قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
وباء الكورونا أو هكذا أعتقد
 «إلزم بيتك».. «خلّيك بالبيت»... «شد دارك» ، تختلف اللّهجات والواقع واحد في العالم العربي كما في غيره من أصقاع الأرض لا خروج من البيت إلاّ للضّرورة، إنّه وباء الكورونا يطبق على معظم البلدان ويلتهمها قطعة قطعة دون توقّف، ليقف العالم حائرا أمام كائن مجهريّ ويعجز بسياسيّيه وأطبّائه وعلمائه عن مواجهة كارثة قاتلة حيث لا دواء ولا لقاح. لم تتوقّف الأرض عن الدّوران ولكنّ الحركة على الأرض تكاد تتوقّف، أُلزم النّاس بالبقاء في بيوتهم وأُغلقت الحدود والمطارات والمصانع والمدارس والكلّيات والمطاعم والمقاهي ودور العبادة، ولم يعد أمام النّاس بدّ من حجز أنفسهم داخل البيوت واتخاذ كلّ الوسائل الواجبة للتّوقي من العدوى، ولم يبق أمامهم إلاّ الأمل في النّجاة من العدوى والدّعاء إلى اللّه أن يرفع البلوى. 
ضرب الوباء الخطير أكثر من مائة دولة ويزداد انتشارا بين آونة وأخرى وسط حالة من الذّهول أمام ما يسبّبه من وفيّات تزداد بإطراد، وهو الأشدّ انتشارا من بين كلّ الأوبئة السّابقة والأشدّ أثرا وتأثيرا وإحداثا للصّدمة والذّهول. لا أحد كان يتصوّر أنّ المنظومة الصّحيّة للبلاد الأكثر تحظّرا ستقف عاجزة أو على الأقل مرتبكة أمام سرعة انتشار الوباء وخطورته على حدّ سواء، ناهيك عن البلدان المتخلفة أصلا أو تلك التي لم تكن بها أنظمة صحيّة ذات فاعليّة في الأزمات. لقد ظهرت الفوارق جليّة بين عالم يملك أدوات المواجهة وإن لم يكن متهيّئا وعالم آخر هو الأوسع لا يملك من أدوات المواجهة إلاّ القليل وقد يستسلم فى النّهاية أمام العجز وقلّة الحيلة ليترك النّاس إلى مصيرهم إذا انتشر الوباء أفقيّا في البلدان الفقيرة في إفريقيا وآسيا أو في البلدان التي لا تكترث أنظمتها السّياسيّة لموت الإنسان.
لقد كشف الوباء حقائق مذهلة كان العالم المتناحر والمتضاد يتعامى عن وجودها ولا يعيرها أي اهتمام. كان الفقر بجميع درجاته معظلة قبل الوباء، ولكنّ الوباء كشف عن حجم المأساة التي يمكن أن يتسبّب بها الفقر عند الأزمات الطّاحنة كأزمة تفشّي الكورونا. لا يتعلّق الفقر هنا بفقر الأشخاص أو المجتمعات من النّاحية المادّية فقط وإنما يتجاوزه إلى فقر معرفيّ وآخر يتعلّق بأسلوب إدارة الأزمات، والأهمّ من ذلك ما يتعلّق بهدر الوقت والطّاقة والسّبل في مواجهة الفقر والحدّ منه على مدار العقود السّابقة لتكتشف البلاد الفقيرة الآن أنّها قد أهدرت كلّ الفرص الممكنة وأنّها قد أضاعت على نفسها الجهد والطّاقة ولم تلتفت لما كان يجب الالتفات إليه وانشغلت بالحروب والصّراعات والتّنافس في العمالة والتّآمر على الأوطان دون أن تحسب حسابا للمستقبل وقد آن الأوان لتدفع الثّمن. 
فجأة أصبحت كلّ بلاد تحصي عدد أسرّة الإنعاش التي تتوفّر لديها لمواجهة الوباء، وفجأة أيضا اكتشفت كلّ البلدان - وإن بنسب مختلفة - أنّها لا تملك العدد الكافي من هذه الأسرّة ناهيك عن الوسائل الأخرى اللاّزمة للوقاية ولحماية الإطار الطّبي وغيرها من الوسائل اللّوجستيّة الضروريّة في مواجهة هكذا أزمة تتطلّب السّرعة في الإنجاز ورصد كلّ الإمكانيّات اللاّزمة لحصر الوباء. 
