وجهة نظر

بقلم
محمد علواش
القيم وسؤال المرجعيات، قراءة نقدية (1/2)
 عند النّظر في مكوّنات المجتمع المختلفـة، وما تصدر عنه من ثقافات متنوّعـة ومختلفة، نعلم أنّ هذه المكوّنات تنطلق من تصوّرات للقيم التي تؤمن بها. ومكوّنات المجتمع مختلفة طبعا ممّا يفسر اختلاف القيم عند كلّ اتجاه أو مكوّن، وإذا كانت هذه النّظرة بمثابة مسلّمة بديهيّة يعترف بها الجميع، فلماذا نلاحظ اختلافا في القيم إلى درجة التّضارب والتّناقض بينها؟ هل الخلل في القيم السّائـدة التي نعيش في ظلالها؟ أم إنّ الخلل يعـود إلى المنطلقـات والمرجعيّات المؤطّـرة لهذه القيـم والتي تفرز لنـا من حين لآخر قيمـا جديـدة تحت مسمّيـات ومفاهيـم برّاقـة بدعوى مواكبة العصر والانفتـاح على زمن العولمـة المعاصرة.
إنّ مناقشة هذه الفكرة وغيرها يستحقّ منّا أن نقف أوّلا عند إشكاليّة طرحها أحد المفكّرين المعاصرين- وهو من روّاد الثّقافة الفرنسيّة- والمتمثّلة في صعوبة الحسم في بيان القيم المهمّة التي يقبلها المجتمع، والقيم التي يرفضها، يقول: «يجب أن نعرف –بكلّ السّبل- ما الذي نريد أن نحافظ عليه، وهذا هو مشكل القيم التي تهمّنا. بالنّسبة لي أعتبر أنّ القيم لا يمكن أن تكون إلاّ مطلقة، لأنّها لو كانت نسبيّة لما كانت لها صبغة إجباريّة، يجب أن نكون متّفقين حول القيم التي يجب أن نحافظ عليها ، والتي يجب أن نبني على أساسها الإنسان ومجتمع الغد، حسب اعتقادنا»(1).
منذ أواخر القرن العشرين كانت قضيّة القيم مطروحة للنّقاش في الثّقافة الفرنسيّة ، بل وقبل ذلك بكثير، لأنّ إشكاليّة القيم هي قضيّة وجود الإنسان. ولقد ظلّت مرتبطة به منذ وجوده على هذه الأرض، وفتح المجال للنّقاش في الموضوع دليل على حركيّته الثّقافيّة ووعيه بخطورة الموضوع، بل إنّه يدلّ على أنّ مكوّنات المجتمع المتعدّدة دخلت في أزمة القيم أو بدأت تستشعر ذلك، وهذا ما جعل الكاتب الفرنسي يطرح الموضوع بهذه الطّريقة.
إنّنا نعيش بدورنا في المجتمع العربي مثل هذه الأزمة التي هزّت القيم من مكانتها الطّبيعيّة وساهمت في خلخلة موازينها خاصّة في زمن العولمة والانفتاح على الآخر وغياب الحدود والحواجز الثّقافية، ومن تجليات ذلك انحراف المجتمع عن وظائفه وملاحظة مظاهر تفكّك أواصره ممّا جعل التّفكير بشكل منهجي من الواجبات حتّى تتمّ إعادة النّظر في القيم التي يجب الاتفاق حولها وتمييزها من غيرها، وهذا لا يكون إلاّ في ظلّ توحيد الرّؤية التي تعالج موضوع القيم أو التّأكيد على النّظام المعرفي الذي يعتبر إطارا ومرجعا للإشكال الذي نعرضه اليوم.
وما دام مفهوم الإنسانيّة يجمعنا، وموضوع القيم يوحّدنا، فإنّنا نحتاج إلى بيان الإطار العام لهذه المنظومة، والتي من تجلياتها أن يؤدّي المجتمع وظيفته بشكل سليم، وتكون حركيّة النّاس الفرديّة والجماعيّة أكثر فعاليّة، ومعلوم أنّه في هذا السّياق العام تتبلور أهمّية القيم لأنّها تساهم في التّخفيف من المفارقات بين مكونات المجتمع وتلك التّناقضات بين عناصره، سواء على المستوى السّلوكي أو الثّقافي عموما، كما تقوم بدور فعّال في تشكيل الهويّة الثّقافيّة الموحّدة لدى مكوّنات المجتمع.
