فواصل

بقلم
د.ناجي حجلاوي
المطالب العالية «دواعي المبحث وآفاقه 2-2»
 الخــاتـمة
حاول هذا البحث تقصّي معالم الجدل الحاصل بين النّقل والعقل في التّفكير الدّيني وتحديد مظاهر الحوار الدّائري بين الرّواية والدّراية ‏عبر تحسّس المرتكزات الفكريّة لكلّ من المفسّريْن الطّبري والجبّائي وما انبثق عنها من توجّهيْن في التّفسير، فبدا التّمايز بين نظاميْن معرفيّين ‏يدرسان عقيدة واحدة، أحدهما يعتمد النّظر، والآخر يعتمد الأثر. فبدا صاحب النّظر معرضا عن التّقليد لأنّ طبيعة النّظر تنهض على الدّليل، ‏وظهر صاحب الأثر متّبِعا لأنّ الأثر يستتبع التّقليد، وقد تضمّن تفسير الطّبري مجهودا كبيرا يتمثّل في استقصاء ما قاله المفسّرون قبله، ‏فاضطلع بدور تجميعيّ وتوثيقيّ، ولذلك نجد آثار النّقلة الّتي خطتها الثّقافة العربيّة من وضع المشافهة إلى حال المكاتبة، إلاّ أنّ هذه النّزعة ‏التّجميعيّة تبدو متضمّنة لبوادر تنبئ بعصر الجمود الّذي ستعرفه الثّقافة العربيّة في عصور تالية حيث يخيّم التّقليد ويُكتفى بالمجهود الأدنى ‏المتجسّد في الموازنة بين الآراء المتوفّرة دون إضافة أو تجديد. في حين أنّ الجبّائي قلّما يأخذ في تفسيره عن غيره أو يحيل عليه.‏
وإذ كشف التّفسيران عن محاولتيْن مختلفتيْن أحيانا ومتّحدتيْن أحيانا أخرى في توضيح المعاني القرآنية، فإنّه لم تتحقّق لأيّ منهما ‏المطابقة بين نصّ المفسّر ونصّ التّفسير، وهي عمليّة لا يمكن لها أن تتمّ بصفة كلّيّة وإن ادّعت ذلك. ومن هذه البوّابة دخل التّأويل وشُرّع له ‏وهو إن انطلق من النّصّ وعاد إليه، فإنّه يحقّق نتائج تبتعد عن النّصّ الأصليّ وإن تفاوتت النِّسب، فلا قراءة تمسك بحقيقة النّصّ، إذ النّصّ ليس ‏من السّهولة حتّى يهب نفسه بضاعة مجزاة ومعطى جاهزا لمفسّره أو قارئه، وهذه السّمة تميّزه عن المُعطى الفيزيائي الجامد.‏
لقد تساوى الطّبري والجبّائي في مستوى الخضوع لمسلّمات عقائديّة وأصول نظريّة كالأخذ بالرّوايات والأخبار أو التّنـظير في نطاق ‏مقولاتها الّتي وقع الإقرار بها سـلفا لتبريرها وتأصيلها والبرهنة على صحّتها، ممّا يخوّل لنا إرجاع عمليْهما إلى أنماط ثلاثة هي: فقه الأحـكام ‏الشّرعيّة وذكر وقائع السّيرة النّبويّة والتّعرّف على القصص، إلاّ أنّهما توصّلا إلى نتائج مختلفة في مستوى الرّؤى، فإذا غذّى الأثر المخيال فقد ‏غذّى النّظـر الاستدلال، وهـكذا يتجلّى أنّ تفسير النّصّ يتلوّن بحسب الخلفيّة النّظريّة الّتي ينطلق منها المفسّر، فالنّصّ عموما ليس بناء ناجزا ‏يتركّب من أجوبة جاهزة عن كلّ سـؤال، ولكنّه إمكان في التّفكير تتعدّد مداخله وسُبله وأبعاده وهو ذو طاقة على الاستجابة لكلّ مقاربة، وعليه ‏فهو لا يحقّق وجوده إلاّ داخل الأذهان، وبحكم طبيعته هذه يتسنّى لكلّ قارئ أن يجد فيه مبتغاه الّذي ينسجم مع ميوله واختياراته القبْليّة.‏
