وجهة نظر
بقلم |
عبد الحق التويول |
تساؤلات على هامش التهديد بـ « أسلم تسلم» |
يُروّج بعض من تصدّوا للطّعن في الدّين وحملوا لواء العداء تارة باسم التّنوير وتارة باسم غربلة التّراث وتارة أخرى باسم نشر قيم المحبّة والتّسامح ونبذ التّطرّف، لشبهة أنّ الدّين الإسلامي دين الهمجيّة والعنف وأنّه فرض على النّاس بقوّة السّيف والإكراه، ويستدلّ أصحاب هذا القول ويتّكئون في زعمهم هذا على مجموعة من الأحداث التي طبعت التّاريخ الإسلامي كالرّسائل التي بعثها النّبي ﷺ لملوك الأرض (كسرى فارس ، عظيم الرّوم ، نجاشي الحبشة ، مقوقس القبط ....) والتي تضمّنت عبارة « أسلم تسلم» والتي يرى فيها مروّجو السّلام ودعاة السّلم اعتداء على الآخر وتهديدا له في نفسه وحرّيته وأمنه، وأنّ مثل هاته الرّسائل النّبويّة ينبغي أن تلقى في مزبلة النّسيان لأنّها وصمة عار في جبين المسلمين ونقطة سوداء في تاريخهم الملطّخ بالدّماء لا أن تدرس للتّلاميذ وتبرمج في المقرّرات الدّراسيّة .
إنّ ما يستوقف المرء في هذا الادّعاء ويجعله يعجب ممّن يروّج لهذه الشّبهة هو جرأة أصحابه الزّائدة وتخبّطهم العشوائي دون تفكير أو تمحيص، وممّا يزيد في الاستغراب أكثر هو تلقّف النّاس لمثل هذه الشّبهة والإيمان والتّصديق بها تصديقا لا يساوره أدنى شكّ لا لشيء إلاّ لأنّها جاءت على لسان المفكر الفلاني أو الدّكتور العلاني أو المتخصّص في كذا وكذا، ممّا يجعلها تلقى رواجا بقوّة الإعلام المتهافت حتّى تتمكّن من العقول وتستوطن القلوب المريضة .
إنّه وبالرّجوع إلى رسائل النّبي ﷺ والوقوف معها وقفة تأمّل وتدبّر، وقبل ذلك لم لا طرح مجموعة من الأسئلة التي يغفل عنها مروّجو الشّبهة، كفيل بأن يوصلنا لا محالة إلى الأجوبة الحقيقيّة والمقنعة التي تنجلي معها غمامة الشّك وتزول بها غشاوة التّضليل التي أعمت عيون المدلّسين وجعلتهم يعادون غيرهم حتّى صار الكلّ يتخبّط في الباطل بعيدا عن الحقّ .
إنّ حجّة المشكّكين في سلميّة رسائل النّبي ﷺ وأنّها مجرّد دعوة للخير تنسجم وعالميّة الإسلام، هي تمسّكهم بعبارة « أسلم تسلم» التي اعتبروها تهديدا صريحا فيه إعلان للحرب من الرّسول ﷺ ضدّ ملوك الأرض، وأنّه ﷺ بهذا الأسلوب يكون قد وضع المخالف بين خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن يسلم فيسلم وإمّا ألاّ يسلم فحين ذلك يستباح دمه وعرضه وأرضه وقومه وعرشه.
لا شكّ عزيزي القارئ وأنت تتأمّل هذا الزّعم العجيب ستشفق على مروّجيه كثيرا، وستزداد شفقتك ورحمتك بهم عندما تحاصر زعمهم هذا ببعض الأسئلة التي لن يقووا على الإجابة عليها صراحة، وحتّى وإن قاموا بذلك فلن يقوموا بها إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، وحينها ستعرف مدى هشاشة الشّبهة وأنّها جزء من مخطّط تخريبي لا يستند إلى أيّ أساس علمي نقدي حقيقي اللّهم إلاّ الهرطقة والعجعجة وحسب .
