قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
في ذكرى الرئيس الشهيد
 حلّت منذ أيام الذّكرى الأولى لاستشهاد الرّئيس الدّكتور محمد مرسي طيب اللّه ثراه.
الرّئيس محمد مرسي أوّل رئيس مصري منتخب مباشرة من شعبه في انتخابات ديمقراطيّة بنسبة معقولة وباعتراف خصومه. لم يحكم مرسي إلاّ سنة واحدة تخلّلتها أحداث كثيرة ثمّ أسقط بانقلاب عسكري ليتحوّل بعده من القصر إلى السّجن ثمّ إلى الأحكام الجائرة والإهمال المتعمّد والقتل البطيء.
لا يهمّنا في هذا المقال أن يكون الرّئيس الشّهيد قد حكم فعلا أو لم يحكم ولا ما أصاب في سنة حكمه وما أخطأ، وإن أردنا الخوض في ما للرّئيس وما عليه فقد لا نملك المعطيات اللاّزمة لكي يكون ما نقوله منصفا وذا جدوي، ولكن ما يهمّنا هو التّأكيد على حقّ الرّئيس في الإنصاف باعتبار أنّ ما تعرّض له كان ظلما بيّنا لا ينكره إلاّ الجاحدون والظّالمون وعبيد الاستبداد.
مضى الرّئيس شهيدا باختياره وكان بامكانه أن يدخل البلاد في أتون حرب لا تبقي ولا تذر ولكنّه آثر التّضحية بحياته حفاظا على السّلم الأهلي وأملا منه في أن تتاح للشّعب المصري فرصة جديدة للتّغيير بأدوات سلميّة وعلى نحو أفضل، وسوف يضلّ الرّئيس الشّهيد أيقونة من أيقونات الدّهر يذكره التاريخ والنّاس بما يُذكر به العظماء والخالدون من البشر اللّذين استطاعوا أن يكونوا أكبر من زمنهم وأطول عمرا من جلاّديهم وحسبه ذلك.
لا يتوقّف التّاريخ بموت أشخاص مهما كان حجم هؤلاء الأشخاص ومهما كان حضّهم من النّبل والعطاء ومهما كان قربهم من النّاس ومقدار حبّهم لهم، ولاشكّ أنّ التّاريخ سينصف الشّهيد وأنّ ما بدأه سيكتمل على يد غيره وإن طال الزّمن، فتلك سنّة من سنن اللّه الذي جعل صولة الحقّ ماضية في خلقه إلى يوم القيامة. والتاريخ في ظاهره لا يزيد عن الاخبار وفي باطنه نظر وتحقيق كما قال العلّامة الشّهير «عبد الرحمان بن خلدون»، ومتى ما فرغ النّاس من المهاترات والأكاذيب ونظروا إلى حال البلد بعين المفكّر الصّادق سيبدأ كلّ ذي همّة في انصاف الرّجل حتّى يعود ملهما لأجيال وراء أجيال وحينها لن يكتفي النّاس بخبر عن ذكرى موته كما هو الحال الآن وإنّما يبدأ التّحقيق في ذلك الخبر ليعرف من لا يعرف حجم الكارثة التي حلّت على بلده بموته وحجم ما كان سيجري على يديه من خير.
ابتليت أمّتنا على الإستبداد كما تعوّدت على كلّ ما يصحبه من أمراض وآفات، فالسّلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وإذا نظرنا في التّاريخ نظرة المتفحّص سنرى بوضوح أنّ الحكم الفردي والتّسلط على النّاس بقوّة الحديد والنّار كان هو الغالب في كلّ العصور. ولا توجد في التّاريخ إلاّ بعض الاستثناءات التي منها عام الشّهيد في الحكم. ولا يتعلّق الأمر بالاستبداد فقط وإنّما يتعدّاه إلى خيانة الأوطان والعمالة وتبديد الثّروات والتّجهيل والتّفقير ورهن الثّروات وإتلافها وغير ذلك ممّا ابتليت به أوطاننا منذ عقود طويلة ثمّ لا تتوقّف المأساة عند هذا الحدّ بل  تتحوّل إلى تبديد للأوطان وخراب كامل نتيجة الاقتتال والنّزاع المسلّح والحروب بالوكالة ومشاريع لم تعد خافية لتقسيم الأوطان والعودة بها إلى مرحلة ما قبل الدّولة وربّما ما قبل الحضارة.
