تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
الإسلام السياسي وقضايا الديمقراطية
 يحوز الإسلام السّياسي في البلاد العربيّة وما جاورها بالغ الاهتمام في مراكز الأبحاث والجامعات الغربيّة، بفعل ما تشكّله طروحاته من هواجس قد تغيّر من معادلات المصالح الغربيّة في المنطقة، وما قد ينجرّ عنها من تهديد أمني للغرب. ونظرا لتنوّع ملامح الإسلام السّياسي، يحظى بمتابعة حثيثة تتناول أنشطته من عدّة أوجه، اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة. وتمثّل علاقة الإسلام بالشّأن السّياسي وبمسألة الدّيمقراطيّة الموضوع الأثير الذي تتكثّف المعالجات حوله في العقد الأخير. يأتي كتاب ريكاردو ريدايللي «الإسلام السّياسي وقضايا الدّيمقراطية»، الصادر في أواخر العام المنقضي ضمن سلسلة متتالية من الأبحاث صدرت في الشّأن باللّغة الإيطالية تقارب الظّاهرة وتدفع بمعالجة المناحي السّياسية إلى الصّدارة، مثل كتاب «هل يتلاءم الإسلام مع الدّيمقراطيّة؟» لِرينزو غولو، و«تاريخ الإسلام السّياسي العربي وتطوّراته» لِلاورا غوازوني، و «الإسلام والسّياسة» لماسيمو كامبانيني.
ريكاردو ريدايللي هو أستاذ جامعي يدرّس العلوم السّياسية في جامعة «القلب المقدس» الكاثوليكيّة في ميلانو، كما يتولّى الإشراف في الجامعة نفسها على مركز أبحاث يتابع التّطورات السّياسيّة في دول الجنوب والمتوسّط، من أهمّ مؤلّفاته «إيران المعاصرة» (2009) و«العراق المعاصر» (2013). يقسّم ريدايللي مؤلفه «الإسلام السّياسي والدّيمقراطية» إلى أربعة أقسام تأتي معنونة على النّحو التالي:
مخاطر النّظرة المجرّدة للإسلام؛ العالم الإسلامي والدّولة الوطنية؛ تمثيل الشّعب ومصاعب تطبيق النّموذج المستورد؛ فشل الطّرح الإسلاموي نحو الدّيمقراطية ووهْم الخلافة.
يشير الكاتب في مستهلّ مؤلّفه إلى أن بحثه لا يتناول معالجة علاقة الإسلام بالديمقراطية، بل هو تحديدا تأمّلات في تعاطي الإسلام السياسي مع المسألة، وفي مساعي الحركات الدينية للفكاك من رهن «الدولة الوطنية». فضمن سياق عودة المقدّس الذي ميّز القرن الفائت، أو كما يسمّيه الفرنسي جيل كيبيل «ثأر الله»، وجدَ الإسلام نفسه في معترك جدل سياسي ديني شمل تقريبا كافة التقاليد الدينية الكبرى التي تتفاعل داخل أطر الدولة الوطنية. وبالتالي «لا يروعنا ما يجده الإسلام من مصاعب -على حد قول ريدايللي - تفوق غيره في التلاؤم مع تحولات ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة كما ينعتها زيغمونت باومان». فبقدر ما يكون النظام صلبا ومفتقرا للآليات والمؤسسات المنوط بها إحداث التكيّف تتولّد المصاعب في مواجهة عالم مشوب بطابع ما بعد حداثي.
ومن منظور ريدايللي، إن يكن من الضروري رفض الرؤى الأبوكاليبسية (الأُخروية) لدعاة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام)، فمن جانب أولى أيضا رفض الرؤى التطمينية للإسلاموفيليا (محاباة الإسلام) التي تنفي عن الإسلام أي شكل من أشكال العنف وغياب أي مشكلة بداخله، أو بالمثل ذلك التبرير الذي يلقي بمشاكل الشرق المعاصر على الاستعمار الأوروبي، وفق أحكام جاهزة صاغتها دراسات ما بعد الكولونيالية وراجت بفعل المقلّدين لطروحات إدوارد سعيد، فهناك مشكلة -وفق ريدايللي- تعتمل داخل الإسلام اليوم لا ينبغي التغاضي عنها(ص: 18).