ولتفعيل هذه المعاني نركز على الخصائص المهمة لهذه المنظومة، وهي كما يلي:
-1 إطلاقية القيم
ومعنى ذلك أنّ أهمّ خاصيّة للقيم هي أنّها قيم مطلقة تتجاوز حدود الزّمان والمكان والإنسان، لأنّها ملازمة للسّلوك الإنساني بغض النّظر عن معتقده أو لونه أوجنسه، وهي مؤطّرة لأبعاده كلّها، سواء في البعد البدني، أو البعد الدّيني، أو البعد العقلي، أو البعد الأخلاقي. ومسألة الإطلاق في القيم هي التي حصل فيها إشكال في الثّقافة الغربيّة، لأنّ المرجع في تحديد القيم المشتركة يعود إلى اتفاق مكوّنات المجتمع وتواطئها على قيم معيّنة ورفض أخرى، وهذا المعنى سيؤدّي منطقيّا إلى نقض هذه الخاصّية وهدمها، لأنّ المجتمع هو الوعاء الحاضن لتطبيقات القيم على مساحاته المختلفة والمتعدّدة المشارب، لا أنّه المنتج لهذه القيم؟؟ فالمنهج العقلي لا يقبل أن يكون المجتمع هو الوعاء والمنتج في نفس الوقت إلّا إذا كانت القيم تتميّز بخاصّية النّسبيّة، وهنا سنكون أمام دلالات مخالفة تماما لما أشرت إليه من قبل، أهمّها الوقوع في خاصّية التّغير للقيم في مقابل دلالة الثّبات، وطبعا هذا التّصوّر له انعكاسات سلبيّة على مكوّنات المجتمع الواحد، من تجلّياتها اختفاء مفهوم الالتزام بالقيم والخضوع لرياح التّغيير التي تصيبها من حين لآخر، وهذا ما يجعلنا نعيش في ظلّ أزمة القيم فعلا.
-2خاصّية المعياريّة: 
لا يمكننا أن نتحدّث عن قيم مطلقة إلاّ إذا كانت معياريّة، فهما خاصّيتان متلازمتان، كلّ منهما يكمّل الآخر ويفسّره ويعطيه دلالات واضحة، خاصّة في موضوع القيم، ومعنى كونها معياريّة أي تعتبر هي النّموذج والمرجع المؤطّر لمختلف السّلوكات الثّقافيّة التي قد تظهر في المجتمع من خلال سلوكات الأفراد والجماعات، وهي التي قد تتحوّل مع الزّمن إلى عادات وأعراف إذا وجدت قبولا وتراضيا من النّاس. وهنا نتساءل كيف تكون القيم معياريّة وهي من إنتاج المجتمع ؟ إنّ المحدد العقلي لا يمكن أن يقبل بهذا المعنى إلاّ على سبيل العبث، أو على سبيل تفتيت وحدته التي يعيش في ظلالها والسّعي وراء تفكيكه ثقافيّا وقيميّا كما هو حال المجتمع العربي عموما.
إنّ خاصّيّة المعياريّة لا يمكن الحديث عنها إلاّ في ظلّ الوحي الإلهي المتعالي عن المجتمع ومكوّناته، والذي من مقاصده تغييره نحو الأفضل، والسّمو به نحو القيم التي جاء بها، وأعظمها تحقيق العبوديّة للّه تعالى عوض ترسيخ القيم السّائدة والرّضا بأمر الواقع المرير الذي نعيش فيه استجابة لعدد من الدّعاوى والمبررات. وبكلمة أخرى لا يمكن الفصل بين القيم ومصدريّة الدّين لها، لأنّه هو وحده الذي يعطي لها معنى جماليّا ويبعث في صاحبها طاقة روحيّة تجعله يحاول مهما اعترضته العوائق والابتلاءات أن يمارسها ويتشبّث بها، بل وقبل ذلك كلّه أن يعتقد بصلاحيتها وصوابها المطلق الذي يعلو ويتجاوز النّسبيّة التي تقوم عليها المجتمعات، وفي هذا السّياق يقول أحد التّربويين: « إنّ الإسلام يربط الأخلاق بالشّرع، فالشّرع هو الذي يحسن ويقبح..وليست الأخلاق متروكة للإنسان ينظر فيها بعقله، لأنّه فضلا عن كونه بطبيعة آفاقه المحدودة عاجزا عن العثورعلى نسق شمولي يستجيب لحاجيات الإنسان وتطلعاته الحضاريّة، فإنّ نسقه ذاك حتّى وإن كان فيه قدر من الصّواب، فإنّه يظلّ جسدا راكدا لا حياة فيه»(2)
وحينما نشير إلى مصدريّة الدّين للقيم نكون فعلا أمام نسق متكامل ونظام معرفي يستجيب لتطلعات الإنسان في ضوء ما أشرنا إليه من خاصّيتي الإطلاق والمعياريّة، فواضح جدّا أنّ العقيدة هي الباعث على الإيمان بالفكرة والدّفاع عن المبدأ الذي يؤمن به الإنسان ويلتزم من أجله بالقيم التي يدعو إليها ذاك المعتقد، وهذا لا يحتاج إلى بيان، سواء كانت تلك العقيدة صحيحة أو فاسدة.
