الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح (2) السياسي المثقف و المثقف السياسي: تكامل أم تناقض

 

إن النخبة المثقفة بما هي الفئة التي تنتج الرموز الثقافية وتنشر معيارية القيم والآفاق المعرفية، لا تبعث في فضاء إقليدي متجانس أو توجد فوق الأحداث، بل تساهم  الأحداث الخارجية في إثارة قدرتها على الإجابة وتقديم الحلول، دون أن تكون الإجابات مجرد استجابات ميكانيكية. مثلما يرى البعض وكأن صدمة نابليون كحدث عسكري هي القادحة للإرث الإصلاحي في البلاد العربية عموما وفي تونس خاصة، رغم أهمية الحدث وزخمه واستتباعاته المؤكدة. لا يمكننا التغافل أن العديد من السياسيين احتكوا بأنظمة أوروبا ونخبها قبل أن تطأ أقدام نابليون أرض مصر من خلال الزيارات والسفراء (المبعوثين)، ففي البلدان المغاربية كان هناك احتكاك مع البلدان الأوروبية عبر السفراء الذين كانوا يعودون إلى بلدانهم فينقلون ما شاهدوه وما تابعوه هناك. فالزيارات والتفاعلات مع فرنسا والأفكار التنويرية و الحداثية كانت كثيفة، ففي أربعة سنوات مثلا زار خير الدين باشا كمبعوث للباي أكثر من 12 بلدا أوروبيا. وقد انبهرت البعثات (العلمية – الدبلوماسية- التجارية...) بالتقدم الأوروبي علميا وتقنيا وسياسيا، واعتبر كل من خير الدين التونسي وابن أبي الضياف أن التقدم التكنولوجي وبنية النظام السياسي هي السبب و المسبب في تقدمهم ، ورأوا أن ازدهارهم وتطورهم ناتج عن معايير سياسية ونواميس الحرية لديهم. فهاجس الإصلاح ناتج عن شعور بخطورة الأوضاع وحالة الضعف الشامل، في مقابل الآخر"المتحضر" و"المتقدم"، أي لعب استحضار الآخر/ الأوروبي دورا هاما في رصد المتغيرات الجديدة عبر مقارنة أوضاع البلاد التونسية ونظامها السياسي بأوضاع أوروبا وأنظمتها.

و قد انطلق خير الدين باشا (1823-1890) من مسالة الحرية في أوروبا ليبين أنها كانت أساس الحضارة الحديثة، حيث كتب بأن " الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروبية"(1) ،مدعما موقفه بالحديث عن نتائج الحرية وثمارها" وقد رأينا بالمشاهدة أن البلدان التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران هي التي تأسست بها عروق الحرية"(2)  . بل وعرض أمثلة تحذيرية في صورة انعدام الحرية في المملكة بأن" تنعدم منها الراحة والغنى، ويستولي على أهلها الفقر والغلاء، ويضعف إدراكهم وهمتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة"(3) . و لا يتناول خير الدين مسألة الحرية بمعزل عن النظام السياسي بل هي سنده ومبناه، مقارنا بين بنية النظام السياسي الأوروبي والنظام القائم في العالم الإسلامي وأساسا تونس، مدافعا عن أهمية تحديث النظام السياسي بإنشاء التنظيمات أو بلغتنا المؤسسات اللازمة. ناقدا المعارضين لهذا الإصلاح، معتبرا أن لديهم مصالح يحافظون عليها و إحساسهم بخطورة هذه التشريعات الدستورية على منافعهم " ممن له فائدة في التصرف بلا قيد ولا احتساب..."(4)  ، و أن رجال الدين سعوا لإفشال هذه التجديدات السياسيـــة بـــــأن" دسوا للعامة من قول الزور والغش ما ينفرهــم من الإصلاحات مثل قولهم "هذا شرع جديد مخالف لشريعة الإسلام"(5)  . فالحداثة الأوروبية حددها من مدخل السياسة أساسا، في ركنيها الحريات والمشاركة الشعبية، وتجاه ذلك حدد تخلف البلدان العربية والإسلامية بسيطرة الأسلوب الاستبدادي في الحكم. ويلتقي في ذلك مع ابن أبي الضياف في اعتباره أن شدة الملك القهري بعباراته تفضي إلى "الزهد في حب الوطن والدار"(6)  ، وأن وهن المسلمين راجع لكثرة ممارسة المجابي وابتزاز الجهد الاقتصادي أي أنه انفتح على نقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة.

