في الصميم
بقلم |
عبدالرحمان بنويس |
التأليف الفقهي في المذهب المالكي: مناهجه وخصائصه |
مرّ التّأليف في الفقه المالكي بمناهج عدّة، وهي العمدة في النّظر والسّبيل في التّأليف والجمع والتّدوين، وهي لم تكن معروفة نظريّا بقواعدها وضوابطها وشروطها على النّحو المعروف عند أرباب مناهج التّأليف، وإنّما هي وليدة الأحداث والتّطورات، واستجابة لكلّ مرحلة، وبحسب السّياق العلمي الذي نحتته تلك الأزمة.
أوّل مؤلّف في الإسلام:
وقد أكّد نظّار علميْ الحديث والفقه أنّ الموطأ أول مؤلّف في الإسلام، وذلك بعد قطع كافة الشكوك حوله، نظرا لتفرده في بابه ولسعة مادته العلمية ودقة فكر صاحب الكتاب، وقد ثبت عنه أنه وطأه في فترة زمنيّة امتدّت حوالي أربعين سنة إلى أن وصلنا على الصّورة المعهودة المعروفة عندنا في الغرب الإسلامي، وقد تلقّاه علماء الأمّة بالقبول، وشرحوه وهذبوه وأصلوا مسائله وأبرزوا مظاهر قوته، ونحسب أن مع هذا الكتاب برز جليا منهج التأصيلات للمسائل الفقهية، «واعتمد فيه على منهج سليم يعتمد النص الحديثي والأثر المنقول عن الصحابة وأهل المدينة، وعقّب ذلك باجتهاداته الخاصة وترجيحاته»(1) .
انتشار المدارس الفقهية المالكية: اتباع المنهج والخصائص
ومع توسع التلاميذ واكتمال مرحلة الطالب عند الشيخ نـَحَوْا نحوه واقتفوا منهجه في التأليف، فخرجت المدونة والأسدية وغيرها من هذا البحر، وهي نهجت منهج السماعات المدونة وتميزت بزيادات فقهية تأصيلية للإمام مالك لم تكن موجودة في الموطأ، بل هي زينة الموطأ وتحقيقه المكتمل، ومن كثرة التّلاميذ ونهلهم من بحر هؤلاء الشيوخ تعددت عندهم مناهج التدوين، فخصُّوا أنفسهم لتأصيل مسائل الشيوخ معززة بالدليل، والبعض منهم اقتصر على الشرح لغوامض مادتهم أو رغبة في تيسيرها من الناحية التعليمية، فزاد ذلك دقّة علمية من حيث ترصيص الفقه، ورونقا وجمالا من حيث المنهج والشّكل، وتهذيبا ميسرا من حيث التكوين والتعليم، ومما يجب التنبيه إليه، أن أهل الغرب الإسلامي لم يعرفوا مصدرا غير الموطأ نظرا لكونه أول كتاب دخل إليهم وتعارف الناس على دراسته وتدريسه، وللعوامل السالفة الذكر، ومع اتساع دائرة الإنتاج العلمي حوله حصلت التخمة في هذا المنهج في التّأليف، فأصبح من الضّرورة المنهجيّة بمكان بله المعرفية والعلمية وضعَ منهج قائم على تبسيط تلك المادّة وتقديمها في طابع مختصر محبوك محبوب للجميع تأليفا وتعليما، فسلك الفقهاء في ذلك طريق المختصرات وإزالة المستطرد غير النافع مع دليله أيضا، فحصلت حالة من الإعجاب لهذا الإبداع العلمي، إلاّ أنّ النّكبة فيه أوصلت الجميع إلى الجمود والتقليد وظهور مدارس تدّعي اكتمال الدين، وتحريم الاجتهاد في غير ما هو وارد وإغلاق باب الاجتهاد، واستحالة ظهور الاجتهاد المطلق، فأثّر على هذه الواجهة، ممّا تطلّب بذل مجهود مضاعف من أجل النّهضة والانبعاث من جديد، وهو ما حصل رغم ما اعتراه من تخوف وقلة ثقة في مؤلفات تخصصية دقيقة إما في فقه العبادات أو المعاملات أو غيرها مع معالجة نوازلها، وبرزت بذلك مؤلفات المجامع الفقهيّة والمجالس الفقهّية التّخصصيّة فسدَّت – وإن بشكل ضعيف – ذلك الفراغ الحاصل.
