وجهة نظر

بقلم
محمد علواش
القيم وسؤال المرجعيات، قراءة نقدية(2/3)
 هل نعيش أزمة قيم فعلا ؟؟.  
إذا كان موضوع القيم من الموضوعات التي تتضمّن إشكاليّات كبرى، ويمكن طرحها على المستوى الفلسفي والدّيني والمجتمعي عموما، وخاصّة تلك الفكرة المتعلّقة بتضارب القيم في ظلّ اختلاف الأطر المعرفيّة المؤطّرة لها، فإنّي أساهم بحديث في تسليط المزيد من الأضواء عليها؛ لأنّ موضوع القيم ذو أهمّية بالغة في واقعنا، ومجتمعنا، وعلى مستوى سلوكاتنا اليوميّة. وفي هذا الصّدد، نشير إلى كلمة أحد الكتّاب الغربيّين: « حينما تقرأ كتابات الذين يتحدّثون عن أزمة القيم، نجد أنّ أمثلتهم تتحدّث عن قيم الوسائل، إنّهم يتحدّثون عن الوسائل لا الغايات، وهم صادقون فيما يقولون»(1) .
 في ضوء هذه الكلمة، نستنتج فعلا أنّ الغرب يعيش أزمة قيم على المستوى النّظري والتّطبيقي؛ فأمّا على المستوى النّظري، فالافتقار واضح من خلال المرجعيّة النّاظمة لتفعيل القيم، وأنّها صادرة من فلسفة قاصرة في مصادرها ومرجعيّاتها. وهذا ما يشهد به كبار عقلاء الغرب في مباحثهم حول موضوع القيم، وأمّا على مستوى التّفعيل، فالواقع يشهد بذلك؛ حيث إنّ المتتبّع لا يحتاج إلى مزيد بيان من الأدلّة على هذا الانحدار في القيم، والانهيار في الالتزام بها، وتغير النّظرة تجاه من يحمل هذه القيم ويدعو إليها، وهنا تكمن خطورة الموضوع، إذ أصبح المجتمع المعاصر يعيش تغيّرا جذريّا في التّعامل مع هذه المسألة، ولذلك يتحدّث المفكر الغربي عن الأزمة التي لحقت قيم الوسائل لا قيم الغايات، بمعنى أنّ الإشكال يتضمّن أوّلا تمييزا بينهما، على اعتبار أنّ هذه القيم ليس لها من حدود تحكمها، ولا سياج يضبطها؛ فكلّ ما يخدم قيم الغايات فمرحبا به. وهذه الدّلالة هي التي تفسّر – بحسب رأيي- التزام عموم الغربيّين للقيم ذات الصّبغة المادّية التي تخدم الإيديولوجيّا الرّأسماليّة، والنّظام المعرفي الغربي الذي تصدر عنها، وممّا يؤكّد ذلك الاهتمام الواسع بـ«القيم المادّية» كاحترام الوقت، وتقديس العمل، والانضباط، وغير ذلك من القيم التي تدور في فلك هذا المعنى، وتقديسها مقابل عدم الاهتمام بالقيم الأخرى المرتبطة بالإيمان بالغيب، والسّتر والحياء وغيرها من القيم التي قد تبدو معارضة لما سبق ذكره، بل ربّما نجد دعوة إلى تشويهها والقدح في صلاحيتها، والعمل بنقيضها؛ بما أنّها تصدر عن مرجعيّة مخالفة للإيديولوجيّة الغربيّة. وانطلاقا من هذه الدّلالات والمعاني التي أشرت إليها فإنّ الكتاب الغربيّين صادقون فيما يقولون.
الخلفيّات الفكريّة لتعدديّة القيم
  يقول المسيري: «من الأمور المألوفة في الوقت الحاضر أن نتلقّى معظم ، إن لم يكن كلّ ما يأتينا من أهل الغرب بكفاءة منقطعة النّظير، دون أن نحاول أن نحلّله أو نفسّره، ودون أن ندرك أنّ ما يأتينا منهم يعكس منظورهم وتحيّزاتهم؛ ولذا، ثمّة غياب ملحوظ للبعد النّقدي في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة للمفاهيم والمصطلحات الغربيّة، إذ إنّنا نكتفي دائما بنقل أفكارهم من وجهة نظرهم، دون أن نطرح أيّة أسئلة تنبع من رؤيتنا وتجربتنا التّاريخيّة والإنسانيّة، ودون أن نتوجّه إلى القضايا الكلّيّة والنّهائيّة الكامنة في النّصوص»(2).
