تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
اليهوديّة بعيون مسيحيّة
 يدور مدار هذا الكتاب حول موضوع مهمٍّ على صلة بالأصول الدّينيّة للمسيحيّة في علاقتها باليهوديّة وبإرث العهد القديم تحديدا، ومن ثَمّ حول البناء اللاّهوتي للدّين المسيحي، ألا وهو كيف اشترك دينان توحيّديان (اليهوديّة والمسيحيّة) في مرجع كتابيّ واحد، وهو العهد القديم، وكيف اختلفتِ القراءة وتباينتِ الرّؤية بينهما إلى حدّ الفراق والتّغاير، وربّما شارفت في مراحل تاريخيّة مستوى من العداء المكشوف؟ فقد ساد على مدى عهود جفاء بين الدّينين بلغ مستوى القطيعة؛ لكنّ مع التّحولات المعاصرة وما شهدته العلاقة من تطبيع بين الدّينين، سيّما في أعقاب مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965)، استلزم الأمر نظرا مستجدّا في الرّؤى اللاّهوتيّة بقصد تنقيتها من الغلوّ والأخطاء، ومن كلّ ما يسيء للعلاقة بين الطّرفين.
لقد عبّرَ الكاتب اليهودي «يعقوب نوزنر» عن واقع العلاقة الشّائكة بين الدّينين، وعمّا يلفّها من تباعد يبلغ حدّ التّغاير، سواء من زاوية تاريخيّة أو عقديّة، قائلا: «ينبغي إدراكهما [اليهوديّة والمسيحيّة] كمنظومتين دينيتين مستقلّتين كلّيا، وبالتّالي لا يجوز حتّى الحديث عن تولّد المسيحيّة من رحم اليهوديّة، لأنّ كلتا المنظومتين، في مستوى المرحلة التّكوينيّة (القرن الثّاني - القرن الرّابع الميلاديين)، كانتا مكوَّنتين من أناس مختلفين وتتحدّثان عن أشياء متباينة، ويتوجّه كلّ منهما إلى رهط مغاير. فالطّروحات التّراثية التي تعتبر اليهود والمسيحيين «أقارب» من جانب ديني هي بمثابة أسطورة، لأنّ كليهما يقرأ ‹العهد القديم›، لكن لكلّ قراءته وتأويله وخلفيته». وردَ ذلك ضمن كتابه الصادر بعنوان «اليهود والمسيحيّون: أسطورة التراث المشترك» (ميلانو، 2009).
الكِتاب الحالي «المسيحيّون وأسفار بني إسرائيل» الذي نتولّى عرضه، والذي تجنّد لتأليفه مجموعة من المؤرّخين والأنثروبولوجيّين واللاّهوتيين الإيطاليّين، حاول إعطاء خلاصة، وتوضيح موقف للمسيحيّين من النّصوص الدّينيّة اليهوديّة التي تُعدّ مصدرا ملهمًا من مصادر الدّين المسيحي أيضا. فالكتاب مؤلَّف جماعي سهر على إعداده برونيتو سلْفاراني، وهو لاهوتي كاثوليكي وأستاذ علم التّبشير ولاهوت الحوار في كليّة إيميليا رومانيا للاّهوت بشمال إيطاليا. صدرت لمعدّ الكتاب جملة من الأعمال متعلّقة بالمجال الدّيني منها «لاهوت الأزمنة المرتابة» 2018، «العامل الدّيني: الأديان إزاء واقع العولمة» 2012، «لماذا ينبغي أن يحضر الدّين في المدرسة؟» 2011 وغيرها من الأعمال.
جاء المبحث الأول من كتاب «المسيحيّون وأسفار بني إسرائيل» من إعداد برونيتو سلْفاراني بعنوان: «الكتاب واحدٌ والوَرَثة اثنان». انطلق فيه صاحبه من فرضيّة استحالة فهْمِ العهد الجديد بدون العهد القديم، فالعلاقة الرّابطة كما يقول: هي علاقة «ذهاب وإياب» ثنائيّة، وليست من طرف واحد. والأناجيل والرّسائل التي بين أيدينا اليوم والتي تمثّل السّند الدّيني الأقرب للمسيحي عن المسيح يتضاءل عمقها، أو بالأحرى يتلاشى مدلولها في غياب نصّ «التنك» أو «التاناخ» كما يرد بالعربيّة، وهي الأحرف الأولى لمسمّيات الأقسام الرّئيسة من العهد القديم. فـ «التّاء» من كلمة توراة، وتشمل الخماسيّة، أي (سفر التّكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاّويين، وسفر العدد، وسفر التّثنية أو الاشتراع). وحرف الـ «نّون» نسبة للأنبياء، وتتكوّن من مجموعة أسفار الأنبياء المتقدّمين منهم والمتأخّرين: مثل يشوع وصموئيل وإشعياء وإرميا وعاموس وعوبديا. وأمّا حرف «الكاف» فهو مستوحى من تسمية الكتب، وهو يضمّ أسفار المزامير والأمثال والجامعة وغيرها، وهي الأقسام الثّلاثة الرئيسة التي تكوّن الكتاب المقدّس اليهودي.