ينطلق الكاتب في تشخيص المشكلة من تشكّل الدولة العربية الحديثة، مبرزا أن الدولة القومية كما شهدت في وقت سابق أزمة، تشهد الدولة الوطنية أزمة مماثلة نعيش تداعياتها. ويذكر أن مفهوم الدولة الوطنية الأوروبي المنشأ والذي عرف انتشاره في كافة أرجاء المعمورة، تعتريه كغيره من الصياغات البشرية تراجعات. وإن تبنى العالم العربي هذا المفهوم بأمر الواقع، فإن النمط المجتمعي المتولّد عن ذلك ما فتئ يشهد انحلالا سريعا في جملة من البلدان. فالمجتمعات الإسلامية في ماضي عهدها استبطنت واقعا قَبَليا وطائفيا ومناطقيا متجذّرا -وهو ما يبدو بعيدا عن مفهومنا الديمقراطي الغربي- خضع فيه سير السلطة إلى مراعاة التوازن بين أطياف ذلك النسيج، حيث تواجدت أشكال تمثيل قبلية ومشيخية وعشائرية غير منتخَبة ولكنها مقبولة. في حين ما نشهده اليوم وهو التحول نحو آليات حكم ومعايير غربية المنشأ، وهي شكليّا مضاهية لما تسير عليه الأمور في الغرب، لكنها لا تقود إلى مناخ حرية أو ديمقراطية فعلية.
صحيح أن الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإنجليزي قد خلّفا دويلات هشة، كما هو الحال في بلاد الشام والمشرق عامة، تتميز بميوعة سياسية داخلية، وهي تواجه اليوم تحدي التطرف الديني والتفتّت المذهبي (ص: 64). ولكن التنوّعات العرقيّة والثّقافيّة والدّينيّة لا تؤدّي بالضّرورة إلى الصّراع، بل المشكلة تكمن في الشّكل الذي تُسيّر به أوضاعها السّياسيّة، حتّى لا يغدو الثّراء الحضاري والتّنوع الثّقافي في البلاد العربيّة متّهَما.
يعود مؤلف الكتاب بجذور تعثّر الدّولة الوطنيّة إلى كون المفهوم دخيلا على البناء الاجتماعي، معتبرا أن الإسلام السّياسي أول من نعى مفهوم الدّولة الحديثة. فأبو الأعلى المودودي (1903-1979)، الذي يعتبر شكل الدّولة الحديثة نتاجا مسموما للعدوى الثّقافية الأوروبيّة، كما بيّن ذلك في مؤلفه «الوطنيّات المريضة للعالم الحديث» (ص: 31)، ذهب إلى أنّ فكرة الدّولة الوطنيّة هي فكرة سقيمة أفسدت «دار الإسلام»، وبالمثل فكرة الدّولة القوميّة الغريبة عن الإسلام، لما تقسّم البشريّة على أساسه إلى مجموعات عرقيّة وقوميّة غير معقولة، مبنيّة على أساسيْ الإقليم التّرابي واللّغة، في حين يدعو الإسلام إلى رابطة عالميّة تنادي بالأمّة الواحدة وإن اختلفت ألسنتها وأعراقها. معرّجا في الأثناء على طروحات الإسلام السّياسي في التّعاطي مع المكوّنات الدّينية المغايرة للأغلبيّة المسلمة، كونه لم يجترح بعدُ تجديدا عميقا في مفهوم أهل الذّمة. والحال أنّ هذا الموضوع قد شهد اجتهادات جريئة في طروحات راشد الغنوشي وسليم العوا وفهمي هويدي. حيث خلص الأخير في مؤلّفه: «مواطنون لا ذميّون» إلى انتفاء مبرّر تواصل استعمال تعبير أهل الذّمة والذّميين، لأنّه سقط تاريخيّا. ويعود الفضل في تطوّر الفكر الإسلامي الحديث في هذا الباب، إلى صاحب مؤلّف «أحكام الذّميين والمستأمنين» الدكتور عبدالكريم زيدان، الذي ذهب إلى اعتبار أتباع الدّيانات الأخرى مواطنين. وإن مكث الرّأي على حاله في صدّهم عن توليّ رأس الدّولة، فإنّ هناك تراخيا بشأن توليهم وزارات التّفويض لا التّنفيذ.
وممّا زاد في ترسيخ التّوجهات السّياسيّة الدّينيّة في البلاد العربيّة، ما انتهت إليه الطّروحات القوميّة في أشكالها النّاصرية والبعثيّة إلى اِلْتهام الدّولة دون تحقيق أيّة وعود. حيث الدّول محكومة بسياسة أمنيّة عسكريّة ومهمّلة للشّعب، فضلا عن التّسيير الخصوصي للموارد العامّة واحتكار الثّروة من قبل شلّة السّلطة وأعوانها. وهو ما فاقم الزّعم لدى الإسلام السّياسي بأنّ الحلّ الدّيني قادر على الإيفاء بما ينظّم حياة المسلمين، وبالتّالي لا تعوزه حاجة إلى الحضارات والثّقافات الأخرى، الأمر الذي مثّل سببا رئيسيّا لتهميش حركة الإصلاح الدّيني الحقيقيّة وتفريغها من مضامينها. حيث تشكّلت في الوعي الدّيني، وفق ماسيمو كامبانيني في كتاب «الإسلام والسّياسة»، (ص: 18-19)، يوطوبيا مستعادة تذهب إلى أن رسم معالم المستقبل يقتضي النّظر إلى الماضي وإعادة إنتاجه.