ونحن لا نود عرض المضامين الإصلاحية لهذين المصلحين الكبيرين، بل مجرد إشارة إلى بعض الأفكار الدالة في عملية الإصلاح العام، فالمشروع الإصلاحي في تونس وإن تمحور حول الجوانب السياسية، فإنه ينبني على نوع من التكامل بين المكونات الإصلاحية و الاجتماعية والتعليمية والعسكرية،. و شمل المد الإصلاحي أسماء عديدة مثل سليمان الحرايري كأول من نادي بتحرير المرأة منذ سنة (1849) وكانت له الجرأة في الدعوة إلى النهوض بأوضاع المرأة قبل طاهر الحداد بقرابة مائة عام. وعرفت المراحل السابقة و الموالية العديد من المثقفين والمصلحين مثل يوسف جعيط  وإبراهيم الرياحي وعبد العزيز الثعالبي و بيرم التونسي و سالم بوحاجب ومحمد السنوسي والطاهر بن عاشور ومحمد علي الحامي والطاهر الحداد.... وساهم العشرات من المثقفين في الإصلاح العام وإثراء الفضاء الاجتماعي التونسي بأفكار وقيم ودلالات ومعاني، وهذا  التنوع ارتقي في نظرنا بهؤلاء المصلحين إلى مستوى النخبة المثقفة في معالجة الاستبداد وصداه التخلف.

ونعتقد أن هذه النخبة اقتربت من مفهوم الانتلجنسيا أو النخبة بمفهومها الروسي (7) والتي تعني"المجتمع المفكر" في مقابل الأغلبية غير المتعلمة. ومثلت النخبة الإصلاحية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين انتلجنسيا تونسية بما أنتجته من أفكار وما صنعته من أراء ثقافية واتجاهات فكرية وقيم أساسية وتطلعات إصلاحية، وما أسسته من مؤسسات داخل النسيج المجتمعي من مدارس( بما فيها مدارس للفتيات) ومكتبات عمومية وصولا إلى نقابات وتجمعات عمالية. مشكلة مفصلا محوريا في الوعي الإصلاحي ومقدمات نظرية تأسيسية لمبادئ ومفاهيم بنيت عليها لا الدولة الحديثة فقط، بل غذت وتغذي نخبة متعلمة مستنيرة تنتج الثقافي وتديره. وانتجت هذه النخبة حقولا متنوعة للتصرف في أنظمة التداول الرمزي والقيمي والثقافي، اقترابا وابتعادا من السلطة، احتكاكا واجتنابا من الدولة السائدة، خدمة ونقدا وتفاعلا مع الأنظمة السياسية القائمة.

وما يؤكد ذلك ما ذكره  ديمرسمان (8) أن المصطلحات التي يستعملها كل من ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي و بيرم الخامس في كتبهم تدل على بداية تكون وعي فلسفي- سياسي جديد يقوم عليه مشروعهم الإصلاحي، ويتركز حول مفاهيم القطر والوطن والاستقلال ، و يجمع المهتمون بتاريخ تونس الحديث والمعاصر على مشاركتهما الفعالة في تشكيل الوعي الجمعي للتونسيين بأنفسهم وبالعناصر المكونة لنقاشهم ولاجتماعهم السياسي والاجتماعي. و نجد العديد من الإشارات في أجزاء الإتحاف الستة مثلا تعبيرات ضمنية وصريحة عن" إحدى دعائم مشروعه الإصلاحي والمتمثل في مفهوم الأمة القطرية مشددا على

التميز التونسي.(9)

لكن النقد الذي يمكن أن يوجه خاصة لخير الدين وابن أبي الضياف، يمكن اختزاله في أربع مفارقات:

