تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
المسلمون في إيطاليا جامع روما.. منارة مشعّة لجالية كادحة
 في الواحد والعشرين من شهر جوان/يونيو 1995 دُشِّن بشكل رسميّ الجامع الكبير بمونتي أنتانّي في روما. تدشينٌ فخمٌ، جرى بحضور كبار ممثّلي الدّولة وشخصيّات دينيّة مرموقة؛ لحدث بالغ القيمة ثقافيّا وسياسيّا، بشكلٍ ما يطغى طابعه السّياسيّ على طابعه الدّينيّ. ويغلب طابعه الدّيني طابعَه الرّوحيّ. بدون شكّ جليّة قيمته التّاريخيّة والرّمزيّة.
جامعُ روما، الذي يعود بالنّظر إلى المركز الثّقافي الإسلامي بإيطاليا، هو مؤسّسة رسميّة. يتشكّل مجلسه الأساسيّ من ممثّلي سفارات البلدان الإسلاميّة، وبالطّبع حتّى في ما يتعلّق بالجانب المعماري، فهو أهمّ مَعْلَم إسلاميّ بإيطاليا. كما يعدّه العديد أكبر مركز إسلاميّ على المستوى الأوروبيّ، حتى وإن كانت المنافَسة في هذا المجال متنوّعة. جامع في روما -المدينة الخالدة-، في العاصمة العالميّة للمسيحيّة، موضوع لا يمكن الاستهانة به، حتّى في ظلّ تعقيدات اللّعبة الدّبلوماسيّة الدّينيّة الدّاخليّة في العالم الإسلامي. لذلك من المجدي استعراض التّاريخ، وتجنّب الاقتصار على الرّاهن منه.
اِنطلق السّعي الجادّ في مشروع الجامع منذ 1973م، على إثر زيارة العاهل السّعودي الرّاحل الملك فيصل إلى إيطاليا. وَهَبت بلديّة روما مجانًا قطعة أرض تبلغ مساحتها 30000 متر مربّع في منطقة مونتي أنتانّي، القريبة من حيّ باريولي الرّاقي. كانت العمليّة في حدّ ذاتها معبّرة، فليست هناك أقلّية دينيّة تمتّعت بشيء مماثل (مختلفة حالة الأغلبيّة الكاثوليكيّة). بالتّالي ليس صعبا فَهْم، من وجهة نظر الدّولة الإيطاليّة، أنّ الأمر تعلّق باتخاذ ذلك القرار تحت دوافع، لنَقُلْ تتجاوز الدّين. مسايرة بالأساس إلى الحوافز الاقتصاديّة خلال تلك السّنوات، وبالخصوص الأزمة البتروليّة، التي تعود إلى 1973.
تتدعّم الفرضيّة لاحقا بعامل الاعتراف بالمركز الثّقافي الإسلامي بإيطاليا، الذي بُعِث بالأساس عام 1966، فخلال عام 1974، وبعد ثلاثة أشهر فقط من تقديم طلب التّأشيرة، وبحسب إجراءات سريعة غير معهودة في الثّقل الإداري الإيطالي، جرت الموافَقة على الاعتراف به كـ «هيئة أخلاقيّة». فضلا عن سلوك بلدان أوروبيّة أخرى المسلك نفسه في تلك الفترة، مثل بلجيكا، التي اعترفت خلال 1974 بالإسلام كديانة من ضمن ديانات الدّولة.
يبدو الإسلام «الرّسمي» في إيطاليا يسير بخطى تئيدة، يتجلّى ذلك من خلال متابَعة تاريخ جامع روما نفسه. انطلقت مناقَصة عالميّة لإنجازه سنة 1974. لكنّ التّنفيذ الفعلي بعْدَ وضع حجر الأساس انطلق عقب عشر سنوات، في أول ديسمبر 1984. بعد عِقدٍ من ذلك التّاريخ تخلّلته فترات توقّف، اكتسب المركز والمقرّ صفة رسميّة. وقد تطلّب الوصول إلى الاشتغال بشكل عملي، بكافة أجهزته، ما يقارب العقد من الزّمن. مع ذلك يبقى أمام المركز مسار طويل في انتظاره.
وإن كان المركز يسير بتؤدة، فعلى خلاف ذلك يسير الإسلام بشكل حثيث. في الأثناء حدث ما لم يكن في الحسبان على إثر اتخاذ قرار تشييد المسجد. كان التّصوّر السّائد أنّه بتشييد المركز تمّ وصول الإسلام، في حين ومن حيث لا يعلم، حتّى من الجانب الإسلامي، وصل المسلمون أيضا. وهو ما منح تصوّراً آخر، ورؤية أخرى، لهيكل كان سيبقى بدونهم كتلة من الإسمنت الجامد، أو على الأقل نقطة للدبلوماسيّة الدّينيّة.
