ بصفة خاصّة. فإذا كان جهاديّا بالتّصنيف المعاصر فهو يهيم بالسّيرة العسكريّة لمحمّد ﷺ وينشرها ويبثّها ويتعلّمها ويعلّمها ويؤسّس لها النّواتات. ومن ذا يسرح في دماء النّاس ويمرح بغير حقّ، وهو يظنّ أنّه يحسن صنعا. وإذا كان صوفيّا بالتّصنيف المعاصر ـ سيّما صوفيّة لا صلة لها بإعتدال وتوازن ـ فإنّه يفرّ من ساحات المقاومة المدنيّة ويعتزل النّاس، وله في السّنة والسّيرة بغية وغنيـة. إذ أنّه يجد من خلقه ﷺ أصـولا زكيـة في الطّهـر الرّوحـيّ. ولكن لو لزم هؤلاء جميعا وغيرهم ـ ممّا لم يذكر هنـا ـ المنهاج الجامع في دراسة السّنّـة والسّيرة إنطلاقا من القرآن الكريم أوّلا وإبتغاء معالجة الواقع نهاية ما أضحوا أهل إنتقاء وإجتباء لا يسلم من الهوى في العادة.
أكثرنا يعدّ الهوى بضاعة تغشى العامّة فحسب من النّاس. ولكنّ التّحقيق يفضي إلى أنّ أشدّ الأهواء وضاعة وأثرا سيّئا هي أهواء المنتظمين في مسالك العلم طلبا وبثّا. الهوى ضربة لازب على كلّ إنسان. فهو لا يغشى هذا ليدع ذاك. بل إنّه مع الدّائرين في أفلاك العلم أشدّ طلبا لأنّه لو أهلك واحدا منهم فحسب لتكفّل بإهلاك جيش من أتباعه.
من خلاصات حياتي أنّ محمّدا ﷺ مجهول فينا أكثر ممّا هو معروف معلوم. أي من حيث خلقه العظيم الذي هو مدار الإيمان والإتّباع. ألم يغال كثير منّا فيه إلى حدّ العبادة أو شيء قريب من العبادة. وله من ذلك فيما يقرأ ويسمع الذي له؟ أليس فينا من يستبشع بعضا من صور التّبرّك ببعض آثاره لفرط ما جنى عليه عقل باغ صارم؟ إنّما حسن الإسلام وعمق الإيمان ودقّة التّعبّد ولبّ الحبّ توازن بين ذينك السّبيلين.
ليس هناك من ميزة لوّنت الإسلام تلوينـا عجيبـا حتّى غدت هي عنوانـه ولبابـه أكثر من ميزة الإعتدال والتّوسّط والتّوازن في كلّ شيء. حتّى في الخلجـات العاطفيّـة الصّغيرة العابـرة التي يكاد لا يشعر بها صاحبهـا نفسـه. محمّد ﷺ يحتّـل الشّطـر الثّاني من مفتاح الإسلام وتأشيرة الجنّة وجـواز السّعادة. إذ أنّ تصريحـك أنّك تشهـد أنّ محمّدا عبد اللّه ورسولــه في الجزء الثّانــي من شهادة التّوحيد، يعني أنّك تؤمن به إيمان حبّ وإيمان تصديق وإيمان إتّباع وليس إيمان وجود فحسب. ولم ينكر مشرك وجوده ﷺ لحما ودما بينهم، بل لم ينكروا أنّه تربّع على عرش الخلق العظيم صدقا وأمانة قبل بعثته. كيف ينكرون ذلك وهم الذين قلّدوه ذلك بألسنتهم؟ الإيمان به إذن ليس إيمان وجود فحسب. إنّما هو إيمان أنّ سنّته وسيرته وكلّ حياته ما دقّ منها وما جلّ لكفيلة بأن تكون الأسوة الكاملة والقدوة الجاملة.
المصلحـون والمقاومـون والفاعلـون يهفـون إلى أكثـر من ذلك. هم يهفـون إلى أن يستقـرئوا حياتـه كلّهـا على نحو تكون لهم منهاجا إصلاحيّا جامعا عامّا في مختلف الحقـول والمجـالات. عندما نصل إلى هذا المستوى العظيم من الوعـي لنجعـل من تلك الحيــاة منهاجــا إصلاحيّا جامعا، نكون قد خطونا خطوات عملاقة على درب حسن الإيمان بمحمّـد ﷺ. ألسنا مدعوّيــن إلى تقمّص أقمصة الرّيادة والإمامـة في النّــاس؟ الإمامة تقتضي ذلك الوعي الكبير.
ومن ذا فإنّ العكوف على أمرين لكفيل بذلك : الأمر الأوّل هو قراءة جامعة تبدأ من القرآن الكريم وتمرّ بالسنّة وتنتهي بالسّيرة، بل ربما تمتدّ لتشمل تجربة الخلافة الرّاشدة المهديّة الأولى بسبب حسن تمثّلها للمنهاج النّبويّ.
الأمر الثّاني هو العلم بالواقع وتحدّياته ومشكلاته من جهة والعلم بمواءمة قبسات المعالجات النّبوية عفوا من آثار الزّمان والمكان فيها مع حالنا الرّاهنة من جهة أخرى. وبذلك نتقمّص دور الطّبيب والصّيدلانيّ معا. الطّبيب يصف المرض من بعد تحليلات كاشفا عن أسبابه ومظاهره وأخطاره، والصّيدلانيّ يخزّن الدّواء المناسب لمعالجة ذلك المرض نفسه وليس غيره.
كلّ تلك الأبعاد أحاول طرقها هنا في هذا الكرّاس الجديد على صفحات مجلّة الإصلاح الألكترونية الشّهرية سائلا المولى الكريم وليّ النّعمة الأعظم سبحانه مددا وعلما ومعرفة وحكمة ورشدا، ومن القرّاء الكرام تنبيها أو معالجة أو تصحيحا.