المفارقة/  القلق الأول: حين يكتب الإصلاح السياسي بعد مغادرة مواقع المسؤوليات ، على أهميته وحيويته الإصلاحية والنهضوية، يحيل إلى مفارقات إيتيقية وهي عائق أساسي من عوائق النخبة في تونس، بمعنى لماذا  كتبت المشاريع الإصلاحية بعد الخروج من السلطة ومن أروقة الحكم؟ لماذا صيغت الإصلاحات كما عبر عن ذلك ابن أبي الضياف  "كتبته والشبيبة ولت والقريحة كلت والقوى ألقت ما فيها وتخلت"؟،(10)  لماذا هذه المخاتلة مع السلطة السياسية، و هذا الاقتراب والابتعاد والابتعاد والاقتراب؟ لماذا ترى هذه النخبة أن الإصلاح لا يمر إلا عبر بوابة الحكم/ الحاكم؟

المفارقة/ القلق الثاني: النخبة ممثلة في خير الدين وابن أبي الضياف كعينة لا تمثل انشطارا بين أفق تحديثي وأفق تقليدي كما يرى المنصف وناس (11) بل إن كل منهما  لازال في سجل تقليدي فهما يتفقان في نقد شيوخ الدين وممارستهم، لكن دون التطرق إلى إصلاحات تجديدية تخص التشريع الإسلامي أو التفكير الإسلامي إلا من زاوية تجذير الإصلاحات في النص الديني والبحث عن مسوغات لهذا الإصلاحات. وهي مصادرة نراها غير ناجعة، فالإصلاحات المقترحة لازالت تراوح في أفق تقليدي دون أن يعاد النظر في المسلمات المتعلقة بالمفاهيم القرآنية ودراستها من جديد على أساس من الفهم النقدي والتاريخي والعقلاني. فقد اكتشفت الحداثة كما "يكتشف المنقب معدنا ثمينا لا تهمه سوابق المعدن، من حيث التطورات الجيولوجية وتاريخ طبقات الأرض،(12)  فهم يتعاطون مع التحديث كما تؤخذ المواصفات  أو القواعد الاستعمالية، ولا يسألون المبادئ النظرية التي أسست عليها، أي أن الإصلاحات لا يمكن أن تشمل المؤسسات  وتغيير الهياكل التقليدية ،دون أن تمتد للنظر في البنية الذهنية وأسلوب التفكير.

المفارقة/ القلق الثالث: رغم  حيوية الإصلاحات وأهميتها فإنها لم تكن بالأثر العميق والشامل- أو دون المنتظر- لأن هذه النخبة عايشت قلق الكماشة بين سلطة غاشمة ومطلقة وسلطة فكر ديني تقليدي ومجتمع غير متعلم في غالبيته ليتسنى له مواكبة الإصلاحات وممارستها، و تركزت الإصلاحات في السياسي والتعليمي مع  قلق حذر من المعالجة الإصلاحية لمدونة التشريعات الأسرية ومنزلة المرأة ودورها.(13)  

المفارقة/ القلق الرابع: تأسيس المؤسسات الحديثة دون النظر في طبيعة علاقتها بالمؤسسات والتنظيمات التقليدية، هل كان من الممتنع أصلا تطوير هذه التنظيمات القائمة؟ هل انتهت صلوحياتها التاريخية ووظيفتها الاجتماعية والثقافية؟ هل منعت حالة الانبهار والاحتفاء بمؤسسات الخارج/الآخر من تطوير مؤسسات الداخل ؟ ألا يدلنا ذلك عن حس إصلاحي عام أو وعي حسي ومعاين للأوضاع لا يرتقي إلى مستوى المفهمة؟ و بالتالي ما أهمية الإقرار بنخبة إصلاحية مند بدايات القرن التاسع عشر؟

تبدو حيوية النخبة في تفطنها للضرورة التاريخية للإصلاح إلا أن سياقات موضوعية وظروفا ذاتية حالت دون انجاز الإصلاحات،منها ضعف السنــــد الثقافــــي للفئات الاجتماعيــة وهيمنة الفكــر المحافظ.

