أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
الأوّل ـ الآخر ـ الظّاهر ـ الباطن
 لم يرد أيّ من هذه الأسماء الأربعة في الكتاب العزيز عدا مرّة واحدة، وذلك في سورة الحديد المكّية، إذ قال سبحانه «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1). ولك منذ البداية أن تستخدم فاصلة الآية «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم» إذ تكفل لك نورا يكشف المعنى المقصود من الآية. وهو أمر عام لكلّ آية وليس خاصّا بهذه الآية فحسب. ندرك منذ البداية إذن أنّ هذه الأسماء الأربعة منسوبة إلى محور العلم والإحاطة والقدرة التي يتّصف بها اللّه سبحانه. هو سبحانه بكلّ شيء عليم، ومن أمارات ذلك أنّه هو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن. كما أنّ ورود هذه الأسماء الأربعة متتابعة على غرار ما ورد قبل هذا في سورة الحشر «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ…»(2) يوحي بأنّ العلاقة بينها حميميّة وطيدة، ذلك أنّه ليس هو الأوّل فحسب سبحانه، بل هو الآخر كذلك. فلا يكون هو الأوّل محيطا، عليما، قديرا، إلاّ بأن يكون هو الآخر كذلك. ومثلها أنّه لا يكون هو الظّاهر إحاطة وعلما وقدرة حتى يكون هو الباطن كذلك. حتّى إنّه لا يليق بك أن تقول أنّه هو الأوّل إلاّ بأن تقول أنّه هو الآخر كذلك، ومثلها مع الظّاهر والباطن. هي إذن متلازمة المعنى،هذا تقديم لا مناص منه.
الأوّل
جاءت هكذا مطلقة، مرسلة، عامّة، فلم يخبرنا عمّن يكون بعده. إنّما أخبرنا أنّه هو الآخر كذلك. وبذلك نعلم أنّ إسميه هذين ( الأوّل والآخر )، لا يصلح أحدهما إلاّ مقترنا مع الآخر. إذ لو قلنا أنّه هو الأوّل وصمتنا، قد يفهم أنّ له من يعقبه، فلا يكون هو من يختم الأمر. ومثل ذلك لو قلنا أنّه هو الآخر، فقد يفهم أنّه لم يكن الأوّل سبحانه، تلازمهما مثل معناهما بل أكبر وأكثر. هو الأوّل تفيد أنّه لم يولد سبحانه. وهو تأكيد لما جاء في سورة الإخلاص التي تكثّف هويته سبحانه تكثيفا هو الأخصب «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» (3). إذ أنّ من كان له والد لا يكون هو الأوّل. هو الأوّل تفيد كذلك أنّه لا يحتاج إلى أحد سبحانه، فهو أحد وليس هو واحد فحسب. وهو تأكيد كذلك لما جاء في سورة الإخلاص التي قالت «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(4). الأحد لا يكون إلاّ هو الأوّل والأوّل لا يكون إلاّ أحدا. هو الأوّل تفيد كذلك أنّه هو الأعلم العليم بكلّ شيء، والأقدر الذي هو على كلّ شيء قدير، كما تفيد أنّه هو الحيّ الذي لا يموت سبحانه، وأنّه صاحب الفضل على كّل من سواه وليس لأحد عليه من فضل. بكلمة واحدة : إسم الأوّل يختصر أكثر أسمائه سبحانه ويكثف معانيها ويخصّب دلالاتها. عندما نعلم أنّ فلانا هو الأوّل في كذا، فإنّه يظلّ محلّ توقير وإجلال من كلّ الناس، فلا يتطاول عليه أحد ولا يتعالم. اللّه عندما يكون هو الأوّل سبحانه فهو بمثل ذلك. عدا أنّه ليس كمثله شيء سبحانه، فلا يتعالم عليه أحد ولا يتطاول عليه أحد، ولا يدّعي أحد شيئا من ألوهيته أو أحاديته، أو ربوبيته، أو حاكميته، أو ولايته. 
هو الأوّل يعني أنّه هو الإله الجدير بالعبادة الخالصة والطّاعة الكاملة. العقل البشري نحت منه هو سبحانه بطريقة لا تسمح له بأن يتصوّر كيف كان هو الأوّل سبحانه، ولكن يؤمن بأنّ ذلك ممكن، إذ يسيح في كونه بفكره، فيرتد إليه الفكر حسيرا. هو الأوّل في كلّ شيء وقبل كلّ شيء بطريقة تجعل الإنسان المتفكّر، المتدبّر، مؤمنا مطيعا، ساجدا، راكعا، مسبّحا، بحمده سبحانه. هو الأوّل جديرة بالتّركيز على أبعادها ودلالاتها وليس على مناسبتها من الأرقام التي تليها أو الأعداد التي تعقبها، ذلك أنّه هو الأوّل سبحانه، ولكنه ليس رقما فحسب ولا عددا. ذلك هو معنى الأولويّة هنا في حقّه سبحانه.