التدرّج العلمي في بناء المصادر المعتمدة في المذهب
فالمستفاد من هذا أنّ مجال التّأليف في المذهب المالكي تدرَّج في بناء مسائل الفقه، وكلّ درجة أنتجت منهجا تأليفيّا في الفقه، استوطن البقاع والأمصار، وقد حافظ التّلامذة على ذلك واجتهدوا فيه وطوّروه، وعموما فهي مناهج إنسانيّة خيريّة استفاد منها من أتى بعدهم، ويؤكّد هذا الأمر العلامة شرحبيلي حفظه الله بالقول: «انفرد مجال التّأليف عن العناصر الأخرى المكوّنة لمظاهر ازدهار المذهب بكونه يكتسي صبغة البقاء والاستمرار، فالمؤلّف إذ يؤدّي مهمته في حينه يبقى على مرّ الأيام محافظا على ذلك الدّور ودون انقطاع.
والتّأليف في المذهب وليد تقليد صاحب المذهب نفسه، فالإمام مالك ألّف كتابه الموطأ، وتلاميذه ألفوا علمه المتلقى عنه في مصنّفات جامعة، أبرزها المدوّنة، وهذان الفرعان العلميّان داخل المذهب – فرع الحديث الممزوج بالفقه والآثار المتجلى في الموطأ، وفرع فقه الرّأي المتمثّل في كتاب المدوّنة، على دربهما سار المالكيّة فيما بعد من حيث التّأليف، ومن حيث الاتجاه الفقهي عامّة، فهما امتداد لهذين الاتجاهين الأصيلين في داخل المذهب.
ومع التّطور الطّبيعي لكلّ علم ولمسايرة الظّروف المستجدّة تحوّل النّاس عن هذا الخطّ قليلا، فأصبح التّأليف الفقهي ينحو نحو التّركيز لتظهر بذلك كتب فقهيّة صرفة تخلّصت من أساليب الموطأ والمدونة وإن كانت لا تتعدّى مضمونها...
ثم استجدّ محور آخر في التّأليف الفقهي اقتضته معاشرة وتعايش المالكيّة مع غيرهم من أهل المذاهب المختلفة، فاضطرهم ذلك إلى اقتحام مجال الخلاف الفقهي والتأليف في الفقه المقارن مع ما في ذلك من إثبات اختيارات المذهب والردّ على المخالفين... وقد أثمر هذا الجهد في الأخير مؤلفّات أصبحت المذهب نفسه وصارت رمزه ومرجع المشتغلين به...» (2)
إنّ ما سلف ذكره يفرض علينا طرح سؤال مركّب مفاده، هل التّأليف في المذهب المالكي عرف تطوّرا محمودا، أو غير ذلك؟
تطوّر التّأليف في المذهب المالكي في الغرب الإسلامي
يدرك المتتبع لمؤلّفات المالكيّة حقيقة أنّ التّأليف برز بمناهج متعدّدة، وبرز ذلك من جهتين:
أولا: أنّ السّبب المباشر في ذلك هو كون علماء المالكيّة ومن بينهم علماء الغرب الإسلامي لم يكونوا من المهتمين بالتّقليد، بل كانوا حريصين على الإبداع والتّجديد في التّأليف، وإذا كانت هذه الخاصّية من خصائص الشّريعة فإنّها لم تخف في التّأليف، حيث «لم يجمدوا على منهج هذين الكتابين في التّصنيف (أي الموطأ والمدونة وشروحهما واختصارهما)... بل تطوّرت عمليّة التّأليف تدريجيّا للخروج عن أسلوب المدوّنة المبني على السّؤال والجواب وذكر أقوال الإمام مالك أو القياس عليها، إلى أن وصل الأمر لظهور مؤلّفات فقهيّة مبنيّة على منهج جديد وترتيب وتبويب متطوّر... إلى محاولة تبنّي منهج اجتهادي يضيف إلى الفقه المالكي نفسا جديدا»(3) وقد ذكر أبو الحسن القابسي رحمة الله عليه مبيّنا هذا التّطور في هذه المرحلة بالذّات حينما سئل عن التّجديد فيما ألّفه قدماء المالكيّة وخاصّة محمد بن المواز قائلا: «فصاحبه قصد الى بناء فروع أصحاب المذهب، على أصولهم، في تصنيفه، وغيره. إنّما قصد بجمع الرّوايات ونقل مقصور السّماعات ومنهم من نقل عنه الاختيارات في مشروحات أفردها، وجوابات لمسائل سئل عنها، ومنهم من كان قصده الذبّ عن المذهب، فيما فيه الخلاف، إلاّ ابن حبيب فإنّه قصد الى بناء المذهب عن معان، تأدّت إليه، وربّما قنع بنصّ الرّوايات على ما فيها، وفي هذا الكتاب جدةُ تكلمٍ»(4) فهذا النّص يظهر بجلاء منهج هذا التّطور الذي ظهر بعد المدونة والعتبية، وقد حدث هذا التغيير مع ابن المواز لتحقيقاته الدقيقة وتهذيباته وترجيحاته لمسائل الفقه.
