أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
عن الكسوف والخسوف
 تمهيد
لا توجد مدوّنة علميّة تراكميّة أقدم من المدوّنات الفلكيّة، سواء أكانت لقدماء المصريّين أو للسّومريين أو البابليّين أو الصّينين أو الهنود؛ حيث توجد أدلّة وشواهد على وجود مثل هذه المدوّنات على جدران المعابد وألواح الصّلصال التي تقدّر عمرها بأكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وأغلب الظنّ أنّ إقليدس (300 - 265 ق.م) جمع كتابه «العناصر» من هذه المدونات وغيرها، عندما كان رئيسا لمكتبة الأسكندريّة؛ وقد كتب قبله كتبا في البصريّات والموسيقي والفلك، لكن تمثّلت إضافته الكبرى في تجريد الرّياضيّات إلى تعريفات وبديهيّات ومسلّمات ومبرهنات، حتّى أنّ الفلكي المصري اليوناني بطليموس (90 - 148م) -الذي جاء بعد إقليدس بفترة زمنية ليست بالكبيرة-  كتب كتابه المعروف عربيّا بالمجسطي بالأسكندريّة، وهو دائرة معارف فلكيّة، وقد ظلّ لألف عام مرجعا في معرفة حركة الأجسام السّماوية، رغم إن اسم الكتاب الحقيقي باليونانية «μαθηματικἠ σύνταξις» وتنطق «ماثماتيكا سينتاكسيس» وتعني الأطروحة الرّياضيّة. هذا التّمهيد يدلّ على أنّ الفلك كان بمثابة المعمل أو الرّحم الذي نضجت فيه الرّياضيات أولا، فالحسابات التي يحسب بها تعامد أشعّة الشّمس على وجه رمسيس الثّاني، بمعبد أبو سمبل، بصعيد مصر يوم مولده في 22 أكتوبر، ويوم تتويجه ملكا فى 22 فبراير يدلّ على نضج حساب المثلّثات الكروي في هذه الحقبة (1303 - 1213 ق.م) أي قبل مولد إقليدس بعشرة قرون.
الكسوف والخسوف في لغة العرب
يستعمل العرب الكسوف للدّلالة على ذهاب ضوء الشّمس، والخسوف للدّلالة على ذهاب ضوء القمر، وإن كان ابن منظور دلّل على استخدام كلمة كسوف للدّلالة على ذهاب ضوء الجرمين الشّمس والقمر، ففي «لسان العرب» «كسَف القمرُ يَكْسِفُ كُسوفاً، وكذلك الشّمس كسَفَتْ تَكْسِف كسوفاً: ذهب ضوءُها واسْوَدَّت، والقمر في كلّ ذلك كالشّمس. وكسف القمر: ذهب نوره وتغيَّر إلى السّواد». فالكسوف إذن كلمة تصف أيّ حدث هو «أنّ أحد الأجسام الفلكيّة يلقي ظلّه على جسم آخر».
دورة الميتونية ودورة ساروس
عبر مئات من السّنين قبل الميلاد، ظلّ البابليّون يسجّلون أدقّ التّفاصيل الفلكيّة اليوميّة والشّهريّة والسّنويّة، على ألواح من الصلصال خصوصا في «نينوى» بالقرب من الموصل الآن بالعراق؛ ومن تراكم هذه السّجلات، استطاع البابليّون بناء جداول فلكيّة دقيقة، ومن خلالها استطاعوا التّنبؤ بالأحداث الفلكيّة الهامّة. استطاع البابليّون وبدقّة قياس طول الشّهر القمري الاقتراني منسوبا لموقع الأرض حول الشّمس (أي إتمام القمر لدورة كاملة حول الأرض) وهو 29.531  يوما، بينما يبلغ الشّهر النّجمي للقمر (أي إتمام القمر لدورة كاملة حول الأرض منسوبة لنجم مرجعي ليس الشّمس) هو 27.322 يوما. 