إنّ أول سؤال يتبادر إلى الذّهن وينبغي طرحه على أعداء رسائل النبي ﷺ هو :
إذا كانت عبارة «أسلم تسلم» هي تهديد صريح من النبي ﷺ لملوك الدنيا وفيها تخيير لهم بين أن يسلموا أو يقتلوا ، فالحقيقة أن أغلب من وجهت لهم الرّسائل لم يسلموا باستثناء نجاشي الحبشة، فهل جهّز النّبي ﷺ الجيش وغزا الرّوم واحتل مصر وشرّد أهل بصرى وقتّل أهل بلاد فارس ودمّر غيرها من البلدان التي رفض ملوكها وأمراؤها الدّخول في الإسلام ؟
ثمّ إذا كانت عبارة «أسلم تسلم» فيها إعلان للحرب في حال عدم استجابة الملوك والأمراء لدعوة الإسلام، فلماذا قابل هؤلاء الملوك رسائل النّبي ﷺ بالتّعظيم والاحترام والتّقدير؟، فها هو هرقل عظيم الرّوم مثلا بمجرد ما وصلته الرّسالة واطلّع عليها وفهمها وصدّق بها - وإن لم يسلم نظرا لإيثاره الملك على الدّين - فإنّه أمر بأن توضع الرّسالة في قصبة من ذهب وتحفظ تعظيما لها وأوصى قومه وعشيرته قائلا: احفظوا هذا الكتاب وعظموه فسوف يبقى الملك فيكم ما بقي هذا الكتاب. فعملوا بوصيته وتوارثوها جيلا بعد جيل لمئات السّنين .
وهذا تصرّف غريب من هرقل عظيم الرّوم إذ كيف يقابل الرّسالة والتّهديد بالتّصديق والتّعظيم ويوصى قومه بأن يحفظوا التّهديد ويتوارثوه في قصبة من ذهب، وهنا لا بدّ أن نطرح فرضيّات لنفهم الإشكال والسرّ وراء هذا التّصرف العجيب فنقول : إمّا أنّ هرقل كان سفيها لا يفهم الكلام وبالتّالي لم يستشعر خطر التّهديد، وإمّا أنّ المترجمين الذين ترجموا له الرّسالة كانوا جواسيس للرّسول ﷺ زرعهم في قصر هرقل خدمة للإسلام وبالتّالي حرّفوا الرّسالة ولم يُطلعُوه على خطرِها، وإمّا أنّ متنوّري عصرنا ومفكّريه أجود فهما وتعقّلا واستشعارا للخطر من هرقل وخدمه !
وهذا الأمر لم ينطبق على هرقل وحده بل حتّى المقوقس بدوره عظّم الرّسالة ، وبعدما انتهى من قراءتها وفهمها لم يرد على النّبي ﷺ بإرسال الجيوش المدجّجة بالأسلحة، بل كان رده كالتّالي : «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك . أما بعد : فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّا قد بقي وكنت أظنّه يخرج بالشّام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط وبثياب، وأهديت إليك بغلة تركبها، والسّلام»
وهنا لا بدّ من التّساؤل أيضا والقول كيف للمقوقس أن يدّعي فهم ما ذكر النّبي ﷺ ودعاه إليه وهو لم يفهم التّهديد المبطن من محمد ﷺ إذ خاطبه هو أيضا بعبارة «أسلم تسلم» .
هذا الأمر غريب أيضا وغير ممكن اللّهم إلّا إذا كان المقوقس يعاني اضطرابا عقليّا حال بينه وبين الفهم السّليم، وازداد أمر المقوقس غرابة حين أكرم الرّسول محمد ﷺ وبعث له بالهدايا ( بغلة وثياب وجاريتين)، فهذا التّصرف غير مقبول في حال وجود تهديد ولا تفسير له إلاّ إذا أقنعنا أعداء «أسلم تسلم» أنّ ما قدّمه المقوقس كان على سبيل الرّشوة لصدّ هجوم محمد وغارته المحتملة عليه .
ثمّ لماذا لم يفكّر المقوقس في مكانته الاعتباريّة أمام شعبه وكيف سيكون مآله؟ لأنّ التّهديد يقتضي الردّ بتهديد أكبر منه لا الردّ بالهديّة والبغلة والجارية، هكذا سيقول الأقباط .
الأمر إذن يحتمل أن المقوقس إما أنّه كان ضعيف الشّخصيّة، أو أنّه كان يحكم شعبا بليدا والكلّ لم يستوعب الرّسالة، إلى أن جاء مفكّرو عصرنا وكشفوا حقيقتها، كونها كانت تهديديّة لا سلام فيها وأنّ المقوقس وأقباطه كلّهم قد خُدعوا وسُحروا برسالة محمّد .
