حديث في السياسة

بقلم
عبدالعزيز التميمي
هل انتهت حركة النهضة؟
 قال عدد من النّشطاء، من داخل حركة النّهضة ومن خارجها، أنّ النّهضة انتهت، أي أنّ حركة النهضة استنفدت أغراضها، ولم تعد تتوفّر على شروط المواصلة. فهل انتهت حركة النّهضة حقا؟
هذا السّؤال ليس بعيدا عن أيديولوجيا النّهايات التي أطلقها الأمريكي من أصول يابانية «فرانسيس فوكوياما» من خلال كتابه «نهاية التاريخ» الذي خلّد فيه اللّيبراليّة، ووضع كلّ التّاريخ الممتد من الثّورة الفرنسيّة الى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السّوفياتي، بين قوسين. أي أنّه لن يحصل أي تقدم في التّاريخ بعد ذلك، ولن تبقى الاّ بعض التّفاصيل تنويعا على النّظام اللّيبرالي، واقتصاد السّوق الرّأسمالي العالمي. ولكن «فوكوياما» تراجع بعد ذلك بسنوات، معتبرا أنّ التّاريخ لم ينته، وهو مفتوح على تطوّرات نوعية أخرى ومتجدّدة.
كما أنّ عالم الاجتماع المجري «كارل مانهايم» طرح فكرة نهاية الأيديولوجيا، وتمسّك باليوتوبيا كمثال وحلم تتعلّق به الأجيال. وذلك بالرّغم من أنّ اليوتوبيا يمكن أن تصلح كقاعدة لبناء أيديولوجي.
إنّ الأيديولوجيا تجنح الى التّعبئة والتّجنيد الشّعبي والعصبوي، مثلما كان يحصل في الأنظمة القبليّة أو الشّمولية الفاشيّة والشّيوعيّة. ومع التّطور الفكري والفلسفي، أصبح السّياسيون وعلماء الاجتماع أميل الى معالجة الفكر السّياسي في أطر أكثر علميّة، تكون في الغالب أقرب الى سيسيولوجيا الثّقافة والابستمولوجيا أو فلسفة العلوم.
وقد تمّ استهداف الإسلام السّياسي، باعتباره أيديولوجيا دينيّة بشتّى الطّرق، ودبّجت الدّراسات العلميّة وغير العلميّة التي تتنبّأ بنهايته وتستعجلها. رغم أنّ الحاجة الاجتماعيّة والوطنيّة وحتّى الدّيمقراطية تزيد من الطّلب الاجتماعي على الإسلام السّياسي، وعلى قوّة الدّين في الشّأن العام، كما كتب رائد مدرسة فرانكفورت النقديّة الألمانيّة «يورغين هابرماس» و«ريجيس دوبريه» و«مارسيل غوشيه» في كتابه «الدّين في الدّيمقراطيّة»، ويقصد الدّين الذي يحرّك الوعي الدّيمقراطي والوطني، لا العكس من ذلك.
وحتّى الشّيوعيّة، فقد أدّت نهايتها الى نشوء النّزعات الأيديولوجيّة القوميّة والدّينيّة في روسيا والصّين والولايات المتحدة وعدد من الدّول العربية. والعجيب أنّ السّياسات البراغماتيّة ذاتها، تحوّلت في عدد من البلدان الى التزام نمطي وايديولوجي.
لقد طغى على السّاحة السّياسيّة والحزبيّة في بلادنا تونس، نوع من الأيديولوجية الدّينية. ذلك أنّ الأحزاب الأيديولوجيّة حتى القومية والليبرالية والماركسية الراديكالية منها، حوّلت مقولاتها الحزبيّة الى عقائديّة وثوقيّة ودغمائيّة صلبة، لا تقبل التّثاقف والحوار. وبدلا من أن تتحوّل من الأيديولوجيّا الى الابستمولوجيا وعلم اجتماع الثّقافة، نجدها تتحول تدريجيّا وبحكم التّعصّب والتّجاذبات العدميّة الى تيولوجيا أي إيديولوجا، بتخريجات دغمائيّة وثوقيّة وعقائديّة، في حين يتطلّب الأمر التّحرّر من تلك الدّغمائيّات التيولوجيّة.