يجد الإنجيل تجذّره في الوسط اليهودي بموجب الجغرافيا الرّسالية للمسيح (ع)، فقد ورد في إنجيل متّى (15: 24) «لم أرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضّالة» وفي موضع آخر «إلى طرق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحريّ إلى خراف بيت إسرائيل الضّالة» (متى10: 5-7). في الواقع استهداف المسيح الرّسالي لليهود برسالته هو نابع لديه من تصديق مطلق بالحقيقة التّوراتية، فالدّيانة اليهوديّة هي بمثابة اليقين الثّقافي. وضمن هذا السّياق جاءت المفاهيم الدّينية المسيحيّة سواء ما تعلّق منها بمملكة الرّب، أو بالمسيا، أو بالعهد، مستوحاة من التّصورات اليهوديّة.
ما تُوضّحه أنثروبولوجيا الأديان أنّ الأصول الدّينية تكون عميقة وموغلة حين تكون أصولا مؤسطَرة، وهذا ما يجلو من الاهتداء الحديث لتلك الأصول مع المسيحيّة «التّائبة»، فكأنّها بعد علاقة النّفي للأصول اليهوديّة تعود متلهّفة إلى تلك الأصول بحثا عمّا هو مفقود وإتماما لما يعتريها من نقص. لكن في مقابل هذا التّيار السّائر نحو التهوّد داخل المسيحيّة المعاصرة لا زال هناك تيار يمثّله اللّوفابريّون، وهم أتباع المونسنيور «مارسيل لوفابر» المنشق عن الكنيسة الكاثوليكيّة، يرفض موجة التّهويد ويصرّ على الحفاظ على مسافة من اليهود ضمن تأويليّة خاصّة في فهم العهد القديم. وللتّوضيح، اللّوفابريون هم فصيل لاهوتي رافض لقرارات المجمع الفاتيكاني ويعتبرها فاقدة للقيمة الدّغمائيّة، لما اتخذه المجمع من مواقف تمسّ اللّيتورجيا واللّغة اللاّتينية. فقد رفض اللّوفابريّون مواقف الكنيسة بشأن الانفتاح على الأديان الأخرى، حتّى ولو كان ذلك الانفتاح براغماتيّا، لاختراق شعوب تلك الأديان، واعتبروا ذلك مسّا من مبدأ «لا خلاص خارج الكنيسة»، لِما يقدّرون ما يتضمّنه من وقوف ندّي، مع أديان، يعتبرونها زائفة ومنحرفة وضالّة.
يبرز «إيريو كاستللوتشي» في بحثه المعنون بـ «قراءة مسيحيّة في أسفار بني إسرائيل» أنّ المتابعة التّاريخيّة لتشكّل السّرديّة المسيحيّة اللاّحقة للمسيح (ع) قد اعتمدت الاستحواذ على النصّ اليهودي، ومن ثَمّ حصلت قراءة مستجدّة ورؤية مغايرة أبعدتها عن الفهم المسيحي البدئي لليهوديّة، فما كانت المسيحيّة البدئيّة دينا مستقلّا عن اليهوديّة بل نشأت داخل حضن المعبد اليهودي وداخل الرّؤية الدّينية اليهوديّة. صحيح كانت اليهوديّة الفرّيسية والأطياف الأخرى الصّادوقيّة والنّاموسيّة، تعتبر المسيح مبتدِعا ومجدفا في الدّين، ولكنّ المسيح (عليه السّلام) ما كان ينوي الاستقلال بدعوة جديدة، كان ينشد إصلاح البيت الدّاخلي اليهودي وما طرأ عليه من تحوير وتغيير، لكن دعوة المسيح ذاته تعرّضت عقب محنته مع السّلطة الرّومانيّة وأنصارها من يهود المعبد إلى غلوّ، وفي زحمة الملاحقة والتّشريد والمطاردة الذي أَلمّ بالمسيحيّة الأولى إلى أن اُعتُرف بها ديانة من جملة أديان الإمبراطوريّة عقب إعلان ميلانو (سنة 313 ميلادية) في عهد الإمبراطور قسطنطين، ثمّ كديانة رسميّة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (سنة 380 ميلادية)، غدت نصرانيّة المسيح مسيحيّات وأضحى إنجيل المسيح أناجيل، لم تصل فيها حركة نقد الكتاب المقدس إلى نتائج نهائيّة رغم الجهود المبذولة منذ قرنين أو أكثر.