الآخر
يتلازم إسم ( الآخر ) مع إسم ( الأوّل ) تلازما عجيبا، فلا يرد هذا إلاّ مع ذاك، بل لا معنى لهذا إلا بذاك. ذلك الأوّل سبحانه لا معنى لأولويته إلاّ إذا كان هو الآخر، وهذا الآخر لا معنى لآخرته إلاّ بأن كان هو الأوّل. هو الآخر سبحانه تفيد أنّه ليس بعده شيء ولا يخلفه شيء. ذلك أنّه لم يلد ولدا يخلفه أو يظلّ بعده سبحانه مصداقا لما جاء في سورة الإخلاص «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ». تأكيد عجيب في القرآن الكريم كلّه على أحاديته سبحانه، ووحدانيته سبحانه، وتفرّده سبحانه. وذلك حتّى يؤمن النّاس أنّه هو الإله الحقّ الجدير بالعبادة، إذ لو اضطرب أيّ من ذلك اضطربت في إثره قيمة الإلهية. هو الآخر تفيد كذلك أنّه يرث كلّ شيء، الأرض ومن عليها. كلّها قيم تغذي أسماء العلم والقدرة والعظمة. هو الآخر يفيد كذلك أنّه هو الصّمد الذي يفيء إليه كلّ شيء سائلا حاجته «اللَّهُ الصَّمَدُ»(5). الآخر هو من يفيء إليه المحتاج ويقصده المكدود. ألم يخبرنا سبحانه أنّه يتوفّى حتّى الملائكة الذين ظلّوا أمما سحيقة تعبده؟ «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ»(6). وبذلك يكون هو الآخر سبحانه إذ يفنى كلّ شيء و«وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(7). وعندما يؤمن المرء أنّه هو سبحانه الأوّل والآخر معا، فإنّه لا يتعلّق بأحد سواه ولا يتولّى أحدا سواه ولا يسأل أحدا سواه. ومن ذا تتحقّق فيه العبوديّة التّامة المطلوبة. ذلك هو المقصود من هذين الإسمين ( الأوّل والآخر) أي تعميق التّوحيد الخالص الذي جاءت به سورة الإخلاص.
الظّاهر
يمكن بشيء من التجوّز أن نقول أنّ إسمي ( الأوّل والآخر) يمتدان أفقيّا أو عموديّا مع التّسليم بأنّه ليس كمثله شيء. فإذا كان ذلك كذلك تيسيرا للفهم فحسب، فإنّ إسميه ( الظّاهر والباطن) يسيران في الإتجاه الآخر أي عمقا. وعندما تجمع هذه الأسماء الأربعة المتكافلة، المتتالية، المتعاقبة، تعلم أنّه هو سبحانه كلّ شيء. أي محيط بكلّ شيء، فهو الأوّل إبتداء وليس قبله شيء، لا وجودا، ولا قدرة، ولا علما، فهو إذن الجدير بالعبادة، وهو الآخر إنتهاء ووراثة، فليس بعده شيء يخلفه أو يعقبه أو يتولّى الأمر بعده، فهو إذن كذلك بتلك العبادة الخالصة لجدير، وهو الظّاهر والباطن معا عمقا. ليس هناك في كلّ أسمائه ـ ربّما ـ ما هو أشدّ إرتباطا وحميميّة وتواثقا وتكافلا كما هو في مثل هذا الموقع في سورة الحديد.
الظّاهر : إسم فاعل من ( ظهر) أي غلب وفاق وقهر وانتصر. قال سبحانه في شأن الإسلام ونبيّه عليه السّلام أكثر من مرّة «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»(8) . أي ليغلّبه وينصره ويعليه ويجعله فوق الدّين كلّه. الظّاهر إذن معناها الأوّلي : الغالب المتغلّب، والقاهر القهّار، والعالي الأعلى المتعالي، وكلّ ما يمتّ إلى ذلك الحقل الدّلالي بصلة. ولكن لا يتوقّف هذا الإسم عند هذا المعنى، إنّما يتعدّاه لدلالة أخرى هي دلالة البروز والعلم ( بفتح العين واللاّم معا). اللّه هو الظّاهر بمعنى أنّه بارز علم، لا يختفي وليس هو مستور. المفهوم من هذا طبعا آياته الدّالة عليه، والأمارات التي وضعها أثرا على ذلك. لا يظهر هو سبحانه للعيان في هذه الدّنيا حتى يبتلي النّاس من يؤمن به بالغيب، ومن يكفر. ولكن رهن ذلك بالنّظر إلى آياته وعلاماته وأماراته المبثوثة في النّفس والكون والتّاريخ. بهذا المعنى هو ظاهر سبحانه، بل هو الظّاهر بظهور آياته، ومنها كتابه العزيز الذي مازال يتحدّى النّاس أن يأتوا بعشر معشار سورة منه. هو الظّاهر إذن بالمعنيين : معنى الغلبة والقهر والقدرة والعظمة، ومعنى بروز آياته التي عليها يؤمن النّاس.