تُعرف الخلفيّات الفكريّة بكونها المبادئ الكبرى أو المفاهيم الثّاوية وراء كلّ اعتقاد أو تصرّف يقوم به الإنسان -فردا أو مجتمعا-، فهي تشكّل الايدولوجيا التي هي «ذلك النّسق الكلّي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامّة، والتي تفرز أنماطا معيّنة للسّلوك الإنساني، والتي تفسّر الأسس الأخلاقيّة للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه؛ أو أنّها النّسق الفكري الذي يبرّر السّلوك الشّخصي ويضفي المشروعيّة على نظام قائم، أو العمل على قيامه مع الدّفاع عنه».
نؤكد ابتداءً على أهمّية السّياق الحضاري الذي مهّد الطّريق لظهور مثل هذه الحركات التّحرريّة، الذي يتجلّى في دخول تحوّلات جذريّة على المجتمع الغربي غيّرت من توجّهه وبنيته؛ إذ تصاعدت معدّلات التّرشيد المادّي للمجتمع، أي: إعادة صياغته، وصياغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادّية والجدوى الاقتصاديّة (وهو عنصر أساسي في منظومة الحداثة الغربيّة)، وزاد معه تسلّع الإنسان وتشيؤه ( بمعنى إزاحته عن المركز على أن تحلّ السّلع محلّه)، وزادت نتيجة لذلك هيمنة النّماذج الكمّية والتّكنوقراطيّة، وتصاعدت عمليّات التّنميط، وتغلغلت العلاقات البورجوازيّة التّعاقديّة؛ الأمر الذي أدّى إلى تزايد هيمنة القيم البرّانية، مثل الكفاءة في العمل في الحياة العامّة مع إهمال الحياة الخاصّة، الاهتمام بدور المرأة العاملة(البرّانيّة) مع إهمال دور المرأة الأم( الجوّانيّة)،الاهتمام بالانتاجيّة على حساب القيم (الأخلاقيّة والاجتماعيّة الأساسيّة مثل تماسك الأسرة وضرورة توفير الطّمأنينة للأطفال)..وهكذا، تغلغلت المرجعيّة المادّية بتركيزها على الكمّي والبرّاني، وتراجعت المرجعيّة الإنسانيّة الهيومانيّة بتركيزها على الكيفي والجوّاني، وتراجع البعد الإنساني الاجتماعي الذي يفترض مركزيّة إنسانيّة وطبيعة إنسانيّة متفرّدة تتمتّع بقدر عال من الثّبات يميّزها عن قوانين الطّبيعة المادّية المتغيّرة، وتمّ إدراك الإنسان خارج أيّ سياق اجتماعي إنساني، بحيث أصبح كائنا طبيعيّا مادّيّا كمّيا، لا يشغل أيّة مركزيّة في الكون، وليس له مكانة خاصّة فيه، أي أنّه تمّ تفكيك الإنسان تماما، وتحويله من الإنسان المنفصل عن الطّبيعة إلى الإنسان المادّي الطّبيعي الذي يتّحد بها ويذوب فيها ويستمدّ معياريته منها (3) .  
في ضوء هذا التّوصيف الذي ذكره المسيري نستخلص ركائز الخطاب الحداثوي الذي ما فتئ يثير مجموعة من القضايا في وسط السّاحة الثّقافية والمجتمعيّة العربيّة نعرضها باختصار:
- الحديث عن مظلوميّة المرأة، والهيمنة الأبويّة الذّكوريّة، والتّمكين الاقتصادي للمرأة، والعنف ضدّ النّساء.
-احتقار الآخر المخالف في التّصوّر والمنهج. وهذا من سمات الطّرح الحداثي ومن آثار الوجوديّة، يقول سارتر: «فكلّ ما في هذا الوجود وجوده تافه إلاّ بقدر ما يسعى إلى تحقيق وجود هذا الإنسان»، وهذا نتيجة إرث أنطولوجي وفلسفي استورده حداثيّو العرب، حيث ينظرون إلى الذّات والآخر بمعياري الهيمنة والاستيلاب، فالآخر ليس إلاّ منغصا إذا لم يخنع للهيمنة ويستسلم للذوبان، وقد لخّص ذلك الوجودي سارتر بقوله: «الجحيم هو الآخرون».