وفي الواقع، فإنّ التّطورات العلميّة والتّقنيّة والاتصاليّة أضعفت وهج الأيديولوجيا الكلاسيكيّة، وجعلتها تتطوّر نحو أضراب أخرى، وأطوار جديدة من التّرابط بين الفكر والممارسة.
ولئن نجحت الحركة الإسلاميّة في الوطن العربي في التّحويل الحيوي للحركة الإصلاحيّة الى حركة اجتماعيّة بديناميكيات جديدة للفعل الاجتماعي، فإنّ طبيعة الحركة الاجتماعّية كانت ذات طبيعة إحيائيّة. أي إحياء ما طوي ومات من التّراثيات الدّينيّة، دون فرز علمي لاجرائيّاتها وإضافاتها الهيكليّة في الزّمن العربي الإسلامي الحديث والمعاصر،غير المعزول عن الزّمن الكوني.
ولئن كانت القوّة المشروعيّة والأخلاقيّة للمشروع الرّسالي الإسلامي الذي انطلقت به الجماعة وحركة الاتجاه الإسلامي والنّهضة، في تمايز حيّ وتقدّمي عن الأطر الدّينيّة التّقليديّة، قد مكّنت الحركة طيلة عقود ما قبل الثّورة من أدبيّات وخطط كفاحيّة، انتصرت فيها على المطاحن الدّمويّة والعدميّة للاستبداد، فإنّ الثّورة كشفت في إشارات متكرّرة، بأنّ المشروعيّة والأدبيّات والخطط السّابقة قد استنفدت أغراضها، ولم تعد كافية لمجابهة التّحديات الجديدة للثّورة، ومطالب الشّعب، وتطلّعات الشّباب، وطموحات الحركة النسويّة، وحاجيّات الجهات في المركز والهامش، ومتطلّبات الحكم وآليّات السّلطة وإدارة أجهزة الدّولة.كما أنّ مناضلي الحركة وقياداتها لم يعودوا بعد الثّورة كما كانوا قبلها، ضمن وحدة وظيفيّة تنظيميّة، وإنّما عادوا كيانا متفرّقا قادما من أصقاع ومناطق ومواقع متفرّقة، دون أن تتدارك الحركة آنئذ أمرها بالمسارعة الى استخلاص تجارب مجمل الكيانات الملتقية مجدّدا حول الحركة وتوحيدها من جديد، ضمن وحدة تنظيميّة عضويّة مع المجتمع التّونسي هذه المرّة..وهذه هي أدنى معاني العلنيّة والانفتاح.
فالنهضة بعد الثوّرة لا يمكن أن تكون نهضة تنظّم النّهضة، وإنّما نهضة تعيد تنظيم المجتمع التّونسي وتاطيره، ضمن الأهداف والمصالح الاستراتيجيّة للدّولة والثورة، وليس لحركة النّهضة أهداف أخرى غير تلك الأهداف.
وهو ما يعني أنّ تحويل الحركة الإصلاحيّة الى حركة اجتماعيّة إحيائية قد استكمل أدواره، وصار مطلوبا من الحركة أن تحوّل الإيقاع الثّوري هذه المرّة الى حركة اجتماعيّة تجديديّة، وليست إحيائيّة فقط. تجديديّة في العقل السّياسي، وتجديدية في العقل الأخلاقي، وتجديديّة في التّفكير الفلسفي والدّيني وفي التّمثل الاجتماعي التّونسي للإسلام، كفاعل عضوي في الإيقاع الوطني.
فالإسلام إذا أعدنا تعريفه لم يعد يقتصر على النّصوص المؤسّسة للإسلام في عصر التّدوين، وإنّما يتجاوز ذلك الى أنّ الإسلام هو تاريخ الإسلام، وهو جغرافيته السّياسيّة، وهو أنثروبولوجيا الإسلام «علوم الانسان»، وانطولوجيا الإسلام «علم الوجود»، وخاصّة سوسيولوجيا الإسلام، أي المصير الدّيناميكي والعلمي والمستقبلي لديمغرافيا الإسلام في تونس، وفي مجمل الجماعات الوطنيّة المكوّنة للشّعب والأمّة.
