أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
إضاءة على الرّياضيات الحيويّة ورياضيّات الأوبئة - (2/2)
 نموذج SIR
إنطلاقا من مقولة يوهان هويزنجا «لا يكون الإبداع إلاّ على حدود الثّقافات» أقول أيضا أنّه عند دمج التّخصّصات المختلفة مثل دخول الرّياضيّات في مجال علوم الحياة بعمق أكثر، تظهر حقّا موجات جديدة من الإبداع، واستكمالا لما بدأناه، فإنّ النّمذجة الرّياضيّة للظّواهر الحيويّة ليست ببساطة النّماذج المعروضة في المقال السّابق[1]، فمثلا كلّما زاد عدد المصابين قلّ عدد القابلين للعدوى. وفي البداية يكون عدد المصابين ضعيفا والقابلين للعدوى كُثر، فتكون سرعة انتشار المرض بطيئة ومع مرور الوقت يصبح حاصل ضربهما أكبر ما يمكن ومن ثمّ يصبح معدّل انتشار الوباء عال ثمّ يبدأ في الانحسار. وُضِعَ أولُ نموذج رياضي أساسي لدراسة الأوبئة سنة 1920 وهو مسمي          [2] ولا يزال الرّياضيّون حتّى يومنا هذا يستخدمونه لمعرفة سيناريوهات انتشار وباء ما بعد إضافة بعض التّعديلات المناسبة عليه. ولفهم النّموذج، فإنّ المجتمع يقسّم إلى ثلاث فئات: فئة سليمة مهدّدة بالتّعرّض للمرض susceptible ويرمز إليها بالرّمز(S)، وفئة مصابة infectious ويرمز إليها بالرمز(I)، وفئة تمّ علاجها بعد الإصابة بالمرض أو توفّيت إثر الإصابة به  Removed / Recovered ويرمز إليها بالرّمز R. يصف النّموذج كيف يمرّ فرد في المجتمع تحت الدّراسة من فئة إلى أخرى، حيث تشير النّقطة أعلى الرمز إلى أنّ التّغيّر يحسب بالنّسبة للزّمن (t). في المعادلة الأولى (تصف معدّل تغيّر أعداد المعرضين للإصابة). حيث (N) عدد أفراد المجتمع، و(d) معدل الوفيات، و(g) مقلوب فترة الإصابة (وهي الفترة التي يأخذها المريض حتّى يتعافي) والتي كلّما كانت قصيرة كلّما كان عدد المتعافين أكبر والعكس بالعكس، أي كلّما زادت فترة الإصابة للفرد الواحد طبعا كلّما كان عدد المتعافين أقل، في حالة كوفيد 19 يكون 
وأخيرا يمثل β مقلوب معامل التباعد الاجتماعي (معامل التفاعل أو التلاصق أو الاختلاط الاجتماعي)، والذي كلّما كان صغيرا قلّ عدد المصابين وقلّلنا من عدد المعرّضين للإصابة، ولأهميّة هذا العامل سنفرد له فقرة في المقال. 
أيّ حدّ تكون إشارته موجبة في أيّ معادلة فهو يشير إلى تزايد المعدل، والعكس بالعكس، فالحدود السّالبة تؤشّر على انخفاض المعدّل. فمثلا الحدّ الأول في المعادلة الأولى يعبّر عن أنّ المجتمع بكامله معرّض للإصابة، لكنّ الحدّ الثّاني ينبؤنا عن أنّه إذا زدنا من التّباعد الاجتماعي بين الفئتين(S) و(I) فإنّه من الممكن أن نقلّل معدّل الإصابة، والحدّ الثّالث أيضا يقلّل معدّل الإصابة بإخراج من توفّوا من المعرّضين للإصابة. نستطيع فهم النّموذج بكامله في هذا الإطار. في المعادلة الثّانية (المعادلة الرّئيسية في النّموذج) والمعبرة عن معدّل الإصابات، يمثّل حدّها الأول عدد المصابين وهو ناتج عن اختلاط الفئة (S) بالفئة (I) وهي تشترط وجود عدد غير صفري من (I) حتّى ينتشر المرض حتى ولو كان واحدا فقط، ويخصم من ذلك عدد الذين تعافوا من الإصابة أو توفّوا بها. 
في المعادلة الثّالثة، يمثّل الحدّ الأول عدد الذين تعافوا ممّن أصيبوا بينما يمثّل الحدّ الثّاني عدد من أخرجوا بالوفاة ممّن تعافوا. في الواقع ليس هناك حلّ تامّ لهذا النّموذج، وغاية ما نستطيع أن نطمح إليه هو الحصول على بعض الحلول التّقريبيّة. لمعرفة سلوك هذه الدّوال لوباء تحت السّيطرة أنظر الشكل 1.