استطاع البابليّون معرفة دورة تكرار أطوار القمر، ومن ثمّ حسبوا متى تكون دوريّة الأوضاع القمريّة بالنّسبة للأرض والشّمس، وتوصّلوا إلى أنّه كلّ 235 شهر قمري (أي19سنة) تتكرّر هذه الأوضاع، وأطلقوا عليها الدّورة الميتونية 432م نسبة إلى مكتشفها. وبعد ذلك استخدمها العرب أسوأ استخدام، في كبس السّنين القمريّة ليجعلوا السّنة الشّمسيّة تتطابق تماما مع السّنة القمريّة والفصول الأربعة، وليأتي رمضان دائما في الاعتدل الرّبيعي بين شهري مارس وإبريل، ويبقى شهر صفر متزامناً مع الاعتدال الخريفي، ويبقى موسم الحجّ في الصّيف. عرف البابليّون أيضا أنّ القمر يدور حول الأرض في مستوي مختلف عن المستوي الذي تدور فيه الأرض حول الشّمس (مستوي البروج) بزاوية ميل بينهما تساوي 5 درجات تقريبا؛ هذه الزّاوية هي المسؤول الرّئيس عن عدم تكرار الكسوف كلّ شهر قمري، ولو كانت هذه الزّاوية صفرا، لحدث كسوف قمريّ وآخر شمسيّ كلّ شهر. وعرفوا من ذلك الشّهر القمري الدّراكوني (العقدي)، وهو الزّمن اللاّزم لحركة القمر من نقطة تقاطع مستوي مداره حول الأرض مع مستوي الأرض حول الشّمس إلى أن يعود إليها مرّة أخرى على التّوالي، يساوي 27.21 يوما.
 من كلّ هذه الاكتشافات والسّجلات، اكتشف البابليّون دورة أخرى تتعلّق بدورية الكسوف، وأطلقوا عليها «دورة ساروس» وهي 18 سنة و11يوما، وبتسجيل الكسوفات الشّمسيّة والقمريّة في إحدى دورات ساروس، يمكن معرفة الكسوفات المستقبليّة في الدّورة الموالية وهكذا. 
ومع كلّ هذه المجهودات الجبّارة بأدوات ذلك العصر والتي كانت في غاية البساطة، يدّعي الغرب أنّ الإغريق هم أوّل من عرف التّجريد الرّياضي وليس البابليّين، مستدلّين بكتاب «إقليدس» في العناصر، الذي بدأ تجريد الفكر الهندسي، ولكنّهم يعترفون أنّ «إقليدس» لم يكن له الفضل في أغلب ما كتب في كتابه وإنّما كانت معارف لدى السّابقين. استخدم «بطليموس» دورة ساروس واعتبرها بمثابة المسلّمات في الحركات الفلكيّة، ومنها استطاع أن يستنتج أنّه في كلّ عام يحدث على الأقل كسوفان شمسيّان وثلاثة خسوفات أو العكس. 
توالت التّحسينات على كتاب «المجسطي» من «ابن الشّاطر»، وعدّل «تيكوبراهي» من مركزيّة الأرض إلى مركزيّة الشّمس، وأضاف «كبلر» إضافات نوعيّة بالرّسوم البيانيّة للأفلاك، ثمّ حدثت النّقلة العظمى وهي النّمذجة الرّياضيّة للحركة على يد «نيوتن».
قليل من الرياضيات يفتح الشهية
  تدلّ القياسات الفلكيّة المستنتجة من اعتبارات رياضيّة متقنة، وبسيطة، ومجرّبة، تمّ التّأكد من صحّتها، على أنّ قطر القمر يبلغ حوالي 3474.2 كم، وقطر الشّمس حوالي 1391000 كم؛ أي أنّ قطر الشّمس يبلغ حوالي 400 مرّة قطر القمر. وهذا يعني أنّه إذا كان القمر والشّمس بعيدين بنفس القدر عن الأرض، فإنّ الشّمس ستظهر في السّماء أكبر من القمر بـ400 مرّة. لكن الحقيقة أنّ القمر أقرب إلى الأرض من الشّمس بحوالي 400 مرّة، وهو ما يجعلهما متساويين في الحجم تقريبا عند النّظر إليهما من سمائنا. وبما أنّ القمر سيكون صغيرا بالمقارنة مع الشّمس، فإنّ كسوف الشّمس الكلّي لن يكون ممكنا، إلاّ إذا كان الحجم الظّاهري للقمر على الأقل مساو تقريبا للحجم الظّاهري للشّمس، وليس هذا فحسب لكن في أوضاع معينة (وضع الاقتران). 
