همسة

بقلم
عبد الحق التويول
لماذا العجم أكثر إبداعا من العرب في العلوم ؟
 عقد ابن خلدون رحمه اللّه فصلا في مقدّمته (الفصل 43) في كون حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم قائلا: «من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملّة الإسلاميّة أكثرهم العجم (وليس من العرب حملة علم) لا في العلوم الشّرعيّة، ولا في العلوم النّقلية إلّا في القليل النّادر»، وقد أرجع ذلك للأسباب التّالية : 
* أنّ الملّة من أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السّذاجة والبداوة، وإنّما أحكام الشّريعة التي هي أوامر اللّه ونواهيه، كان الرّجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسّنة بما تلقّوه من صاحب الشّرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التّعليم والتآليف والتّدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصّحابة والتّابعين، وكانوا يسمّون المختصّين بحمل ذلك. ونقله القراء الذين يقرؤون الكتاب وليسوا أميين، لأن الأمية يومئذ صفة عامّة في الصّحابة بما كانوا عربا، فقيل لحملة القرآن يومئذ قرّاء، إشارة إلى هذا، فهم قرّاء لكتاب اللّه والسّنة المأثورة عن اللّه، لأنّهم لم يعرفوا الأحكام الشّرعيّة إلاّ منه ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح، قال ﷺ:«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب اللّه وسنتي»(1). فلمّا بعد النّقل من لدن دولة الرّشيد، فما بعد احتيج إلى وضع التّفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه، ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل النّاقلين للتّمييز بين الصّحيح من الأسانيد وما دونه، ثمّ كَثُر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسّنة وفسد مع ذلك اللّسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النّحوية ، وصارت العلوم الشّرعيّة كلّها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتّنظير والقياس، واحتيجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها : من معرفة قوانين العربيّة وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذبّ عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد، فصارت هذه العلوم كلّها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التّعليم، فاندرجت في جملة الصّنائع .
* لمّا كانت العلوم من جملة الصّنائع وكانت الصّنائع من منتحل الحضر، فقد كان العرب أبعد النّاس عنها، فصارت العلوم كلّها حضريّة وبعُد العرب عنها وعن سوقها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي، وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبّع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصّنائع والحرف، لأنّهم أقوم على ذلك للحضارة الرّاسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان صاحب صناعة النّحو سيبويه وابن فارس من بعده والزّجاج من بعدهما، وكلّهم عجم في أنسابهم، وإنّما ربّوا في اللّسان العربي فاكتسبوه بالمربّى ومخالطة العرب، وصيّروه قوانين وفنّا لمن بعدهم، وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام، أكثرهم عجم أو مستعجمون باللّغة والمربّى لاتساع الفنّ بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجما كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسّرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلاّ الأعاجم وظهر مصداق قوله ﷺ : «لو تعلّق العلم بأكناف السّماء لناله قوم من أهل فارس»(2) .
* أنّ العرب الذين أدركوا الحضارة، وسوقها، وخرجوا إليها عن البداوة، شغلتهم الرّئاسة في الدّولة العباسيّة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنّظر فيه، فهم أهل الدّولة وحاميتها وأولي سياستها، فضلا عمّا كان يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصّنائع، والرّؤساء أبدا يستنكفون عن الصّنائع والمهن وما يجرّ إليها، فكانوا يدفعون ذلك لمن يقوم به من العجم. 
خلاصة القول أنّ العجم إنّما أبدعوا في العلوم وحازوا قصب السّبق فيها نظرا للحاجة الدّينيّة التي دعتهم إليها من جهة، فبدون لغة وقوانينها وبدون فقه وأصول، أنّى لهم أن يفهموا الشّريعة الجديدة التي نقلت إليهم واختاروا اعتناق دينها، والقاعدة تقول:«الحاجة أم الاختراع». بخلاف العرب،فهم أهل اللّغة وأربابها، والشّريعة جاءت بلسانهم، فكانوا أفهم النّاس بخطاب الشّارع وأدراهم بأوامر اللّه ونواهيه، فلم يكن هناك داع  لهم لوضع قوانين اللّغة أو الفقه أو ما شابه من العلوم الموصلة إلى فهم الشّريعة. ثمّ  إنّ العجم إنّما تفوّقوا في العلوم لأنّهم دُفعوا إليها دفعا، باعتبارهم أهل الصّنائع والحرف، والعلم يومئذ حرفة وصنعة أكثر من يمتهنها العجم، بخلاف العرب الذين لم يكونوا أهل صناعة وإنّما أهل سياسة وحكم، والانشغال بالسّياسة حال بينهم وبين الانشغال بالعلم، هذا فضلا عن الأنفة التي كانت تميّز العرب، والتي كانت من أكبر العوائق التي حالت بينهم وبين التّعليم والتّعلّم .
وهذا الذي ينطبق على العلوم الشّرعيّة، ينطبق أيضا على العلوم العقلية التي اختصّ بها أيضا العجم وتركها العرب، لا لشيء إلاّ لكونها من الصّنائع والعرب يومئذ أبعد النّاس عن الصّنائع.
الهوامش
(1) أخرجه مالك بلاغاً في كتاب القدر 2/564 من حديث أنس، والحاكم 1/93 من حديث ابن عباس
(2) البخاري (4897)، ومسلم (6498) من حديث أبي هريرة. واللفظ: «لو كان الإيمان عند الثريا،
 لنالَهُ رجالٌ من هؤلاء». وانظر «مسند أحمد» (7950)
(3) ابن خلدون / المقدمة ص 593