-ازدراء كلّ ما هو ثابت ومتّفق عليه من أمور الشّريعة، يقول أدونيس:«ما نطمح إليه، ونعمل له كثوريّين عرب، هو تأسيس عصر عربي جديد. نعرف أنّ تأسيس عصر جديد يفترض -بادئ ذي بدء- الانفصال كلّيا عن الماضي، نعرف كذلك أنّ نقطة البداية في هذا الانفصال، التّأسيس هي النّقد: نقد الموروث ونقد ما هو سائد شائع (…) إنّ ماضينا عالم من الضّياع في مختلف الأشكال الدّينيّة والسّياسيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة، إنّه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، وهي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنّما تمنعه كذلك من أن يصنعها»(4)، وهذا الكلام يجسّد بشكل صريح معارضة كلّ ما يقترب من حقل الهويّة ويشكّل كينونة الذّات، فالجهل بمفاهيم التّصور الإسلامي عموما تجعلهم ينطلقون من العداوة لكلّ ما له علاقة بمنظومة الإسلام  أوّل معالم الإديولوجيّا الحداثيّة والذي ظهرت آثارها المدمّرة على المجتمعات الإسلاميّة اليوم، بل إنّهم يعتقدون أنّ التّشبّث بها هو سبب الهزائم المتكرّرة التي توالت على المجتمع العربي منذ مرحلة النّكبة على الأقل إلى يوم النّاس هذا، والحلّ في نظر هؤلاء هو محاولة الالتحاق بالآخر بأيّ ثمن، فإذا كان ماركس يقول: «نقد الدّين شرط لكلّ نقد»، نجد أدونيس يقول: «النّقد الثّوري للموروثات العربيّة شرط لكلّ عمل ثوري عربي»(4)، علما بأنّ سياق كلامه يوحي بأنّ الموروثات العربيّة إنّما المقصود به ما يرمز لتراث الأمّة ومكتسباتها وما يدلّ على هويّتها وخصائصها.
- الترويج لأطروحات المنظّمات الغربيّة: وأهمّ أطروحة، وأشهرها، وأكثرها تداولا في السّاحة الحداثيّة: مفهوم الحرّية. وهي تعني كسر الحدود، وتجاوز كلّ الأعراف والأخلاق والدّين، ورفض كلّ تقييد لشهوات الإنسان وإرادته، وكذلك رفض كلّ المعايير النّاتجة عنها والتي تميّز بين الصّحيح والخطأ. 
وهذا التّعريف من مفاهيم الوجوديّة التي تجعل الإنسان يفسر كلّ شيء كما يشاء، (على حسب تعبير رمز  الوجودية سارتر). ومن هذا المنطلق يعطي الحداثيّون مفهوما للحرّية يخدم جانبهم الشّهواني، بل ويفسّرون على ضوئه الوجود الإنساني فيجعلونه وجودا ذاتيّا لا يقبل التّحكّم والتّقييد من خالق أو مخلوق، فالإنسان عندهم هو مركز الكون، وتحليلاته وتفسيراته قطعيّه؛ لذلك فهم ينظرون إلى الدّين على أنّه شيء معرقل للحياة، ويجعلون هذه القيود الأخلاقيّة والقيميّة تناقض الحرّية الإنسانيّة، ويزعمون أنّ كسرها يحلّ مشاكل العالم، والأخلاق يعطونها تفسيرا بنوه على مفهوم الحرّية عندهم، يقول سارتر: «يجب أن نجعل الاختيار للأخلاق مثل صياغة تحفة فنية».
وجدير بنا أن نؤكّد على أنّ الحرّية في الإسلام هي الفعل الإرادي المطابق للفطرة التي خلق اللّه النّاس عليها، والغاية التي من أجلها أوجد اللّه الإنسان؛ فكلّ ما دلّ خلقَ اللّه على القصد إلى ضده فهو ممنوع، ولا حرّية للإنسان في مقارفته ولو كانت فيه شهوته ورغبته، وتكوين الإنسان وخلقته تدلّ على أنّ له غاية من هذا الوجود، وقد بيّنها اللّه عزّ وجلّ عن طريق إرسال رسله وإنزال كتبه، كما أنّ العقل دلّ عليها وهذا كلّه لا تبث إليه الإديولوجيا الحداثيّة بصلة، والشّريعة جاءت بقانون أخلاقي جعلته حاكما على القانون الطّبيعي بخلاف الإديولوجيا الحداثيّة الأنسيّة، فلا تعترف الاّ بالقانون الطّبيعي، وما خالفه تجعله لاغيا ومرفوضا. 