ففي الوقت الذي تقرّر فيه إقامة المشروع، كان الإسلام الإيطالي، مع استثناءات قليلة، يتعلّق تقريبا بموظّفي السّفارات الإسلاميّة، أو ببعض رجال الأعمال الموجودين ظرفيّا في إيطاليا، أو بأوائل المهتدين إلى الإسلام، فضلاً عن بعض العائلات المهاجرة التي وجدت نفسها لعدّة أسباب تعيش بعيدا عن أرض الوطن. ما زال المهاجرون فعلا قليلي العدد، فما زلنا بعيدين عن الأعداد المكثّفة. وبالضّبط مع العام 1973 توقّفت هجرة الإيطاليين نحو الخارج، وانطلقت رسميّا حقبة جديدة، باتت فيها إيطاليا نقطة جذب للمهاجرين. وإن تكثّفت مع مرور الوقت تلك الهجرة من البلدان الإسلاميّة والعربيّة خصوصاً.
انتهى المساران بالتّقابل حتّى وإن لم يتصادما، ففضلا عن الإسلام ذي الطّابع الرّسميّ، والممثَّل بجامع روما، تولّد كما رأينا وتطوّر حضورٌ للمسلمين، بات متجذّرًا في الواقع، وصار جليًّا للعيان.
يتطلّع جامع روما إلى تمثيل المسلمين المقيمين في إيطاليا، تسنده من وجهة نظر استراتيجيّة ودبلوماسيّة أيضا البلدان التي تقف وراءه، وذلك الاعتراف به كمؤسّسة رسميّة، وكممثّلية للجالية المسلمة. بالفعل صار مؤسّسة إسلاميّة فريدة من نوعها وفي دورها. لكنّ المهاجرين المسلمين في الأثناء، بقوا بعيدين عادة، لقناعات خاصّة ولظروف استراتيجيّات سياسيّة ودينيّة مع بلدان المأتى. انطلقوا في أشكال مغايرة من التنظّم الخاصّ، وبعثوا من الأسفل مساجد صغرى محلّية: والجلي في الأمر أنّ ذلك المسار هو ما يشكّل بالأساس الإسلام الشّعبي الحقيقي، بصفته نتاج الحاجة الدّينيّة، في أوجهها الرّوحيّة والاجتماعيّة، العميقة والنّافذة. تولّدت كذلك الجمعيّات وفيدراليّات الجمعيّات. وكانت أهم تلك الجمعيّات وأوسعها تمثيلا « اتحاد الهيئات الإسلاميّة في إيطاليا» (Ucoii). التي وُجِدت خارج المدينة التّاريخية روما. كان بعثها بغرض بحث إرساء «وفاق» مع الحكومة الإيطاليّة، يتعلّق بالمسائل الشّعائريّة، كما جرى سلفًا مع أقلّيات دينيّة أخرى، مثل الجالية اليهوديّة، وبعض التّجمعات الصّغرى البروتستانتيّة. لكن نحن هنا بصدد التّساؤل عن المعنى الرّمزي لتدشين ذلك الجامع؟
فبالنّسبة إلى المسيحيين بالخصوص، رافَقَ انتصاب ذلك الجامع امتعاضًا، في أوساط أقلّية من ممثّلي العالم الكاثوليكي، واعتبرته تدنيسًا للمدينة المقدَّسة. كان التعلّل بالخصوص لغياب تعامل بالمثل، فلحدّ الآن ثمّة غياب في كافة أرجاء العربيّة السّعوديّة لكنيسة مماثلة، المموّل الرّئيس لجامع روما، وتقريبا كما الشّأن فيما يتعلّق بكافة المراكز الإسلاميّة في العواصم الأوروبيّة، رغم أنّ السّعودية هي حليف وفيّ للغرب في المسرح السّياسي الدّولي.
عموما لاقى تشييد الجامع قبولًا، أو على الأقل تقبّلًا، تَمّ التّعبير عنه بالصّمت، من قِبل عديد القيادات الكاثوليكيّة في حاضرة الفاتيكان. أمّا «المجلس البابوي للحوار بين الأديان»، فقد تحرّك بقصد نسج علاقات متينة مع الإسلام: ربّما أيضا لمصلحة الأقليّات المسيحيّة الموجودة في البلدان الإسلاميّة. لقد باتت «الصّومعة القريبة من قبّة ساحة القديس بطرس» اليوم رمزًا للتقارب الفعليّ بين الدّيانتين.
ربما ما كانت هناك رغبة جليّة في هذا الاتجاه، لكن الأمور سايرت، وبكلّ بساطة، منطق الوقائع وقوّتها، ليس عبْر الغزو العسكري أو سيطرة الواحد على الآخر، وليس عبر العلاقات الدّينية المتبادلة، بل كانت جرّاء التّوافد السّلميّ للعمّال المهاجرين، المندمِجين عادة، في الدّرجات السّفلى من السلّم الاجتماعيّ، على الأقلّ لحدّ الآن، وهو ما جعل وجود الإسلام والمسيحيّة، في الغرب، جنبًا إلى جنب على التّراب نفسه. بالتالي قدرهما التّعايش والتّآلف، بالنّسبة إلى المؤمن، سواء المسلم أو المسيحي، الذي يرى تجلّيات سُنّة اللّه في خَلْقه في التّاريخ، وهو أمرٌ جدير بالتّأمّل والتمعّن.