ولمّا كان مدار الأرض حول الشّمس ليس دائريّا وإنّما إهليليجيا (بيضاويّا) فإنّ  المسافة بين الشمس والأرض تتغير من 147090000 كم[1]  (عند أقرب نقطة للأرض في مدارها) إلى  152100000كم (عند أبعد نقطة للأرض في مدارها) حول الشّمس، وكذلك ولأنّ القمر يدور حول الأرض في مدار بيضاوي أيضا، فإنّ المسافة بين القمر والأرض تتراوح بين 363300  كم و405500كم. وبقسمة أكبر مسافة بين الشّمس والأرض على أصغر مسافة بين الأرض والقمر نحصل على أنّ أكبر مقدار للحجم الظّاهري للشّمس مقارنة بالحجم الظّاهري للقمر هو418.39  مرّة، وبقسمة أصغر مسافة بين الشّمس والأرض على أكبر مسافة بين الأرض والقمر نحصل على أن أصغر مقدار للحجم الظّاهري للشّمس مقارنة بالحجم الظّاهري للقمر وهو 362.52 مرّة. 
تدلنا هذه الحسابات البسيطة على إمكانيّة أن يكون الحجم الظّاهري للشّمس مطابقا للحجم الظّاهري للقمر في بعض الأوضاع الفضائيّة للقمر والأرض والشّمس، ممّا يجعل الكسوف الكلّي ممكنا. وإذا أردنا دقّة في الحساب فلنرجع للشّكل التالي:
 
 
 
 
 
متى يحدث الكسوف؟
يحدث الكسوف إذا حجب القمر ضوء الشّمس عن الأرض (جزء من الأرض بالطّبع)، أو إذا حجبت الأرض ضوء الشّمس عن الوصول للقمر (جزئيّا أو كليّا)، ويحدث هندسيّا إذا وقعت الأرض والقمر والشّمس على خطّ واحد تقريبا. ولاستكمال الفهم يجب معرفة ما الظّل umbra  وشبه الظّل penumbra (أنظر شكل 2)، يتكوّن الظّل من المنطقة المحصورة بين المماسين الخارجين خلف الجسم صاحب الظّل (وهو الجسم الواقع بين الجسمين الآخريين)، وهي المنطقة التي تحتجب فيها الشّمس تماماً بالنّسبة للنّاظر الموجود بتلك المنطقة، ومنطقة شبه الظّل تتكوّن من منطقتين منفصلتين كلّ منهما محصورة بين مماس خارجي وآخر داخلي ويحتجب فيها جزء من الشّمس ويبقى جزء منه مرئياً. 
يحدث الكسوف الشّمسي عندما يقع القمر بين الأرض والشّمس، ويسقط ظلّ القمر على الأرض، ويكون القمر في مرحلة المحاق «بداية الشّهر القمري»، ولا يرى إلاّ في الجزء النّهاري من الأرض. 
يكون الكسوف كلّياً إذا حجب القمر قرص الشّمس تماماً عن الرّؤية في تلك الأماكن من الأرض التي تقع في منطقة الظّل التّام للقمر. ويكون الكسوف جزئيّا، إذا حجب القمر جزء فقط من قرص الشّمس في تلك الأماكن من الأرض الواقعة في منطقة شبه الظّل. يصاحب الكسوف الكلي دوما كسوفا جزئيا، سواء قبل الكسوف الكلّي وبعده أو في أماكن أخرى من الأرض؛ ثمّة كسوف ثالث يحدث عندما يكون القمر في أبعد نقطة عن الأرض في مداره. 
ومن الحسابات السّابقة فإنّ القطر الظّاهري للقمر يكون أصغر من القطر الظّاهري للشّمس، فإذا تزامن هذا مع حدوث كسوف كلّي، فإنّ قرص القمر لا يغطّي قرص الشّمس بالكامل، وينتج كسوف حلقي. وتظهر الشّمس حلقة مضيئة يتوسّطها قرص القمر المعتّم. 