-3 الفطرية: 
من معاني هذه الخاصّية أنّ أصل القيم يرجع إلى الفطرة البشريّة، فهي الجهاز الذي يستوعب القيم ويحتضنها، وبفضل ذلك تكون للإنسان القابليّة لتطبيق تلك القيم التي يؤمن بها، وهنا طبعا نتحدث عن الفطرة السّوية التى فطر اللّه تعالى عليها النّاس، حيث لا يجد الإنسان أدنى تعارض بين قيم فطرته وبين مــا أنزل اللّه تعــالى على رسوله من مضامين الوحي الإلهي المتجلّي في القرآن المجيد والسّنة النبويّة، قال تعــالى: « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَٰلِكَ الدِّيـنُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمـُونَ»(3) ، يقول الطّاهر بن عاشــور: «ومعنى فطر النّاس على الدّين الحنيف أنّ اللّه خلق النّـاس قابلين لأحكام هذا الدّيـن وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانيّة للّه، لأنّ التّوحيد هو الذي يساوق العقل والنّظر الصّحيح، حتّى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقن اعتقادا ضالّا لاهتدى إلى التّوحيد بفطرته» (4).
إنّ هذه الآية تكشف بوضوح عن خاصّية الفطريّة الملازمة للقيم، وما على الإنسان إلاّ أن يكون متناسقا مع عقله وما تقبله فطرته السّويّة والسّليمة، حتّى وإن حصل في المجتمع ما حصل من تغير للقيم، لأنّ اللّه تعالى الذي خلق الإنسان على هذه الفطرة هو سبحانه الذي أنزل وحيا يتضمّن تصوّرا شموليّا عن الخلق والمصير، وما على الإنسان إلاّ أن يستجيب لمعطياته وأوامره ونواهيه، «وبهذا يربط بين فطرة النّفس البشريّة وطبيعة هذا الدّين وكلاهما من صنع اللّه، وكلاهما موافق لناموس الوجود وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. واللّه الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدّين ليحكمه ويصرفه ويطبّبه من المرض ويقوّمه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللّطيف الخبير، والفطرة ثابتة والدّين ثابت: «لاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»، فإذا انحرفت النّفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلاّ هذا الدّين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود» (5). 
وبهذا يتبيّن ذلك التّرابط إلى درجة التّلاحم بين الدّين والفطرة، أو قل بين الدّين والقيم الذي يستحيل أن يحصل معه انفصال إلاّ على سبيل الإنكار أو الجهالة مصداقا لقوله تعالى: «وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (6) فهم لا يعلمون حقيقة هذا الدّين وما جاء به من خير للبشريّة جميعا، ولا يعلمون حقيقة هذه الفطرة التي هي من صنع اللّه الحكيم، ولا يعلمون حقيقة التلّاحم بين الدّين والفطرة باعتبار مصدريتهما الرّبانيّة الواحدة. 
فالفطرة تعتبر بمثابة«الخزان أو الينبوع الذي يصدر عنه السلوك الإنساني، مدعوما في ذلك بضوابط الإرادة والحرية التي لا تتعارض في شيء مع الالتزام بضوابط الشرع»(7).  
وبالجملة لا يمكن الحديث عن الإنسان مجرّدا عن القيم التي تؤطّره والتّصور المعرفي الذي ينطلق منه، وعلى حسب مكونات هذا التّصور تتبلور القيم التي يؤمن بها ويدافع عنها، وبذلك يقدّم شخصيّته للمجتمع.
ونظرا للوضع الرّاهن الذي نحيا بين عتباته صار النّموذج الإسلامي محتشما في السّاحة إن لم نقل مختفيا، وما ذلك إلاّ بسبب التّغيّر الطّارئ على سلوكاتنا والثّقافة السّائدة المؤطّرة له عموما، ومن ثمّ فإنّنا نعيش في ظلّ أزمة قيم حقيقيّة تحتاج إلى تضافر الجهود لإيجاد حلول عاجلة لها.
الهوامش
(1)
Jacques Bourdon-Bousset-dans ETAPES DE LA PROSPECTIVES,paris.P.U.F-1964-p173
(2) عبد المجيد بن مسعود، القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر، كتاب الأمة، ع 67، 1419، ص122
(3) سورة الروم - الآية 30
(4) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984، ج21، ص90
(5) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط17،1412،ج 5، ص 2767.
(6) سورة الروم - الآية 6.
(7) عبد المجيد بن مسعود، نفس المرجع، ص91.