حين تسأل بعض النّخبة وهم كثر، لماذا تشمتون في الرّئيس محمد مرسي ولا تدينون ما حصل له؟ يقولون لك بأنّه رئيس إخواني كان يسعى لأخونة الدّولة. وحين تسألهم عن الدّيموقراطيّة وعن الصّندوق الذي جاء به و عن إرادة الشّعب لا تجد عندهم جوابا بل تنفيسا لأحقاد لا حدّ لها ولا يهمّ معها ضياع الأوطان برمّتها.  إنّنا إزاء مفارقات عجيبة، من يريد الدّيموقراطيّة لا يريد منها أن تأتي بخصومه ومن يريد حكما رشيدا لا يرى لهذا الحكم سبيلا إلاّ سبيله ، ومن يريد أن تكون للشّعب كلمته في الاختيار لا يقبل أن يختار الشّعب غيره وكأنّ الاستبداد الذي يدّعي الجميع مقاومته شيء غير هذا وكأنّنا لا نعتبر بتجربة غيرنا من شعوب الأرض وكيف أحسنت إدارة الاختلاف، فاستطاعت أن تبني أمجادا فى عقود قليلة رغم ما دفعته من قبل من ثمن باهض في الاقتتال والتّناحر.
ليست المشكلة في الإخوان المسلمين كفصيل سياسي أو ديني وليس الحلّ في استئصالهم والزّج بهم في السّجون و المنافي وتحويل البلد من الدّيموقراطيّة إلى الاستبداد المتخلّف سياسيّا واقتصاديّا ، ولندع جانبا كلّ ما يقوله خصومهم عنهم طالما أنّ تجربتهم في الحكم لم تكمل. لا شيء يبرّر تهديد حياة النّاس وأرزاقهم وعائلاتهم وكل المآسي التي تسبّب فيها الانقلاب العسكري في مصر للإخوان وغيرهم، ومن يرى في ذلك سبيلا لحماية الدّولة أو بعض مكتسباتها سيكتشف بعد حين أنّ من يدّعون حماية الدّولة والمكتسبات قد حوّلوا الشّعب كلّه إلى رهينة عند الدّولة وأن جميع المكتسبات قد ضاعت بضياع الحقوق جميعها، وكم يبدو الأمر محزنا ومقرفا في الآن نفسه حين نتذكّر حجم المظاهرات التي كانت تنطلق كلّ يوم من أمام مقرّ الرّئيس مرسي إلى حيث شاءت أو نتذكر مقدار ما كان يصدر عن الإعلاميين والسّياسيين من هجوم على الرّجل وتشويه فصيله ومنتسبيه، كلّ ذلك والرّجل صابر يتحمّل الأذى، ولا نرى من ذلك كلّه شيئا بعد الإطاحة به بل نرى قبضة حديديّة وبطشا شديدا يستكين له الجميع دون حول منهم ولا قوّة . 
اختزل النّظام الانقلابي أمر السّياسة والحكم في جملة واحدة «إمّا أن نحكمكم وإمّا أن نقتلكم» وبدأ حكمه بالقتل، بينما اختزل الرّئيس الشّهيد أمر النّاس في جملة واحدة «لا تقتلوا أسود بلادكم فتأكلكم كلابها» ومات أسدا من الأسود. ويكفيه فخر أنّه لم ينحن ولم يساوم ولم يبال بالموت وقد كان بامكانه أن يفرّ أو يشتري سلامته.
رحم اللّه الشّهيد محمد مرسي و العوض من اللّه في مصر التي تحوّلت إلى ما يشبه السّجن الكبير وغدًا قد تتحوّل إلى كومة من الخراب وقد عطش أهلها وذهب بقوتهم من ذهب.