بناء على ما سبق يتبيّن أنّ هناك من عظم الرّسالة وإن لم يسلم، ولكن هناك أيضا من لم يسلم ولم يعظم الرّسالة أصلا، فهذا كسرى مثلا قام بتمزيقها استكبارا وتحدّيا للرّسول ﷺ ولم يسلم، ومع ذلك لم يحشد ﷺ الجيش ولم يتوجّه لغزو بلاد فارس، وإنّما اكتفى بالدّعاء بعدمـا وصله الخبر فقــال : « اللّهم مزّق ملكه كلّ ممزّق»، فما قامت له قائمة بعد ذلك .
وهنا لا بدّ من طرح السّؤال على أعداء « أسلم تسلم» والقول إذا كنتم تزعمون أنّ «أسلم تسلم» فيها تهديد وإعلان للحرب، فلماذا لم يشن النّبي ﷺ الحرب على كسرى فارس خاصّة وأنّ هذا الأخير تعامل بوقاحة مع الرّسالة ومزّقها مخالفا بذلك البرتوكولات وما جرى به العرف بين رؤساء الدّول في التّعامل مع رسائل بعضهم البعض ؟
هل نفهم من هذا أنّ النّبي ﷺ كان بارعا في التّهديد فقط دون أن تكون له القدرة على التّنفيذ وأنّه كان ينهج هذا الأسلوب ليبثّ الرّعب والفزع في الملوك والأمراء عسى أن يسلموا ، تماما كما نفعل نحن عندما نهدّد الأطفال ونخوّفهم «بالغول» ليخلدوا إلى النّوم ويكفّوا عن الصّراخ والعبث ؟؟؟؟
كلّ هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت «أسلم تسلم» تهديدا فلماذا كان النّبي ﷺ يفتتح هذا التّهديد بعبارات التّعظيم والاحترام لمن وجّهت إليهم، مثلا جاء في رسالته لهرقل ( من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الرّوم ) وللمقوقس (من محمد رسول اللّه إلى المقوقس عظيم القبط) وللنّجاشي (من محمد بن عبد الله إلى النّجاشي عظيم الحبشة ) ألم يكن الأنسب في التّهديد أن يقول : إلى كلب الرّوم وإلى حمار القبط وإلى ضبع الحبشة، فهذه الأوصاف ومثيلاتها هي الأنسب لأنّ التّهديد يناسبه الهجاء لا المدح، اللّهم إلاّ إذا كان لمفكّري عصرنا رأي آخر في أساليب الهجاء والمدح والتّهديد والتّأمين فليفيدونا به مشكورين .
أخيرا هل يعلم مروّجو السّلام المزعوم وأعداء «أسلم تسلم» أنّ الرّسائل النّبوية قد بُعثت مباشرة بعدما رجع المسلمون من صلح الحديبية في أواخر السّنة السّادسة للهجرة، وهنا سؤال عريض يفرض نفسه، ويقتضي جوابا واضحا وصريحا من أعداء «أسلم تسلم»، خصوصا وأنّنا نعيش في عصر نرى فيه كيف أنّ كبريات الدّول والتي لها تقدّم حربي وعسكري فضيع من حيث امتلاك أسلحة دمار شامل ومع ذلك فهي لا تغامر بفتح الحرب عليها على أكثر من صعيد وحتّى وإن شنّت حربا فإنّها تشنّها على دولة واحدة في أغلب الحالات، لكن كيف يتّخذ النّبي ﷺ قرارا كهذا ويفتح عليه الحرب من جميع الجهات، فيعلن الحرب على النّجاشي وعلى هرقل وعلى المقوقس وعلى كسرى وعلى أمير بصرى وغيرهم في سنة واحدة وشهر واحد ، أليست هذه مغامرة بمستقبل الإسلام وتعريضه للخطر الجسيم الذي يمكن أن ينهيه في حرب غير متكافئة البتّة (المسلمون لوحدهم ضدّ الرّوم والفرس والقبط والحبشة ....)؟
ألا يرى مروّجو الشّبهة المزوّرون للحقائق أنّ اتخاذ مثل هذا القرار غير ممكن وأنّه ليس من الحكمة التي أوتيها النّبي ﷺ في شيء، اللّهم إلاّ إذا كان هؤلاء المزوّرون أعداء «أسلم تسلم» يعتقدون ويقرّون ويؤمنون أنّ النّبي ﷺ كان سبّاقا في امتلاك القنبلة الهيدروجينيّة قبل كوريا الشّمالية . |