ومن هذا المنطلق يتسنّى للدّارس أن يلحظ أنّ الفرق بين تفسيري الطّبري والجبّائي كامن في طريقة الآداء ولكلّ منهما تصوّره الّذي ‏يصدر عنه العمل التّفسيريّ، فالأوّل يركّز على ظاهر النّصّ وأسباب نزوله وطريقة السّلف في فهمه وتناوله، والثّاني يستند إلى المجاز ‏والاستعارة، فيؤسّس بذلك إمكانا للحقائق عبر الفهم والتّدبّر، فيتّضح في القيل القرآني الفارق بين ما جاء به وما جاء من أجله انسجاما مع ماهيّة ‏النّصّ الّذي لا ينطق بكلّ الحقيقة وإنّما يرسم السّبيل المؤدّية إليها، فوراء ما صرّح به من مضامين يقوم منهج هو على الاستمرار أقوم وأدوم، ‏وإذ لم ينتبه المفسّران إلى هذه الحقيقة فقد كرّسا جهودهما إلى توضيح ما غمض من معاني الآيات، فوقعا في محاذير بغضّ النّظر عن مدى ‏وعيهما بها، فقد عمّق الطّبري اتّجاها واحدا في الفهم هو الّذي التزم به أهل السّنّة انطلاقا من تبنّيه أطروحات قدّمها على أنّها ترضي جميع ‏المسلمين، كما التزم الجبّائي في تفسيره الوفاء لقواعد المذهب الّتي تظلّ ضيّقة مهما اتّسعت رغم أنّ المفسّر قد فتح منافذ للمعنى عبر التّدبّر، ‏فوجد البرهان مجالا حيويّا كي يتحقّق فطال أغلب المجالات الفكريّة حتّى ما تعلّق منها بالله ذاتا وصفات، ولذلك فسح المجال أمام البراهين كي ‏تتقارع لإثبات سلطة العقل.‏
إنّ المعتمد على النّقل قد يجمع بين الغثّ والسّمين فيما يقدّمه من تفسير وتنظير بما يعتريه من وضع وما يتلبّس به، كما أنّ العقل ‏مرتهن بشروطه التّاريخيّة ومعرّض للوقوع في التّمزّق والاضطراب تحت صدمة المثاقفة، ومن هنا وجب تعهّد المعرفة المترتّبة عنهما بالمراجعة ‏النّقديّة، وهذا الإجراء يتساوق تماما مع ما يتميّز به العقل من قدرة فائقة على مراجعة ذاته لتلافي هذه النّواقص فهو بطبيعته المتحرّكة ينسِّب ‏الحقائق ويرفض الحلول النّهائيّة بما يطرحه من أسئلة مستمرّة تحدّ من إكراهات التّعصّب الأعمى، إنّه كما يرى نصر حامد أبو زيد يتعامل مع ‏الواقع والعالم والنّصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجدّدة قابلة دائما للاكتشاف والفحص والتّأويل، ومن خلال هذا التّجدّد وهذه الحركة يتجدّد ‏العقل ذاته وتتطوّر آليّاته ويستمرّ في جدل مثمر وخلاّق (1)‏.‏
ولقد شكّل التّفسير بشقّيْه، السّنّي والمعتزلي، رغم اختلاف الآليّات المستخدمة فيه، فضاء متناغما بما فيه من تصوّرات وتأويلات قد ‏تتآلف بالقدر الّذي تتخالف، وهو في الحالتيْن ليس بمنجى من مزالق كالوقوع في الإسقاط أو الهروب بالنّصّ بمقتضى بعض الدّلالات اللّغويّة ‏المتوارثة أو الانصياع الكلّي لضغط النّصّ المفسَّر فينجرّ إلى الفهم الحرفي أو الجري وراء ما يبرّر نماذج مسبقة. 