أمّا الخسوف القمري، فله نفس التّفسير مع عكس وضع القمر والأرض، أي أنّ الخسوف القمري يحدث عندما تكون الأرض بين الشّمس والقمر، أي عندما يكون القمر بدرا، فيسقط ظلّ الأرض على القمر، وهنا من الممكن أن يغطّي ظلّ الأرض القمر بالكامل؛ يبدأ الخسوف شبه الظّلي عند دخول القمر منطقة شبه الظّل للأرض، وهذا لا يمكن ملاحظته بسهولة من النّاحية الرّصديّة لأنّ إعتام قرص القمر يكون خفيفاً. ثمّ يدخل القمر جزئيّاً منطقة الظّل التّام للأرض فيكون الخسوف جزئيّا، حيث يحدث إعتام تدريجي لقرص القمر. وأخيراً، يبدأ الخسوف الكلّي عند دخول القمر بالكامل في منطقة الظلّ التّام. ويلاحظ أن قرص القمر في هذه الحالة لا يختفي تماماً بل يصبح أكثر اعتاماً مع لون يميل إلى الحمرة. وهذا اللّون ينتج عن الأطوال الموجيّة الحمراء لضوء الشّمس التي تتشتّت عبر الغلاف الجوّي الأرضي وتسقط على سطح القمر. وعند انتهاء الخسوف الكلّي، تحدث العمليّة العكسيّة للمراحل السّابقة، وليس بالضّرورة أن يكون الخسوف شبه ظليّ ثمّ جزئيّا ثمّ كليّا في كلّ مرّة، بل من الممكن أن يكون شبه ظليّ ثمّ جزئيّا فقط ولا يكون كلّيا. 
ولأنّ مستوي مدار القمر يميل على مستوي مدار الأرض بنحو 5 درجات، فإنّ الخسوف والكسوف لا يحدثان إلاّ بنحو 5 مرّات في العام وليس شهريّا. ثمّة ملاحظة أخرى أنّ الكسوف الكلّي أو الحلقي لا يستمرّ سوى دقائق معدودات وربّما أحيانا ثوان معدودات، بينما الكسوف (الخسوف) الجزئي يستمر لساعات أحيانا.
خرائط الكسوف
يولد القمر مخروطًا من الظّل في اتجاه يحدّد بواسطة الشّمس، وما نحتاجه بعد ذلك هو معرفة كيفيّة تقاطع سطح الأرض مع مخروط الظّل، اقترح «فريدريك بيسل» F. Bessel  في عام 1824 وبمعاونة «ويليام تشاوفينيه» W. Chauvene ا(2)، نموذجا رياضيّا للمسألة العكسيّة وهو استخدام مخروط الظلّ لتحديد نظام الإحداثيّات لتحديد مواقع الشّمس والقمر، وعلى الرّغم من أنّ حافّة الكسوف الكلّي تتحرّك بسرعة 1613كم في السّاعة على سطح الأرض، إلاّ أنّهما افترضا أنّ جميع المراقبين على مستوى سطح البحر، وأنّ القمر هو جسم كرويٌّ أملس متناسقٌ تماماً حول مركز كتلته، هذا النموذج الرّياضي يصف ببساطة حركة ظلال القمر المسقطة على المستوي الأساسي «Fundamental plane» وهو في حالة الأرض مستوي الاستواء الأرضي، وهو مستوي عمودي على محور دوران الأرض حول نفسها. وبعيدا عن التّعقيدات الرّياضيّة (حيث يوجد مئات الصّفحات من المعادلات الرّياضيّة)، إحتاج «بيسل» إلى معرفة ثمانية من المتغيّرات الرّئيسيّة (وكلّها يعتمد في تغيره على الزّمن) لإتمام حساباته وهي:
-1  إحداثيّات مركز منطقة الظّل في المستوي الأساسي،  
-2 نصف قطر كلّ من منطقة الظّل وشبه الظّل في المستوي الأساسي ،
-3 الزّاويتان اللّتان يصنعها كلّ من مخروط  الظّل ومخروط شبه الظّل مع المستوي الأساسي،
-4 زاوية ارتفاع وزاوية السّاعة للنّقطة التي يتقاطع فيها محور الظّل مع كرة القبّة السّماوية منسوبة إلى المستوي الأساسي. 
وبرغم أنّ هذه الحسابات تعدّ المرجع الأساسي في حسابات الكسوف، إلاّ أنّها لا تأخذ بعين الاعتبار الارتفاعات المختلفة الموجودة على سطح الأرض والفوهات البركانيّة غير المستوية على سطح القمر. ومن أجل الحصول على خرائط أكثر دقّة، تمّ إدخال تحسينات على نموذج «بيسل» من خلال جداول الارتفاعات والتّخطيط البياني لأطراف سطح القمر من تحليل الصّور التي تلتقط للقمر سواء من التليسكوبات أو من  مستكشف القمر المداري التابع لناسا LRO .
الهوامش
 [1] البيانات العددية في هذا المقال مأخوذة من وكالة الفضاء الأمريكية «NASA» وهي متاحة على الرابط:
https://nssdc.gsfc.nasa.gov/planetary/factsheet/ 
[2]  F. W. Bessel, Astronomische Untersuchungen II, Königsberg 1842 (online).