وفي حديث المؤلّف عن أزمة الدّولة، يورد أنّ تطور حركة الإخوان المسلمين في مصر جاء نتاجا لفشل الدّولة القوميّة الذّريع في تحقيق الوعود الكبرى بالتّحرر والعدالة والوحدة. وقد كانت الحركة وفق ريدايللي رافضة في مراحلها الأولى لمفهوم الدّولة الوطنيّة ولمفهوم التّعدديّة الحزبيّة، لكنّها شهدت تحوّلا لا سيّما في العقود الأخيرة من خلال الانكفاء على العمل السّياسي داخل القطر الواحد مع بقاء رابطة بين فروعها في جملة من الأقطــار، ومن جانب آخر بات القبول بتشكيل أحزاب سياسيـّة على غرار باقي الأحزاب، ولكنّ الكاتب يرتئي أنّ المراد من الاستراتيجيّة الجديدة الاستحواذ على السّلطة بطريقة ملتوية.
ولكن في سياق تتبّع تحوّلات مفهوم الدّولة يعتبر ريدايللي أنّ مفهوم الأمّة قد شهد مولده مع دولة المدينة زمن النّبي محمد (ﷺ)، وقد دفعت الجماعات اليهوديّة في جزيرة العرب الثّمن باهظا نتاج رفضها الانضواء تحت هذا التّنظيم السّياسي الجديد، لدواع مختلفة (ص: 34). لكنّ التّنظيم السّياسي داخل الإسلام المبكّر والمستند إلى تعاليم الشّريعة احتكم في جوهره إلى آليّات نابعة من واقعه مثل الشّورى والبيعة، وهو ما يمثّل التّعاقد بين الحاكم والمحكوم، مرتئيا ريدايللي أنّ من هذا المأتى استخلص بعض منظري الإسلام السّياسي تواجد «تيو ديمقراطيّة» أي «ديمقراطيّة دينيّة» في نظام الحكم في الإسلام.
ويساير ريدايللي الكاتبَ المغربيَّ عبده الفيلالي الأنصاري أنّ تيسير قبول مفاهيم الحداثة واللاّئكية والعلمنة داخل الفضاء الإسلامي رهين النّظر إليها من داخل العلاقات الدّيناميكيّة التّاريخيّة للعالم الإسلامي وعدم تنزيل تلك المفاهيم من منظور غربي لتفادي سوء الفهم. وفي تعقيبه على ذلك يقول ريدايللي: حين أزمع الغرب، بزعامة جورج بوش الابن، على تصدير الدّيمقراطية إلى العراق، لم يراع البنى الاجتماعيّة السّياسيّة المترسّخة وهو ما جرّ إلى تدمير بلد وتحويله إلى هشيم دولة.
ويزيد في شرح مشكلة تنزيل الدّيمقراطية الغربيّة في غير موطنها من خلال التّعرض إلى إشكاليّة التّمثيل السّياسي في المجتمعات الإسلاميّة. يقول إنّ مبدأ الاختيار عبر الانتخابات لممثلي الشّعب المبني على قاعدة «one man one vote» (لكلّ امرئ صوت) جرى تفريغه من مضامينه. وحتّى في الحالات التي جرت فيها انتخابات كان الفائزون معروفين قبل انتخابهم، كونهم يمثّلون أعلى التّشكيلات الجهويّة والقبَليّة والعشائريّة، ما جعل اختيار الممثّلين على أساس الفكرة، وليس على الولاء القبلي أو العشائري ضعيفا. وحتّى في حالات الفوز افتقر الفائزون إلى النّفوذ داخل تلك الشّروط الاجتماعيّة. وهو ما يجعل التّوازن اللاّحق داخل الهيئات التّمثيليّة مبنيّا على توازن أفقي بين مختلف التّشكيلات ذات الطّابع الطّائفي أو الدّيني أو الجهوي وليس على أساس التّمثيل المجرّد.