 وارتقى هؤلاء المصلحين إلى مستوى النخبة لأنهم عبروا بشكل غير مباشر عن تخوفهم من صهيل البنادق القادمة من الشمال، وكانت لديهم قيمة استثنائية في اقتراح البدائل وصياغة المقاربات وبناء المؤسسات (المدارس التعليمية والعسكرية)، إلا أن الاستعمار الزاحف عطل الإصلاحات وغير أولوياتهم. فالإشكال السياسي هو الذي انبثقت منه وحدة معنوية بين المصلحين، بما أنها منتجة للأفكار عبر قلق بلورة مواقف سياسية تضامنية معينة، وتكوين رأي عام مساند  للإصلاحات، فالمثقف- النخبة، وبدقة انتقل المثقفون من الحضور الفردي والذري إلى مجموعة موحدة أو انتلجنسيا تحرك الجامد وتقطع الرتابة وتخترق الضغوط. و إذا جاز لنا الحديث عن انتلجنسيا، فقد برزت في رموز ولم تتشكل بشكل نهائي وبصفة متجذرة سوسيولوجيا ، بل ساد خطواتها الإصلاحية التناقض والتردد والخوف والانبهار والمحافظة إلى أن دق الاستعمار الأبواب.

عموما شكلت الإسهامات الإصلاحية للقرن التاسع عشر منبتا ومحضنة خصبة لفكر إصلاحي نوعي وثقافة تجديدية غذت الحركة الوطنية في مرحلتي التحرر الوطني و مرحلة ما بعد الاستقلال، وأكدت أن السياسة بما هي نقد للاستبداد والقهر وإعلاء لقيمة الحرية والمشاركة والتنمية السياسية. وهو ما يرتفع بالممارسة السياسية إلى مستوى الخطاب ونظام المعرفة السياسية ويجذرها كمرجعية محددة ومؤطرة لكل نفس إصلاحي،ويتبين أن المثقف لا ينفصل في تحديد وظيفته و منزلته عن نوعية تدخله في الحقل السياسي وفضاء التداول الثقافي. و هنا يطرح سؤال منهجي مثير، إذا ما تكونت الأنتلجنسيا في صميم الجدل السياسي، فكيف يمكن أن تتحرر منه؟ وكيف يمكن أن تتحرر النخبة الإصلاحية أو المثقفة من السياسة في بلد يختلط فيه السياسي بالثقافي أو يحدده ويوجهه ويلاعبه ويوظفه ويناوره ويناور به ويراوغه؟

 -----

(1) - خير الدين، التونسي. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986،ص60.

(2) - نفسه، ص 60.

(3) - نفسه، ص61.

(4) - نفسه، ص62.

(5) - نفسه، ص 63.

(6) - أحمد، ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وعهد الأمان، "دولة أحمد باي"، تحقيق أحمد عبد السلام، منشورات الجامعة التونسية، تونس، 1971، ج 6، ص. 84.

(7) - نشأ مفهوم الأنتلجنسيا في روسيا مع اتساع دائرة تيارات فكرية وفلسفية وأدبية وسياسية جديدة تتمحور حول الحرية والديمقراطية والتطور، معبرة عن فئة تنتج الأفكار والقيم، وهي تعني مجمل المثقفين في وضعية تتميز بجمهرة غير مثقفة وسلطة متشددة.

-(8)Demeerseman, A. « Formulations de l’idée de patrie en Tunisie (1837-1972) : analyse des données linguistiques, in IBLA, T 19, 1966, pp.35-71.

(9) - نفسه، ص 35-71.

(10) -  أحمد، ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وعهد الأمان، "دولة أحمد باي"، تحقيق أحمد عبد السلام، منشورات الجامعة التونسية، تونس، 1971، ج 6، ص. 84.

(11) -  المنصف، وناس. المشاركة السياسية في المغرب العربي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1990.

(12) -  عياض،بن عاشور."العالم العربي الدولة وحقوق الإنسان،تأملات في الشرعية والثقافة والدولة الغفارية"بالفكر العربي المعاصر،عدد72-73،1990،ص.52-61.

(13) -  نفسه، ص 52-61.