معامل التفاعل أو التلاصق الاجتماعي
قبل الخوض في معرفة ماهية معامل التّلاصق الاجتماعي، فإنّنا نبدأ بتبسيط المعادلة الثّانية كالتّالي: 
من الممكن أن نفترض أنّه في البداية يكون عدد المتعافين صفرا ويكون عدد المصابين ضعيفا وتكون غالبية أفراد المجتمع منتمية الى شريحة القابلين للعدوي، وعليه فإنّ المعادلة الثّانية تصبح  i=βSI ، وإذا افترضنا أنّ عدد سكّان المجتمع (N) فإنّهم سيكونون موزّعين على شريحتي المصابين (I) والقابلين للعدوي S=N-I فقط، وبذلك تأخذ المعادلة الشّكل التّالي  i=β(N-I)I وهي معادلة النّموذج اللّوجستي. 
وإذا أمعنّا في التّبسيط وافترضنا أنّ عدد المصابين فى البداية يكون ضعيفا جـدّا بحيث يكـون  N-I≈N  فإنّ  i=βNI وبما أنّ β,N  ثابتان، فإنّ معدّل تغيّر عدد المصابين يتناسب طردّيا مع عدد المصابين، وهذا هو النّموذج الأسي. ويعطي نفس حلّ النّموذج الأسي I(t)=I0 eβNt  وبما أنّ المقدار βNt≥0  فإنّ الدّالة الأسيّة تكون سريعة جدّا في الذّهاب إلى اللاّنهاية مع بمرور الزّمن، وخصوصا إذا كان المقدار βN كبيرا جدّا. وإذا كنّا لا نتحكّم في عدد أفراد المجتمع، فإنّنا نستطيع أن نتحكّم في تلاصق أو تفاعل أفراده مع بعضهم البعض، وبالتّالي لتبطئ الدّالة الأسيّة، ينبغي أن يكون المعامل β صغيرا جدّا، أي أنّ التّلاصق الاجتماعي ينبغي أن يؤول إلى الصّفر، أي يعدم تقريبا، أو بمعني آخر ينبغي أن نزيد من التّباعد الاجتماعي، والذي من الممكن حسابه لكلّ وباء. أيضا من الممكن حسابه من الشّروط الابتدائيّة للمشكلة، مثل معرفة عدد المصابين عند لحظة زمنيّة معينة. لكن ما نودّ التّأكيد عليه أنّ الرّياضيات تستطيع أن تتدخّل هنا لتقول أنّه من الممكن أن نسيطر على الوباء من خلال عدّة عوامل منها زيادة التّباعد الاجتماعي وتعيّن له قيمة محدّدة.
معلومات إضافية من النموذج
بالرغم من عدم قدرتنا على إيجاد حلّ تامّ لمعادلات نموذج SIR إلاّ أنّنا نستطيع أن نستخلص بعض المعلومات الهامّة جدّا منه. فمثلا متى نحكم بوجود وباء؟ بالنّظر مرّة أخرى إلى المعادلة الثّانية، عندما يكون معدّل التّغير في عدد المصابين أكبر من الصّفر فإنّ i>0 وبالتّالي βSI-gI-dI>0  أي أنّ  βS>g+d،ومنها نستطيع تعريف المعامل جديد نسمّيه R0 ويطلق عليه نسبة إعادة الإنتاج الأساسيّة، وقيمته هي (R0=βS/(g+d. ولفهم هذا المعامل الجديد، نمعن زيادة في التّبسيط ولنفترض أنّنا لدينا مصابا واحدا فقط ولم يكن هناك أحد تعافي أو توفّي بعد، وبالتّالي فإنّ القيمة المطلقة المعادلة الأولى تأخذ الصّورة Ṡ=βS  ومنها نحصل على Ṡ/S=β وهو يمثّل متوسّط عدد الأشخاص الذين يُصابون فى يوم واحد من قبل شخص واحد بالنّسبة للمجتمع. وإذا افترضنا أنّ عدد المتوفّين قليل مقارنة بعدد المتعافين، فإنّ R0=βS/g،وبالتّالي يكون البسط معبّرا عن عدد الأفراد الذين تتمّ إصابتهم من قبل مريض واحد، بينما المقام يمثّل مقلوب فترة الإصابة، وبالتّالي تمثّل عمليّة القسمة على المقلوب عمليّة ضرب في زمن الإصابة (14 يوم في حالة كوفيد 19 تقربيا) ومن هنا نصل لمعنى معقول للمعامل R0 في كونه عدد الأشخاص الذين تتم إصابتهم من قبل مريض واحد طوال فترة إصابته فى المتوسط. وقد استخدم الصّينيون والألمان هذا الثّابت فحدّدوا متوسّط عدد الأشخاص الذين سوف يصيبهم أوّل مريض في بداية معرفة الأطباء بالفيروس وقدّروه في قرابة 3 أفراد وحدّده الأمريكان في حدود 5 أفراد وهو يمثّل أساس المتتالية التي سينتشر بها الوباء، ويبدو أنّ ذلك خطير جدّا، إذ أنّ الوباء يبدأ في