وخلال مختلف مراحل حكومات الثّورة، شاركت حركة النّهضة بالحضور إلاّ أنّها لم تكن الفاعل الرّئيسي ضمن استراتيجيّات ديمقراطيّة ووطنيّة، وضمن عقيدة أمن جمهوري، وقضاء جمهوري ديمقراطي مستقل، في دولة مدنيّة ديمقراطيّة مستقلّة، يمثّل الإسلام بالمعنى الذي أسلفنا، والعروبة رمز سيادتها الوطنية. 
وبدأت مسيرة التّراجعات الانتخابيّة والتّوافقات الاضطراريّة غير الاستراتيجيّة والبرنامحيّة، رغم الحضور المتقدّم والأبرز للحركة في البرلمان بجميع دوراته، وفي البلديّات في مشهد تمثيلي لا يمارس طليعيّته المشروعة في السّياسة والثّقافة والتّعليم والتّربية، وفي الاقتصاد السّياسي للثّورة، والاجتماع السّياسي للانتقال الديمقراطي.
أحدثت هذه الوضعيّة المربكة فراغا هائلا في الوسط السّياسي والاجتماعي الدّيمقراطي، واستغل أعداء الثّورة ذلك الفراغ، فأثخنوا في الوطن تمرّدا واغتيالات للمناضلين الشّهداء، ورجال الأمن، والجيش والحرس الوطني، في محاولة لإسقاط الثّورة والدّولة معا. وخدم جزء من وسائل الاعلام أجندة الإسقاط والإرباك طيلة السّنوات الصفراء والعسيرة العشر. ودبّت فتنة الإرباك لتطال الثّورة، والمناضلين والسّياسيين، والزّعماء، والأحزاب الدّيمقراطيّة، ومؤسّسات الدّولة الرّئاسيّة والبرلمانيّة والقضائيّة، في استراتيجية لإسقاط الدّولة.
واخترقت ثقافة التّرذيل والكراهيّة مجمل العقل السّياسي للطّبقة الحزبية والمدنيّة. ودلفت تلك الثّقافة قافزة ومتسلّلة الى الوعي النّهضوي. وكان مناضلو «حركة النّهضة» وكوادرها، يستشعرون بوعي حسّي وشعوري غير استراتيجي ضياع شيء ما، ونقصان شيء ما، ولكن عدم إدراك وتلمّس ذلك الشّيء المنقوص، جعلهم يعلنون شعارات تبدو تجديديّة في المؤتمر العاشر، ولكنّ التّجربة بيّنت أنّها شعارات متهافتة، عجولة، غير ناضجة، مفتقدة لبنيتها النّظريّة والعمليّة والاجتماعيّة والبرنامجيّة.
وفي ظلّ تلك الأوضاع المتحرّكة والايقاع المتسارع، لم يتحمّل العديد من مناضلي الحركة من المشارب التّنفيذيّة وأيضا الشّوريّة والتّنظيميّة سرعة المنعرج الخطير الذي تمرّ به البلاد، فانقلبوا على حركتهم في تنازع تنظيمي وصراع على التّموقعات التّنظيميّة طالت مؤسّسة رئاسة الحركة، ومؤسّسة الشّورى في حركة تقنويّة نصّية قانونيّة، دون الانتباه الى المخاطر الدّاخليّة والخارجيّة المهدّدة للمشروع الوطني، والمهدّدة للدّولة والثّورة والدّيمقراطية. وانتهت الى إضعاف الهيبة الكاريزماتيّة للحركة، وإضعاف مواقع الحركة التّفاوضيّة والتّحالفيّة والائتلافيّة.
كل تلك المظاهر قرأها دارسون ونشطاء من داخل الحركة وخارجها، على أنّها مظاهر نهاية للنّهضة. ولكنّ الواقع والنّظر العلمي يقول بأنّها ظواهر أزمة، ومظاهر انتهاء مرحلة من النّهضة، وليس نهاية للنّهضة، ولكنّها أيضا بداية لمرحلة أخرى من النّهضة.
وتتعرض البلاد اليوم الى مخاطر انقلابيّة وفاشيّة، قد تأتي على الأخضر واليابس، وتعصف بالتّجربة الدّيمقراطيّة وبالدّولة والثّورة، إذا لم تتحمّل حركة النّهضة وقياديّوها مسؤوليّاتهم في استعادة زمام المبادرة الدّيمقراطيّة والثّوريّة، تقتضي نهضة في النّهضة وثورة في الثّورة.ولهذا سبله لمن القى السّمع وهو شهيد. 
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ/ سورة ق 37