لكنّ لهذا الجامع رمزيّة كبيرة، أساسا وخصوصا بالنّسبة إلى المسلمين، وفي مستوى أوّل بالنّسبة إلى أولئك الذين يعيشون في المهجر. لأنّ ذلك الإنجاز، يدعّم بشكل ما، تجذّر ذلك الحضور ومشروعيته، المسموح به والمصادَر أحيانا، للمهاجرين المسلمين في إيطاليا. فهو بمثابة مكان جغرافي، بل أيضا قِبْلة روحيّة، ينتصب في بلدٍ يحتضن مرقد القديس بطرس، وبالتّالي في قلب العالم الكاثوليكي. يمنح ذلك الحضور هؤلاء المسلمين، المتكوّنين أساسا من عمّال تتبعهم أسرهم، طليعيةً، وأيضا يمنحهم ريادة دينيّة أو ما يشبهها: إنّه معنى إضافي لهجرة نشأت لدواع مغايرة.
ليس هيّنا بالنّسبة إلى الإسلام أن يعيش في وضع أقليّة وفي أرض مسيحيّة. إنّها مشكلة قائمة في حدّ ذاتها، لعالم ثقافي اعتادَ النّظر لنفسه، حتّى بشكلٍ تشريعيٍّ، أغلبيةً، قادرا على التّأثير في القوانين وعلى السّلطات السّياسيّة. ليس إيجاد معنى، لظرفه الخاصّ الإنساني والدّيني الطّارئين، أمرًا بسيطًا، والحضور حتّى بشكل رمزي في الغرب، في ظلّ أوضاع إسلام يغذّي مخاوف وخِشية متوارثة، غير قابلة للتّفسير في غالب الأحيان، وغير مقبولة أيضا.
في النّهاية، بالنّسبة إلى المسيحيّين والمسلمين معًا، يشكّل جامع روما، -لكن في العموم كافة المساجد والمصلّيات التي تعمّر شبه الجزيرة- رهانًا، بشأن تمتين إيجابيّ للعلاقات، متحرّرًا من ثقل صراعات الماضي، دون السّقوط في ذلك الدّاء المسمّى باللاّمبالاة، والغرابة، والنّفور من الآخر. لا نعرف ما سيكون عليه الطّرفان من كلاّ الجانبين، في تحمّل الدّور المطلوب، نأمل خيرًا.
حاضراً لم يمثّل المركز الإسلامي بروما، لحدّ الآن، وحتّى وإن تيسّر له ذلك في المستقبل، قِبْلة روحيةً، قادرةً على لعب دور قياديّ، لما يرجوه الجميع منه. فضلاً عمّا يترقّبه من مهامّ حوارية بين الأديان (يمكن أن نكتفيَ الآن بالحديث عن علاقات الحوار الدينيّ، لا الحوار الدينيّ الفعليّ، وهو ما يمكن أن يتطوّرَ خارج الدّيبلوماسية الدّينية). في حين، يمثّل اليوم موضوعا بارزًا للحضور الإسلامي في إيطاليا، وبالخصوص لنوع خاصّ من الإسلام، على ارتباط بالدّور السّياسي، أو تحديدا بالدّين الرّسمي، لبعض البلدان الإسلاميّة، وهو معطى لا يتناسق مع البلدان الأصليّة للهجرة الإسلاميّة في إيطاليا. فقد كانت العربية السّعوديّة عبر رابطة العالم الإسلامي البلدَ الأكثر سخاء من ناحية التّمويل والدّعم للجامع، الذي بلغت تكاليفه حوالي ثمانين مليارا من اللّيرة الإيطاليّة، وهي البلد الذي يكاد يفتقد لمهاجرين في إيطاليا، أو في غيرها من البلدان الأوروبيّة. فأغلب المراكز الإسلاميّة في القارّة حظيت بدعم مالي وافر من هذه الدّولة.
فالإسلام الذي ننعته بالدّبلوماسيّ والتّابع للدّولة هو إسلام ميسور، على صلة وثيقة بفرع رابطة العالم الإسلامي في إيطاليا، التي مثّلها السّفير الإيطالي الأسبق ماريو شالويا، البالغ من العمر أكثر من سبعين سنة. وقد سبق أن أسلمَ سنة 1988، حين كان يمثّل إيطاليا في الأمم المتحدة، وبعد إقامات متعدّدة في شيكاغو وموسكو وبيونس أيرس وموغاديشو، كما شغل منصب سفير إيطاليا في العربيّة السّعوديّة، منذ 1994 إلى 1996، وقد كان حينها قد مرّ على اعتناقه الإسلام زمن. عموما ذلك الإسلام الرّسمي هو إسلام متوازن، يعرف كيف يتحدّث وكيف يتكلّم، ولا يمكن القدح فيه بتدني إلمامه الثّقافي بالواقع الإيطالي. ثمّة دورٌ نافذ للسّعوديين، مموّلي المشروع، فلهم قوّة عالميّة. فاللّعبة الأساسيّة والرّهان على المركز هو مركَّب، أو لنقل سياسي-ديني، حيث التّحرك على مستوى دولي، في غياب وجود مصالح على مستوى البيادق المنفردة.