وفي استشرافه لمصائر الإسلام السّياسي يخلص ريدايللي إلى سيره نحو الأفول، ويعتبر الأمر عائدا إلى عدم توفيقه في تقديم حلول عمليّة للمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تضرب تلك البلدان، ما جعل الإيديولوجيا الإسلامويّة تزيد من حدّة الاستقطاب السّياسي ومن تمزيق النّسيج الاجتماعي دون توفير حلول عمليّــة. كمــا يورد ريدايللي (ص: 62) أنّ كافة الحركات والأحزاب المتولّدة من الإخوان المسلمين في كافة أرجاء البلاد العربية لا تزال رهينة الرؤى العقائدية للحركة الأم في مصر. والواقع أنّ بعض الحركات قد شهدت تحرّرا من باراديغمات حركة الإخوان على غرار «حركة النّهضة» التّونسية. فكانت مراجعة المواقف الإخوانيّة المتوراثة تجاه التّوجهات القومية واليساريّة واللّيبراليّة والعلمانيّة، بصفتها مواقف غير ملائمة للواقع التّونسي. بدا ذلك محفّزا لظهور خطاب جديد في أوساط الإسلاميّين التّونسيّين ينحو للتّوافق على أساس مدني، ويتبنّى التّعددية، والتّداول السّلمي للسّلطة، والقبول بنتائج الانتخابات، وهو ما لم يكن مطروحا في أوساط الإسلام السّياسي.
كما يرصد ريدايللي عمق الأزمة التي يعيشها الإسلام السّياسي في شقّه العنيف ممثَّلا في تنظيم الدّولة الإسلاميّة الدّاعي للخلافة، كونه رهين أسطورة تعرِضُ غواية تَعِد بالعودة إلى الوحدة الإسلاميّة بأسلوب غير تاريخي ومتجاوز لقدرة التّنظيمات الجهاديّة (ص: 89)، وأمام «الغلوّ الجهادي» يحظّ على ضرورة بذل الجهد للحدّ من الانهيار الحاصل، مع العمل على إيجاد قراءة جديدة تلائم الإسلام مع الحداثة وتراعي التّنوعات الثّقافيّة والدّينيّة داخل تلك البلدان. معتبرا أنّ المخرج الوحيد من المأزق السّياسي الحالي الذي يتخبّط فيه العالم الإسلامي يتمثّل في استنباط رؤى جديدة لاستنطاق الشّريعة وفق التّحولات الاجتماعيّة المستجدّة، وهو أمر ليس هيّنا في ظلّ تشكيك الفكر السّلفي في مشروعيّة مختلف التّأويلات المغايرة من خلال عزلها وشيطنتها.
وممّا يزيد من صعوبة الصّحوة المرجوة الاستقطابُ الشّيعي السّني الذي يعيشه العالم الإسلامي، وهو ما يفاقم من حدّة الانقسامات السّياسيّة والاجتماعيّة الموجودة، وما جعل تصوّر سائد اليوم أنّ العدوّ ليس خارج العالم الإسلامي بل داخله، ولذلك يشكّل الهلال الشّيعي اليوم في مطلع القرن الواحد والعشرين داخل العالم العربي وخارجه أكثر المشكلات المطروحة في الدّول السنّية. معرّجا في حديثه على تقييم نموذجين سياسيّين بارزين في العالم الإسلامي: إيران والعربيّة السّعوديّة، حيث يعتبر الكاتب أنّ النّموذج الإسلامي الإيراني لم يف بوعوده أمام انتظارات الحرّية والدّيمقراطيّة، حيث الدّولة ثنائيّة تمتزج فيها أجهزة ديمقراطيّة مع أخرى غير منتخَبة. في حين من الجانب السّعودي لا يزال إصرار النّموذج الحاكم على رفض أيّ عدوى مؤسّساتية غربيّة مثل البرلمان المنتخب والتّعددية الحزبيّة باسم النّقاوة الإسلاميّة.
يبقى ما يعيب كتاب ريدايللي تحويل صاحبه العالم الإسلامي إلى كارثة سياسيّة شاملة، وهو ما يطمس التّجارب السّياسية الهادئة والرّصينة داخل البلاد العربية وخارجها. فضلا عمّا تتخلّل الكتاب من أخطاء لا سيّما في كتابة بعض المفاهيم الإسلاميّة أو بعض الأسماء، على غرار «أبو حامد الغزالي» الذي يغدو «أبو محمد الغزالي» و«الخلفاء الرّاشدون» الذي يغدو «الخليفة الرّاشدون». فريكاردو ريدايللي هو من جيل الباحثين الغربيّين الجدد الذي يقرأ جلّهم وقائع العالم الإسلامي من خارج إتقان لغاته الأساسيّة، ولعلّ ذلك ما يشي بوهنٍ مشين في الاستشراق الرّاهن الذي تعوزه الأدوات ويعيش على إرث أسلافه.