اليوم ثمة خطٌّ متطوّر في المسيحيّة الكاثوليكيّة ينحو للمصالحة مع اليهوديّة، وهي مصالحة قائمة على دعائم سياسيّة بفعل التّحول الجاري في العالم، وهو ما شُرع فيه منذ الانطلاق في مشروع «وحدة التّراث اليهودي المسيحي» وطيّ صفحة الماضي. صحيح رحّبت الأوساط اليهوديّة، سيّما منها داخل إسرائيل، بهذه المصالحة «السّياسيّة» لِما لها من أثر براغماتي على الرّاهن السّياسي، ولكن تبقى الأوساط الدّينيّة اليهوديّة وجلة أمام تلك المصالحة الدّينية. فاليهوديّة العقديّة لا زالت ترى في المسيحيّة جسما غريبا بمنأى عن التّوحيد النّقي، وهو ما يضع عقبات جمّة أمام تقارب الدّينين. وإن تحاول المسيحيّة المعاصرة، مع إصرارها على مفاهيم التّجسّد والتّأليه والتّثليث، أن تحشر نفسها ضمن العائلة الإبراهيميّة الحنيفيّة بدلالاتها التّوحيديّة الصّارمة، فالأمر يبقى عسيرا ضمن التّصور اليهودي والإسلامي أيضا. صحيح تشترك الأديان الثّلاثة في جانب واسع من الرّصيد الخُلقي، وتتقاسم كثيرا من عناصر المخيال الدّيني، وربّما تواجه التّحديات ذاتها في المستقبل المنظور؛ لكن يبقى التّماهي العقدي متعذّرا بسبب الرّؤية الثّالوثيّة المسيحيّة، وهو ما يجعل اليهوديّة والإسلام أقرب على مستوى المفاهيم العقديّة منه مع المسيحيّة.
كانت أبرز بدع مشروع «وحدة التّراث اليهودي المسيحي» في المسيحيّة المعاصرة الإصرار على تهويد المسيح وتهويد الحواريّين، ضمن عمليّة فجّة تنزع إلى عرقنة الدّين اليهودي، والتّغاضي عن أمر هام وهو أنّ اليهوديّة قبل أن تتحوّل إلى سمة عرقيّة كانت ديانة كسائر الدّيانات التّوحيديّة التي عرفتها المنطقة الفلسطينيّة، شائعة في ذلك المجال الإبراهيمي الرّحب وليس في فلسطين وحدها، بل بلغ تمدّدها إلى شمال إفريقيا وإلى الجزيرة العربيّة. المسألة المنافية للصّواب وهي إضفاء الطّابع العرقي على اليهوديّة، فترة المسيح، والتّغاضي عن أنّ اليهوديّة في منشئها وفي تمدّدها طيلة عهود طويلة هي ديانة وليست عرقًا، وهو ما يمتدّ إلى القرون المسيحيّة الأولى. إنّ أهالي المنطقة الفلسطينيّة وما جاورها، ممّن جرّتهم أحداث التاريخ إلى التّحول العَقَدي من اليهوديّة إلى المسيحيّة ثمّ الإسلام، تبدو النّظرة العرقيّة للتّاريخ وجلةً ومتردّدةً من توصيف هؤلاء وتحديد هويّاتهم.
لقد ابتُدعت عرْقَنة الدّين اليهودي بقصد خلق هويّات وهميّة في الشّرق، وهو منهج يجافي الحقيقة ويتناقض مع الفهم التّاريخي الصّائب لمكوّنات المنطقة. صحيح نشأ المسيح داخل الحاضنة الدّينيّة اليهوديّة؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّه ينتمي إلى عرق وهمي. لعلّ هذا ما يلتقي بوضوح مع قوله تعالى بشأن إبراهيم عليه السلام «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (سورة آل عمران: الآية 66)، من حيث نفي صفة العرقيّة على الأنبياء والانفتاح بهم على أفق أرحب وهو التّسليم والانتساب للتّوحيد في أجلّ معانيه.
