في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
نفع النّاس في عصر التّحوّل الرّقمي «الحلقة الأولى»
 I. الإنسان بين منطوق القرآن وحقائق الواقع
إن كان القرآن حَدَّدَ بِعِلمِ مُنْزِلِه نشأة الإنسان ودوره في علاقة بالأرض بالقول: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(1)، وفي علاقة بنسله بالقول: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(2)  
وإن كان القرآن وصف بكرم مُنزِلِهِ سيرورة الإنسان بالكدح وضبط برؤيته وِجْهَة صَيْرُورته نحو اللّه بالقول:«يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ»(3) في إتّجاه يومٍ عظيم «يَوْمَ يَقوُمُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين» (4)، يوم يُوضع فيه كتاب مرقوم«لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا» (5) 
 فإن كان هذا منطوق القرآن، فإنّ الواقع بتحدّياته أَكَّدَ سير الإنسان بمعاناة لتحقيق ما ينفعه، كمعنًى لكدحه وكَشَفَ بتطوّراته مراحل صيرورته نحو أفق أرحب خاصّة مُؤخّرا من خلال ما يُعرف بـ «الثّورة الرّابعة» وولوجه عصر الرّقمنة المُبدعة، عصر يعتمد لغة رقميّة وشبكة رقميّة كذلك.
واللّغة الرّقميّة هي تلك الّتي تُعدّ خصّيصا طبقا لقواعد معيّنة لتُسْتَخْدَمَ في الحاسبات الالكترونيّة كوسيلة للعمل بها في كلّ مجالات الحياة وأنشطتها، أمّا الشّبكة الرّقميّة فهي شبكة اتصالات رقميّة عالميّة مُطَوَّرَة عن الخدمات الهاتفيّة الموجودة، وهي شبكة تضمن انسيابيّة حينيّة للمعلومة وتجعل الكلّ في علاقة بالكلّ وتجعل انتشار النّفع والضّرر كذلك وتعميمهما على جميع سُكّان المعمورة أمر مُمكن.
 وإن كان القرآن بعلم مُنْزِلِه قَدَّم معنًى للإنسان على أنّه كائن مخلُوق مُكَرَّم ومحمول في البرّ والبحر ومرزوق من الطّيّبات ومُفضّل على كثير من الخلق(6)، 
 وإن كان القرآن ذاته حدّد بحكمة هديه وتحقيقا لحياة طيّبة للإنسان(7)غاية وجوده حين قضى مُنزله بالقول «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»(8)، وما يعنيه مصطلح «العبادة»(9) من معنى ملازمة الإنسان لخالقه بإختياره(10) في تناغم مع رعاية الخالق له، ومع ضمان إلهي لمكوث النّفع له وللنّاس جميعا في الأرض والّذي ثبّته القرآن بالقول: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»(11)، فإن كان القرآن قدّم ذلك المعنى للإنسان وثبّت نفعه في الأرض، فإنّ الإنسان ذاته وطيلة مساره التّاريخي، ما فتِئ يبحث عن معنى لذاته الفرديّة(من أنا؟) والجماعيّة(من نحن؟) على حدّ سوى، كما بحث باستمرار عن الكيفيّة التي يتحقّق بها النّفع له، مُحْدِثا عبر ذلك البحث من عصر إلى آخر ثورة تِلْوَ الأخرى في حياته، طوَّرت من أدائه وذلك من خلال تغيير طريقة تعاطيه مع نفسه وواقعه والآليات المُعتمد عليها.
II. ثورات الإنسان بحثا  عن ذاته
ومن خلال مُتابعة كدح الإنسان نحو معرفة ذاته اعتبر «لوتشيانو فلوريدي» مؤلف كتاب «الثّورة الرّابعة - كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني»(12)، المُصنّف ككتاب علمي وتقني أنّ الثّورة الرّابعة هي تفسير نوعي يأتي بعد ثلاث ثورات سابقة استُخدمت لفهم الذّات، على حدّ تعبير الكاتب؛ تتمثّل الثّورة الأولى في محاولة «كوبرنيكوس» حين وضع مسلّمة تقول أنّ الإنسان مركز الكون ثمّ تمّ اكتشاف أنّه ليس كذلك، ممّا دفع إلى إعادة النّظر إلى الذّات ومحاولة الإجابة من جديد على سؤال من نحن، ومن نحن بالنّسبة إلى الكون. 
ثم جاءت محاولة «داروين»(13) للإجابة على نفس السّؤال من خلال «نظريّة الانتقاء الطّبيعي»(14) مؤكّدا على أنّ الإنسان ليس إلاّ واحدا من بين الكائنات المتطوّرة ، تلتها ثورة «فرويد» في فهم الذّات؛ حين تمّ إكتشاف أنّ ما يحدث في عقولنا ووعينا أكثر بكثير ممّا كنّا نظنّ، وأنّ جميع البشر خاضعون لنفس القوانين السّيكولوجيّة كمبدأ اللّذة والكبت والتّحويل والاستبدال الرّمزي والاسقاط والتّماهي والتّصعيد، بحيث من الممكن تفسير سلوك المعاصرين من البشر بنفس الطّريقة التي نفسّر بها سلوك أناس ما قبل التّاريخ (15).  