الباطن
بمثل تلازم أولويته سبحانه مع آخريته، يتلازم إسمه ( الظّاهر ) مع ( الباطن). ليس هو الظّاهر فحسب، إذ يكون قاصرا سبحانه وليس هو الباطن فحسب. إنّما هو الظّاهر والباطن معا في إمتداد يتّجه نحو العمق بمثل ما توحي به عقولنا فحسب، وإلاّ فإنّ العقل لا يدرك من كلّ ذلك إلاّ كما تعود خرقة ثوب بماء البحر إذا تعرّضت للبلل، بل أدنى من ذلك. الحديث عن أسمائه سبحانه هو من قبيل السّؤال فحسب أي محاولات ومقاربات نحن مأمورون بها، ولكنّ الإحاطة بأيّ إسم من أسمائه ولا بعشر معشار منه أمر دونه خرط القتاد كما تقول العرب. هو الباطن سبحانه لأنّه يعلم البواطن وما تخفي الصّدور، وهو أمر يملكه وحده ولا يشاركه فيه أحد مطلقا. من معاني أنّه هو الباطن سبحانه أنّ من لم تسعفه آيات الكون ـ لعمى أو لصمم مثلا أو لإجتماعهما معا ـ من عباده، فإنّه يجد برد الإيمان به في نفسه أي في باطنه. ومعنى ذلك أنّه ينوّع سبحانه ويعدّد طرق الإيمان به، فلأهل الظّاهر طريقة ولأهل الباطن طريقة لأجل ألاّ يحرم من الإيمان أحد. ولكن ليس لتتنازع تلك الطّرق فتصبح مبضعا مسموما في جسم الأمّة. هو الباطن سبحانه بمعنى أنّه هو الأقرب إلينا إذ قال «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(9). وهو الباطن سبحانه الذي يخشى ويتقى حتّى فيما يندّ عن الظّواهر والمظاهر والنّاس. إذ قال سبحانه في موضع آخر «مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(10). أي ما إستتر من تلك الآثام عن النّاس وهي حياة القلب أو ما يمكن أن يأتيه المرء في خلوته. هو الباطن لأنّه الوحيد الذي يخشى حتّى ممّا يخطر في القلوب. وما ذلك سوى لأنّه هو الباطن الذي يعلم ما في الباطن وأنّ آياته ليست مقصورة على ما ظهر في تضاريس الكون فحسب، إنّما هي كذلك في الأنفس «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(11). هو الباطن سبحانه بمعنى الإحاطة والعلم والقدرة وهو الظّاهر بمثل ذلك وهو الأوّل بمثل ذلك وهو الآخر بمثل ذلك.
خلاصة
هو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن معناها الأصليّ العام : المحيط بكلّ شيء والقدير على كلّ شيء والعليم بكلّ شيء والذي ليس كمثله شيء. لا مناص من تلازم كلّ مثنى من هذه الأسماء، فهو الأوّل والآخر معا، وهو الظّاهر والباطن معا. وهو كذلك إحاطة وعلما وغلبة وقهرا في كل الإتجاهات الأفقيّة والعموديّة أولويّة وآخريّة، والعميقة إمتدادا من الظّاهر المكشوف إلى الباطن المستور. ولا حرج على التسمّي بعبد الأوّل أو عبد الآخر أو عبد الظّاهر أو عبد الباطن لأنّها أسماء حقيقيّة مجردّة منصوص عليها ومبنيّة على صيغة الإسم، وليس على صيغة الفعل الذي يتمحّل النّاس تمحّلا فيجعلون منه إسما له سبحانه لم يأذن به. ولا حرج كذلك لمن تسمّى بالأوّل والآخر والظّاهر والباطن، لأنّه ليس في ذلك منازعة له سبحانه عدا أنّ النّاس فيما علمت لا يتسمّون لا بهذا ولا بذاك.
الهوامش
(1) سورة الحديد - الآية 3
(2) سورة الحشر - الآية 23
(3) سورة الإخلاص - الآية 3
(4) سورة الإخلاص - الآية 1
(5) سورة الإخلاص - الآية 2 
(6) سورة الزمر - الآية 68 
(7) سورة الرحمان - الآية 27 
(8) سورة التوبة - الآية 33 
(9) سورة ق - الآية 16 
(10) سورة الأنعام - الآية 148 
(11) سورة فصلت - الآية 53