ثانيا: أنّ هذا التّطور من خصائصه الشّمول والموسوعيّة والعالميّة لفقهاء الغرب الإسلامي، إذ برزت عليهم الإحاطة الشّاملة بمحتويات المادّة الفقهيّة في المذهب المالكي، والتّوسع على المذاهب الأخرى، ممّا رغَّب قريحتهم في المقارنة بين المذاهب، وفتح باب الخلاف العالي بعد تجاوز النّازل، وذلك منهج فقهي أصيل في التّأليف لعلماء الغرب الإسلامي اليد الطولى في تأسيسه والبروز فيه، ولعلّ أوائل من أشار إليه كل من ابن عبد البر وابن العربي والباجي وابن جزي الغرناطي وغيرهم، غير أنّ من ألّف فيه ووضع بعض قواعده بشكل مزودج يمتح من النّظر والتّطبيق عالمان وهما:
فالأول: الإمام أبو محمد بن السيد البطليوسي (ت521هـ) في كتابه «الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الخلاف بين المسلمين في آرائهم»، والذي قال في هذا الأمر: «وإنّي لمّا رَأَيْت النَّاس قد أفرطوا فِي التَّأْلِيف وأملوا النّاظرين بأنواع التّصنيف فِي أَشْيَاء مَعْرُوفَة وأساليب مألوفة يُغني بَعْضهَا عَن بعض صرفت خاطري الى وضع كتاب فِي أَسبَاب الْخلاف الْوَاقِع بَين الْأمّة قَلِيل النّظير نَافِع لِلْجُمْهُورِ عَجِيب المنزع غَرِيب المقطع يشبه المخترع وإن كَانَ غير مخترع ينتمي إلى الدّين بِأَدْنَى نسب وَيتَعَلَّق من اللِّسَان الْعَرَبِيّ بأقوى سَبَب ويخبر من تَأمل غَرَضه ومقصده بِأَن الطَّرِيقَة الْفِقْهِيَّة مفتقرة الى علم الْأَدَب مؤسسة على أصُول كَلَام الْعَرَب»(5) .
أما الثاني: الإمام أبي الوليد محمد بن رشد (ت595هـ) في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» والذي يقول في هدف تأليفه: «فإنّ غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتّفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتّنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يردّ على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشّرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشّرع، أو تتعلّق بالمنطوق به تعلّقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميّين من لدن الصّحابة - رضي الله عنهم - إلى أن فشا التّقليد»(6).
وبحقّ، فهما كتابان لوضع ضوابط الخلاف العالي، ومن لم يدرك مرامي هذه القواعد فهو يتجنّى على الفقهاء ويتعدّى على اجتهاداتهم ويسقط من مجهوداتهم وعلمهم.
وقد أبان فيهما ذكاء وفطنة علماء الغرب الإسلامي في إنتاج منهج في التّأليف يسعى إلى دمج المناهج الأخرى لكن بمنطق علائقي، أي بدراسة المذهب المالكي وتفصيل مسائله مقارنة مع المذاهب الأخرى، وإضافة الاجتهادات والتّرجيحات الخاصّة بكلّ مؤلف بحسب قوّة الدّليل أو الرّأي المستدلّ به.