 ثمّ ظهر مصطلح الثّورة الرّابعة وكان أول من تناوله «آلان تيوينغ»، الذي رأى أنّه لا بدّ من إعادة النّظر باستمرار في دورنا كقادرين على الفعل في المجتمع تبعاً للتّغيّرات التّكنولوجيّة الكبرى من حولنا.
III. ثورات الإنسان تحقيقا لنفعه
 وبالتّوازي مع بحثه عن معنى ذاته، وتحقيقا لنفعه أحدث الإنسان ثورات مُتتالية بدأ بما اصطلح على تسميتها «الثّورة الصّناعية الأولى» من خلال اختراع المحرِّك البخاري في الرّبع الأخير من القرن الثّامن عشر، واستخدام الطّاقة الميكانيكيّة والوقود الأحفوري، كالفحم الحجري وما نتج عن ذلك من عمل الآلات بالبخار محلّ اليد العاملة مُرورا بـ «الثّورة الصّناعيّة الثّانية» التي أحدثها الكهرباء والإنتاج الشّامل في خطوط التّجميع في أواخر القرن التّاسع عشر، وصولا الى الثّورة الرّقميّة الأولى فالثّانية، أمّا الأولى فقد أحدثتها الرّقمنة البسيطة  (Digitization) والمعالِجات الدّقيقة والإنترنت وبرمجة الآلات والشّبكات في النّصف الثّاني من القرن العشرين، وأمّا الثّانية فنتيجة للرّقمنة الإبداعيّة القائمة على مزيجٍ من الاختراقات التّقنية المتفاعلة تكافليّاً عن طريق خوارزميات مبتكرة والتي أطلق عليها «الثّورة الصّناعية الرّابعة» وهي تسمية أطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا، في عام 2016م.
وكما أحدثت الثّورات الثّلاث السّابقة على مدى قرنين من الزّمن، تغييراتٍ كبيرةً في حياة الإنسان، تمثَّلت بتطوّر الحياة الزّراعيّة البدائيّة التي استمرت نحو عشرة آلاف سنة، إلى حياة تعتمد تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات على المستويين الفردي والمجتمعي، ها نحن نعيش على أنغام ثورةٍ تكنولوجيّةٍ ثانية بدأت تغيِّر بشكل أساسٍي الطّريقة التي نعيش ونعمل بها، وكذلك نمط علاقة بعضنا بالبعض. وقد شكّلت هذه الثّورة عنوانَ عصر التّحول الرّقمي الذي نُعاصره، وأحدثت تطوّرات نوعيّة أثمرت واقعا جديدا ومُتجدّدا نظرا للإمكانات الهائلة للذّكاء البشري كمحرّك رئيسي لهذه الثّورة، ممّا يجعلها قادرة على إحداث تغيير في الواقع وباستمرار. 
وقد أصبح لهذه التكنولوجيا حضور قوي وأساسي خاصّة في التّعليم والبحث العلمي والتّفاعل والعمل الاجتماعي، مرورا بالقرار السّياسي والاقتصادي، وُصولاً إلى أخذ قرار السّلم والحرب. 
كما زاد هذا الابداع التّكنولوجي من معارفنا وأحاطنا بأجهزة ذكيّة، بحيث نجد أنفسنا في حالة اندماج كلّي في جوّ المعلومات والتّواصل الاجتماعي، وأصبحت حياتنا محكومة بالعالم الافتراضي من خلال الطّريقة التي نعيش بها من التّسوّق مُرورا بالعلاقات العائليّة والعاطفيّة والعمل وصولاً إلى السّياسة والحرب.
كما أصبح لهذا الابداع التّكنولوجي أثر نوعي على مستوى نفع النّاس وتيسير حياتهم مما يجعلنا نُلاحق منجزاتها ونفتح مبحثا جديدا نؤثث من خلاله سلسلة من الحلقات نُسلّط الضّوء فيها على الكيفيّة التي يتحقّق بها ذلك النّفع، فإلى حلقات قادمة إن شاء اللّه.
 
الهوامش
(1) تدبّر الآية 61 سورة هود / القرآن الكريم
(2)  تدبّر الآية 30 سورة البقرة / القرآن الكريم
(3)  تدبّر الآية 06 سورة الإنشقاق / القرآن الكريم
(4) تدبر الآية 06سورة المطففين / القرآن الكريم
(5) تدبّر الآية 49 سورة الكهف / القرآن الكريم
(6)  تدبّر الآية 60 سورة الإسراء / القرآن الكريم
(7)  تدبر الآية 97 سورة النّحل / القرآن الكريم
(8) تدبّر الآية 23 سورة الاسراء / القرآن الكريم
(9)  تدبر الآية 56 سورة الذاريات /القرآن الكريم
(10) تدبر الآية 72 سورة الأحزاب / القرآن الكريم
(11)  تدبّر الآية 17 سورة الرّعد / القرآن الكريم
(12)   https://www.kutubpdfbook.com/book
(13)  تشارلز روبرت داروين  : Charles Robert Darwin‏ عالم تاريخ طبيعي وجيولوجي بريطاني ولد في إنجلترا في 12/2/1809
(14)  https://scientific.ma/
(15)  وجيه  باستيد:  السيسيولوجيا والتحليل النفسي، ص45 https://www.alawan.org