الانتشار عند R0>1 أي 2  فأكثر، لكن ينبغي أن نعلم أنه في حالة الملاريا كان  R0>100 . ولإلقاء الضّوء أكثر نقول: إنّ متتالية الإصابة لدى الصّينيين والألمان سوف تكون كالتّالي 1، 3، 9، 27، 81، 243، ... متتالية هندسيّة أساسها 3. ولدى الأمريكان سيكون 1، 5، 25، 125، 625، 3125، ... متتالية هندسيّة أساسها 5، ولكونها متتالية هندسيّة يكون الانتشار أسيّا. أمّا إذا كانت R0<1 مثلا لنقل أنّها نصف، فكلّ أربعة مصابين سوف ينقلون العدوى الى شخصين فى المتوسط، ثمّ يشفى هؤلاء الأربعة ويتبقّى الإثنان الجدد فقط. والذين بدورهما يقومان بنقل العدوى الى شخص جديد واحد فقط قبل أن يتعافا. وبذلك يبقى لدينا مريض واحد فقط. وبهذا نرى أنّ المرض يكون فى انحسار سريع. وعند R0=1  فإنّ المصاب الواحد سوف ينقل المرض لسليم واحد خلال فترة مرضه وهي حالة ليست وبائيّة بل يستطيع الأطباء السّيطرة عليها، وأحيانا يحبّذونها لتساعدهم في تفعيل مناعة القطيع، حبّذا إذا تمّ عزل كبار السّن والأطفال وقليلي المناعة من الاختلاط بالمرضى، يؤدّي ذلك الإجراء إكساب الأصحاء الذين يمرضون، أجساما مضادّة للمرض تدوم معهم فترة ما تساعدهم في صدّ عدوان الفيروس عند تعرّضهم للإصابة به مرّة أخرى
الوقاية خير من العلاج
لتسطيح منحني الدّالة الأسيّة ومنعه من الوصول إلى اللاّنهاية، ينبغي علينا أن نخفض من قيمة المعاملβ قدر الإمكان. فإذا تمّ خفض قيمته إلى ثلثي قيمته مثلا، وقيمته تحدّد تجريبيّا في الغالب في بداية الوباء. وتخفض قيمته مثلا بجعل التّباعد الاجتماعي كبيرا وذلك بهدف تقليل الاحتكاك بين الفئتينSو I ويضاف إلى ذلك أيضا المحافظة على عمليّات التعقيم والنّظافة بشكل مستمرّ لقتل أيّ فيروس انتقل لإنسان صحيح ولو بطريق غير مباشر، ومن ثمّ إعادة حلّ المعادلات تحت شروط التّبسيط، وسوف ينبؤنا الحلّ أنّ الوباء سيتوقّف بعد أن يصاب به 80 %  من أفراد المجتمع وبعد زمن قدره 253 يوما. وسوف تكون ذروة الإصابات في حدود  16.5 %  فقط بعد مرور 60 يوما. 
تطوير لقاحات بالرياضيات
منذ أن أعلن «واتسون وكريك» عن اكتشافهما للحمض النّووي، أدرك علماء الأحياء أنّ بروتينات الفيروسات لديها القدرة على إعادة التشكّل. ومن ثمّ طوّر علماء الرّياضيّات نماذج ديناميكيّة لدراسة إعادة تشكّل بروتينات الفيروسات بل ولدراسة كيفيّة مهاجمتها للخلايا. وبعد تطبيق عدّة نماذج رياضيّة، اتضح أنّ الحمض النّووي الرّيبوزي RNA يستمرّ في اتصاله بالبروتينات كي يساعدها على تشكيل الفيروسات الجديدة. وبناء على النّماذج الرّياضيّة لريدن تواروك Reidun Twarock اقترح بيتر ستوكلي Peter Stockley أستاذ الكيمياء الحيويّة في جامعة ليدز في إنجلترا تصنيع اللّقاحات من جسيمات شبيهة بالفيروسات، حيث سيبلغ الشّبه قدرًا كافيًا يتيح له تفعيل الاستجابة المناعيّة ذاتها التي تحدث عند الإصابة بالفيروس وربّما بمجموعة واسعة من الفيروسات دون خطر التعرّض للإصابة فعليًّا، إذ أنّ هذه الجسميّات لن تملك القدرة على إصابة الخلايا[3].
الهوامش
[1] فوزي أحمد عبد السلام،  إضاءة على الرّياضيات الحيويّة ورياضيّات الأوبئة  -  (الجزء الأول)، العدد 156، يولية 2020 / ذو القعدة – ذو الحجة، مجلة الإصلاح، تونس، (2020).
[2] Matthew Keeling, The mathematics of diseases, 2001.
https://webpages.ciencias.ulisboa.pt/~mcgomes/aulas/ddi/Mod11/Keeling%202001%20R_0.pdf
 [3] Peter, G. Stockley and Reidun Twarock, «Emerging Topics in Physical Virology», Imperial College Press, 2010.