وممّا أسهم أيضا في تطوير التّأليف في الفقه المالكي في الغرب الإسلامي هو ظهور منهج خاصّ بالنّقد والتقويم لمؤلفات سالفة، واختصّ مؤلفوها في التّنبيه على مواطن الخلل الذي وقع فيها الأوائل، وتفصيل مزيد بيانها في شأنها، «وهذا العمل في حدّ ذاته يقدم خدمة جليلة للفقه المالكي، لأن مراجعة النفس والنقد الداخلي أمر إيجابي في كل عمل»(7)، ومن النماذج التي تبين هذا المنهج:
- «مختصر الواضحة» لفضل بن سلمة المتوفى 319هـ
رد قاسم بن محمد بن سيار على ابن مزين، ويحكي محمد بن لبابة قصّة هذا الرّد فيقول: قال لي قاسم بن محمد: «عند من تطلب العلم؟» قلت: «عند العتبي وابن مزين وغيره»، فاستحسن ذلك منّي ثمّ قال: «هل من وضع جديد في الفقه لأحد أصحابنا؟» فقلت: «نعم، لابن مزين كتاب يقال له: المستقصية»، فعجب من الاسم... فقال: لوددت أن أرى منه شيئا، فأتيته بتمامه، فألف كتابا نقضه فيه، وأبان فيه جهله بالحديث وبطرائق الحجة، ثم إنه دسّ إليه رجلا فأوهمه أن علماء مصر بعثوا معه إليه بالكتاب، فأمر ابن مزين بعد ذلك طلبته بتصحيح ما انتقد عليه»(8).
فالمستفاد من هذا النّص أنّ الفقهاء في الغرب الإسلامي كانوا يسألون عن الجديد في التّأليف عند علماء العصر، ولهم شوق للاطّلاع على منهجهم ومعرفة محتويات قريحتهم، كما أنّهم حريصون على التّصحيح والتّعقيب حين صدور أيّ كتاب، وخاصّة لمن توفّرت فيه شروط التّقويم والنقد، مع التّوجيه الصّحيح بدليله المشروع.
- تأليف محمد بن عمر ابن الفخار المتوفى (419هـ) «كاختصار كتاب النوادر والزيادات» فردّ عليه في بعض المسائل، كما له كتاب «التّبصرة» وهو أيضا في الرّد على ابن أبي زيد.
ولما انتهى قرن النّقد في المائة السّابعة، انتقل الاجتهاد إلى منهج الاختصار، وإن لم يكن هذا المنهج حديثا إلاّ أنّ الإضافات التي خلّفها الفقهاء كانت نوعيّة، وخاصّة مع ابن أبي زيد القيرواني في رسالته والبادعي وغيرهم كثير.
لكن الذي برز في الواجهة وعرف بذلك هو الشّيخ خليل المصري وابن عرفة ومن نحا نحوهما من الفقهاء، إذ تميّز منهجهم بالاختصار في العبارة، والتّكديس في المعنى، فالمختصر عندهم ليس للمبتدئ، وإنّما للمنتهي الرّاغب في تذكّر رؤوس الأقلام وتفسيرها بما جادت به قريحته من التّأصيل والتّفريع. وحسبنا هذه الإطالة السّريعة. وليس من الحكمة التّفصيل في كلّ شيء، وإنّما المقصود ما تحصل به المنفعة ويدرك به المثال، والإشارة إلى موطن البحث للرّاغب في الاستطالة والحفر. والله أعلم
الهوامش
(*) بإشراف وتوجيه: د.لحسن أشفري أستاذ التّعليم العالي بكلّية الشّريعة جامعة ابن زهر بأكادير «تخصّص الفقه وأصوله»
(1) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي للدكتور محمد بن حسن شرحبيلي ص297.
(2) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي للدكتور محمد بن حسن شرحبيلي طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية 2000م ص296-297.
(3) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي ص304-305 بتصرف يسير.
(4) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض 4/169.
(5) الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف لأبي محمد بن السيد البطليوسي (المتوفى: 521هـ) تحقيق: د. محمد رضوان الداية دار الفكر – بيروت، الطبعة: الثانية، 1403هـ ص28-29.
(6) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد محمد بن رشد القرطبي الحفيد (المتوفى: 595هـ) دار الحديث – القاهرة، بدون طبعة، 1425هـ - 2004 م 1/9.
(7) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي للدكتور محمد بن حسن شرحبيلي ص312.
(8) أخبار الفقهاء 87 نقلا عن تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي للدكتور محمد بن حسن شرحبيلي ص312
|