لقد بيّنت هذه الأزمة وبشهادة الخبراء في السّياسة والإقتصاد والضّالعين في الاستراتيجيّات أنّ العالم مابعد الكورونا لن يكون هو نفسه ما قبل الكورونا، فأين سيكون هذا الاختلاف؟ وهل ستستفيد بلدان العالم من هذه الأزمة وعلى أيّ نحو؟ لقد واجهت البلاد الغنيّة الأكثر تقدّما أزمة مفاجئة وهي الأسوأ منذ عقود تماما كما تفعل بلاد أخرى متفاوتة التّقدم والفقر، ولكنّ المفارقة لا تكمن في قوّة المواجهة ونجاعتها فقط ولكنّها تكمن وهو الأهم في القدرة على المواجهة وفي إمكانات النّصر. لسنا إزاء مقارنة مفروغ منها ولكنّنا إزاء تفاوت كبير يجعل من بلادٍ أمّة حيّة ويجعل من بلادٍ أخرى أمة عاجزة أو لا مبالية، لا فرق، فالنتيجة واحدة. 
لن يتغيّر واقع البلاد الفقيرة بين عشّيّة وضحاها ولن تستفيد من هذه الأزمة وستهدر فرصة لإصلاح ما فسد ومراجعة الأخطاء تماما كما أهدرت فرصا أخرى، وأسباب هذا الهدر لا تحصى ولا تعد . لم يوقف خليفة حفتر هجومه على طرابلس ولا توقّفت حرب اليمن، ولم يُطلق السّيسي مساجين الإخوان ولا غيرهم، ولم يعد المهجّرون في أشتات سوريا إلى دورهم ولا فُكّكت المخيمات ولا حتّى توقّفت الحرب، ولم يعلن أيّ نظام استبداديّ قناعته بأنّ الإستبداد هو ما أوقع بلاده في حالة العجز عن مواجهة الوباء ولا تقدّم أيّ نظام قام بتبديد ثروة شعبه ليعترف لهذا الشّعب بخطئه ويبحث معه عن حلول لبناء مستقبل جديد. 
كلّ البلاد المتخلّفة علميّا واقتصاديّا وسياسيّا تبحث عن طرق لضبط الأزمة وإدارتها على نحو يتيح لها الخروج بأخفّ الأضرار على نظامها السّياسي دون التّفكير في أيّ طرق للإستفادة من هذه الأزمة إلاّ على نحو سياسيّ يتيح لها فرصا أكثر للبقاء، وبالنسبة لها لا يختلف ما بعد كورونا عمّا قبلها. 
لقد فرضت كلّ البلاد المنكوبة بالوباء حجرا صحيّا على مواطنيها للتّقليل من حدّة انتشار الوباء وهي الوسيلة الأنجع التي لا خيار غيرها. و إذا كان بامكان البلاد الغنيّة توفير كلّ الامكانيّات الضّرورية لنجاح الحجر الصّحي، فإنّ بلادا أخرى كثيرة سوف تعجز عن توفير متطلّبات هذا الحجر من غذاء ومخصّصات ماليّة لازمة لتطويق آثاره الاجتماعيّة، ومن لم يقتلهم الوباء سوف يتضوّرون جوعا دون حول لهم ولا قوّة. 
إنّ من عجز طوال عقود عن بناء مستشفيات لائقة ولم يأبه للنّظام الصّحي لبلاده وترك الفقراء يتسوّلون العلاج كما يتسوّلون الغذاء، لن يعير هؤلاء الفقراء أيّ اهتمام الآن أو غدا وسوف يجدون أنفسهم في مواجهة نفس الأوضاع الصّحيّة والمعاشيّة بعد الكورونا كما كانوا قبلها ومن لم يمت منهم بالفيروس مات بغيره، وهل نتوقّع من هكذا أنظمة غير هذا. 
لن تكون أزمة الكورونا إلاّ أزمة عابرة وسيزداد الغرب المستعمر والمهيمن على ثروات الشّعوب شراهة فى ابتزاز هذه الشّعوب وتحويلها إلى عبيد وتحويل بلدانها إلى بقرات للحلب دون هوادة، لن يتغيّر واقع الحال لمجرد أن الوباء لم يفرق بين غنيّ وفقير فجميع الأوبئة فعلت ذلك من قبل والكورونا ليست بدعة في هذا، ولن يتغيّر الحال لأنّ الصّراع على هذه الأرض ليس صراعا من أجل السّلام بين الشّعوب وإنّما هو صراع من أجل البقاء ولذلك فالبقاء سيكون للأقوى. 
هل ستستفيد أمّة العرب والمسلمين من هذه الأزمة لتكون ضمن الأقوى؟ 
لا ينقطع الأمل، فالأمل من اللّه ولكن الأوان لم يحن بعد أو هكذا أعتقد.