من الممكن في هذا المحور، أن نسائل عددا من الخلفيّات الفكريّة التي ساهمت في تأطير الجانب الثّقافي لكلّ مجتمع، ونقف عند الدّواعي التي جعلت مفردة (تعدّدية القيم) حاصلة في ظلّ المجتمع الذي نحيى فيه. ولا شكّ أنّ المنهج (البراكماتي) النّفعي في النّظر إلى القيم والحكم عليها قد يبدو واضحا للوهلة لأولى؛ خاصّة أنّ ضعف مكوّنات المجتمع في التّشبث بها، وابتعاده عن الالتزام بها كمبادئ وأحكام شرعيّة، يصدق هذه النّظرة. 
وهذا المؤشّر سيفتح لنا الباب لتسويغ التّعامل النّفعي مع القيم الدّينية عموما، وهو الذي ستترتب عنه إشكاليّة أخرى متعلّقة بانفتاح القيم على دلالات ومعاني قد لا تحتملها بعض القيم التي جعلت لها أصلا.؟؟ 
إنّ المقصود بالتّوجه النّفعي في نظرته للقيم، هو منظور لا يعير اهتماما لخاصّية المعياريّة أو خاصّية الإطلاقيّة، أو غيرها من الخصائص التي تؤطّر حقل القيم كما في التّصوّر الإسلامي، وإنّما على عكس ذلك تنطلق من وجهة نظر مخالفة تحتاج إلى نوع من النّظر والمناقشة، فالمذهب النّفعي يُعرف بطرق مختلفة، فقد وصفه جيرمي بنثام – مؤسّس هذا المذهب - بكونه خاصّية أيّ شيء نتجت عنه فائدة، أو ميزة، أو متعة، أو سعادة..أو تحول دون وقوع أذى، أو شرّ، أو تعاسة على مصلحة طرف معين، وقد يكون هذا الطّرف مجتمعا، فيكون الحديث حينها عن سعادة المجتمع، وإذا كان هذا الطرف فردا فسيكون المقصود إذن سعادة هذا الفرد فقط(5).
والذي يفهم من كلام هذا المؤسّس، هو التّركيز على النّتائج التي يؤول إليها الالتزام بالقيم في السّلوك الفردي أو الاجتماعي، بشرط تحقيق ما سمّاه دلالة السّعادة(6)، لكنّه لم يشر مطلقا إلى منطلقات هذه القيم ودوائرها، وما تنتمي إليه من حقول دلاليّة؛ فالذي يهمّ هو تحقيق النّتيجة بغض النّظر عن طبيعة الوسائل، فالمنفعة تنصّ على أنّ عاقبة أو نتيجة أيّ تصرف هو المعيار الوحيد  لتحديد الصّواب والخطأ، وهذا المعنى الميكيافلي للمنفعة هو الذي سيتبلور لاحقا مع عصر النّهضة.
نظرة أخرى ونحن بصدد معالجة مسألة هذا التّعريف، يتجلى في هذه النّتائج التي أشار إليها مؤسّس المذهب، فهي نفسها تحمل من الدّلالات ما لا يحصى، فكلمة السّعادة أو الخير تختلف دلالاتها بين الأفراد في نظرتهم للشّيء الواحد، هل يحمل لصاحبه خيرا أو سعادة، كما إذا أردنا مثالا على ذلك بمفهوم العمل. ونفس الفكرة تتكرّر بل وتزداد تعقيدا بين مكوّنات المجتمع عموما إذا أردنا أن نحصر دلالة الخير أو السّعادة عند مجتمع معين مقارنة بمجتمع آخر؟ّ
ونضيف هنا من التّساؤلات التي تفرض نفسها في هذا السّياق ما إذا كان الإنسان خيرا جبل على الخير بفطرته، أم أنّه على عكس ذلك طبع على الشّر المحض؟ ورغم اختلاف الفلاسفة في الإجابة على هذا التّساؤل، وانتصار كلّ فريق لوجهة نظره؛ إلاّ أنّنا في الأمر نبحث عن مصداقيّة الفريقين، ومدى اقترابهما من الصّواب. وإلاّ ما مسوغ ظهور الشّرائع؟ وما الحكمة من إرسال الرّسل وإنزال الكتب؟، و«لمَ شرعت الشّرائع؟ ولمَ قرّرت الأحكام؟ ولمَ ورد التّكليف بالأعمال؟ ولمَ بين الحسن والقبح؟ ولمَ جاء التّرغيب والتّرهيب؟وحكمة اللّه أكبر من أن يخصِّص للجنّة قوما، وللنّار آخرين؛ ويربط استحقاق الجنّة بعمل واستيطان النّار بعمل، بدون أن يجعل في خلقه للإنسان الأهليّة لإحدى الجهتين».(7) وهنا تظهر حكمة اللّه وتصرّفه البعيد عن العبثية في تسيير شؤون الكون عموما، لأنّه الأعلم بصالح عباده مطلقا.