لكنّ التمعّنَ في هذا التّمشّي في التّعامل مع التّاريخ الفلسطيني، وتبعاته مثل تهويد المسيح، هو قرار مؤسّساتي قبل أن يكون نتاج بحث علمي، صادر عن سكرتاريّة وحدة المسيحيّين التّابعة للكنيسة الكاثوليكيّة بنصّ «المسيح هو يهودي وإلى الأبد» وذلك ضمن وثيقة «اليهود واليهوديّة»3، 1-9: أف9/1636-1644. هذا وقد بلغ تهويد المسيح أوجَهُ مع خلاصة البابا «راتسينغر»، في الإرشاد الرّسولي ما بعد السّينودس «كلمة الرّب» (Verbum Domini). حاول كلّ من بارتوليني دي أنجيلي وإيلينا ليا في المبحث الثّالث الإتيان على بعض النّقاط في هذا المجال، ولكن دون غوص في القضايا الكبرى.
من جانب آخر يبرز كتاب «المسيحيّون وأسفار بني إسرائيل» أنّ العلاقة الرّابطة بين الطّرفين تتضمّن وفق النّصّ الإنجيلي ثلاثة أبعاد في التّواصل مع الموروث التّوراتي: البعد الأول يتمّثل في الإتمام، حيث أنّ المسيح عبْر مشواره الدّعوي، فضلا عمّا عبّر عنه مقوله في الإنجيل كان سائرا ضمن سياق الإتمام والسّير على خطى الأسلاف، وهو مسلك سلكه كافة أنبياء العائلة الإبراهيميّة إلى غاية النبي محمد ﷺ حيث يزكّي اللاّحق السّابق؛ والبعد الثّاني يتمثّل في القطيعة، وهو أنّ الرّسالة المسيحيّة قطعت جذريّا مع جملة من الشّرائع اليهوديّة المغالية، ومن هذا الباب شكّلت قطيعة مع السّابق؛ والبعد الثالث يتمثّل في التّجاوز، وهو أنّ المسيحيّة تخطّت اليهوديّة في العديد من المسائل، وأنشأت تأويليّة جديدة للمقول التّوراتي وسعت في ترويجها، ولعلّ أبرزها التّحوّل من التّوجه لليهود رأسا إلى التّوجه للعالم، وهو ما يتجلّى ضمن هذا السّياق في سعي التّأويل المسيحي للاستحواذ على مفهوم المسيحانيّة، ومن ثَمّ على شخص المسيا. فما عاد المسيا شخصًا في الغيب يُنتظر مجيئه ليخلّص بني إسرائيل، كما بشّر بذلك العهد القديم في العديد من المواضع، بل أضحى متجسّدا في المسيح ليخلّص العالم ويملأ الأرض عدلا ونورا «فلا ترفع أمّة على أمّة سيفا ولا يتلقنون فنون الحرب بعد» (ميخا4: 3)، أو ما يرد في سفر إشعياء «ويحدث في آخر الأيام أن جبل هيكل الرّب يصبح أسمى من كلّ الجبال... فيقضي بين الأمم ويحكم بين الشّعوب الكثيرة، فيطبعون سيوفهم محاريث ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمّة على أمّة سيفا، ولا يتدرّبون على الحرب فيما بعد» (إشعياء2: 2-4). تمثّل تلك العناصر الثّلاثة المشار إليها جوهرَ العلاقة الرّابطة للمسيحيّة باليهوديّة، وهي عناصر محوريّة في فهم طبيعة العلاقة بين اليهوديّة ومسيحيّة المسيح.
الكتاب في منتهى الأهمّية من حيث معالجة قضيّة دقيقة متعلّقة بالعلاقة بين الدّينين اليهودي والمسيحي، لكن ما يبقى خافتا ودون تعميق وهو إبراز الإطار السّياسي المعاصر الذي ظهر فيه هذا الطّرح الجديد في المسيحيّة. فليس دور الدّراسات اللاّهوتية الجادّة، أو الأبحاث المتعلّقة بتاريخ المسيحيّة واليهوديّة، بلوغ نتائج تتلاءم مع خيارات المؤسّسة الدّينية وإنّما عرض الحقائق بمنأى عن تلك الخيارات المتقلّبة.