كما نستنتج أنّ هذه القضيّة تدعو إلى الوقوف مجدّدا عند طبيعة الكائن البشري، ومعرفة خصائصه التي تميّزه ككائن عن باقي المخلوقات، فوعينا بهذه الخصائص يجعل في مقدورنا امتلاك المفتاح الذي ندخل من خلاله إلى فهم شخصيّته، والتّعامل معها بموضوعيّة في التّحليل وبصيرة في التّفكير، كلّ ذلك من أجل الانخراط في حلّ مشاكلها وفك عقدها، «ومن ثمّ إطلاق طاقاتها لبناء صرح المجتمع القوي، وإنّنا بقدر ما نخطئ ذلك الطّريق إلى ذلك الفهم الموضوعي الشّامل، نقع في المزالق والمخاطر، فنعرض الإنسان –وبالنّتيجة المجتمع-  إلى الدّمار. والفهم الموضوعي الشّامل يعني بالأساس أخذ الإنسان في أبعاده المختلفة والمتكاملة –الرّوحيّة والمادّية- حتّى لا نقع عرضة لتشطير شخصيّة الإنسان وتمزيق أوصالها»(8).
ولتجنب الوقوع في هذه المعضلة؛ يحسن بنا أن نراعي أثناء التّحليل محاولة استيعاب شخصيّة الإنسان في مختلف جوانبه التي تميّزه في العمق جمعا بين رغباته وأمانيه، ولن يتحقّق هذا الطّموح إلاّ إذا قام المسؤولون بواجبهم في تمييز العناصر التي تتشابك وتتظافر لصنع الواقع الحالي، فلقد«طرأ علينا كثير من العوامل الجديدة في الأفكار والنّظم والميادين، وقد أدّى هذا إلى صراع كبير بين مقومات حياتنا المألوفة وبين العوامل الجديدة، ممّا أثار في النّفوس قلقا شديدا وزعزع أسس القيم والعقائد»(9)، ومن خلال عمليّة التّمييز أو عملية التّقويم بشكل كامل يستطيع القائمون على أمر التّربية أن يجسّدوا رؤية واضحة عند الشّروع في عمليّة إعادة البناء والإصلاح. لكنّ السّؤال الذي يفرض نفسه في هذا السّياق، هو: ما الأهداف التي ينبغي أن تتمحور حولها القيم التّربويّة؟ 
(الإجابة في العدد القادم)
الهوامش
(1)  Martin BLAIS L’anatomie d’une sodiete
(2) عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحير والتمركز حول الأنثى، سلسلة في التنوير الاسلامي، نهضة مصر ،ع38 ط2، 2010، ص3 
(3) عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحير والتمركز حول الأنثى، م. س،  ص 16-19 بتصرف
(4) مجلّة «مواقف» العدد 6 - صدرت في البداية مرّة كلّ شهرين (بشكل غير دوري) 
(5)
Bentham, Jeremy ;An Introduction to the 4 Principles of Morals and LegislationCh ,1,3rd paragraph.
(6) توما الإكويني، الخلاصة اللاهوتية، [ 1265-1274]، ترجمة خوري عوادة [1887]، المطبعة الأدبية، بيروت، ط1،[د. ت]، ص167- 249 
(7) ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، المقدمة
(8) عبد المجيد بن مسعود، مرجع سابق، ص47-48.
(9) نقلا عن مرجع سابق، ص48.