فالآثار المنقولة والأخبار ‏المرويّة الّتي قلّ ورودها في تفسير الجبّائي وتزايدت في تفسير الطّبري، إنّما مارست هيمنتها في تشكيل الوعي الدّيني عبر العصور، فتزايد ‏الاعتقاد فيها وتعاظم الخضوع لها بمفعول التّقليد والانقياد الأعمى اللّذيْن يحولان دون الانتباه إلى المحاولات المستطرفة في مقاربة النّصّ ‏القرآني، فكانت بُؤَرًا مضيئة ثني التّراث الدّيني كالجهود الّتي بذلتها بعض الفرق كالمعتزلة وعلى رأسها «أبو عليّ الجبّائي»، وخاصّة في غربلة ‏الأخبار والتّشديد على صحّتها والجنوح بالنّصّ القرآني إلى إنتاج المعاني غير المعهودة.‏
وإذا كان المنهج النّقلي سببا في التّقليد والاتّباع بالحرص المتزايد على التّشبّث بالسّلف وأفهامهم وتجاربهم، فإنّه قد تسبّب بما لا يدعو ‏إلى الشّكّ في تعميق الهوّة من خلال إهدار السّياقات التّاريخيّة الّتي تفصل بين المرحلة والأخرى، فإذا كان الكلام الإلهي يتمتّع بطاقة متجدّدة، ‏فتح بواسطتها فضاء واسعا وغنيّا من أجل تأسيس مفكّر فيه، فإنّ التّقليد والاتّباع قد أغلقاه فاختُزل فيما يدعى باللاّمفكّر فيه(2)، ممّا يزيد من ‏حجم المسؤوليّة الّتي تُثقل كاهل الدّارسين كي يجدّدوا النّظر فـي هذا الموروث الثّقافي في ضوء ما يُستجدّ من المناهج الّتي تخوّل للنّظر أكبر ‏مساحة ممكنة للتّفكير الحرّ المتخفّف من أعباء النّقول والمرويّات عن الرّسول والصّحابة والتّابعين الّتي هي في أغلب الأحوال ضعيفة أو ‏منحولة وهي بذلك ظنّية الدّلالة غير قطعيّة الورود، ممّا يجعلها غير مؤهّلة لأنْ تُعتمد في التّفسير، ولعلّ قولة الشّافعي تنطبق تمام الانطباق ‏على هذه الفكرة حين قال:« مَا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ فَرْضٌ »(3)‏. فيضحى القرآن، حينئذ، معيارا تُعرض عليه الأحاديث ‏والآثار، فما وافقه أُخذ به، وما لم يوافقه تُرك. ويبدو أنّ هذا المدخل هو السّبيل المؤدّية إلى اختراق القيود الّتي تضعها المدارس العقائديّة ‏والفقهيّة الموجّهة للتّفسير لتجاوزها نحو فضاء النّصّ الأرحب حيث يكون الدّارس منضبطا بمقتضيات المنهج العلمي بدلا من الخضوع للآثار ‏والأخبار وأقوال السّالفين التّي تطرح بدورها محنة جديدة، على حدّ عبارة «خليل أحمد خليل»، تتمثّل في كيفيّة نقل الموروث إلى العقل الحي.(4) ‏
ولعلّ من مزايا هذه المناهج هي تسليح العقل بأدوات ناجحة في إعادة إنتاج المعنى ومعنى المعنى لمسايرة متطلّبات الحداثة ‏والانخراط في سيرورتها، يقول «عبد المجيد الشّرفي» في هذا الصّدد: «  إنّ الوفاء للإسلام في نظرنا يكون بالحرص على جعله دينا منفتحا، ‏بالمفهوم البرغسوني كذلك، يجرؤ أتباعه على تجديد التّأويل لنصوصه بما يراعي روحها والحكمة منها»‏(5)‏.‏
ولكنّ الانفتاح على المناهج الّتي من شأنها أن تجدّد الفهم ليس بالأمر الهيّن، فالتّحوّل الثّقافي ليس رهين قرار فرديّ يسنّه فرد بعينه ‏وإنّما هو مشروع جماعي يتّجه نحو التّخفيف من ضغط المنظومة التّقليديّة في التّفكير الّتي تعتبر أنّ التّفاسير الموروثة هي الإسلام. إنّ هذه ‏المناهج إذا باشرت الخطاب القرآني المتمتّع بطاقات دلاليّة واسعة فإنّ الحاصل الفكريّ سيكون أصيلا وإن عدّه الغافلون من قبيل الكلام في ‏الدّين بكلام هو ليس من الدّين، قياسا على تعليق الأعرابي على حديث النُّحاة المتمثّل في قوله: «إنّكم تتكلّمون في كلامنا بكلام ليس من كلامنا»، ‏ومعناه إحداث لغة جديدة في لغة كانت قُرّرت بين أهلها(6)، ومن المهمّ أن يتساءل المرء في خاتمة دراسة كهذه عمّا بقي مجديا من هذه ‏الجهود التّفسيريّة، وإلى أيّ حدّ يمكن اعتبارها قادرة على أن تُسحب على عصر غير عصرها؟
وقبل الاسترسال في الإجابة عن مثل هذه المسألة نشير إلى أنّ طرحها نابع بالأساس من الإيمان بأنّ مدّ الجسور مع الماضي إذا لم ‏تقم على أسس قويمة وصحيحة فإنّه ينعكس سلبا على العلاقة بالحاضر والمستقبل، وعليه فإنّ التّفسير بما هو إنتاج بشريّ ليس له إلاّ أن يكون ‏ابن بيئته المشروط بظروف مخصوصة، وحسْبه أن يجيب عن الأسئلة الّتي تطرحها ثقافة عصره، فالأصل في إنتاج المعنى أن يتعلّق بشواغل ‏اللّحظة الّتي يعيشها المفسّر لا أن ينشدّ إلى معاناة تفسيريّة قد مضى عصرها، فإحياء التّراث يتّخذ معنى مجديا ومفيدا إذا رُبط بالقضايا المعيشة ‏ضمن مجريات الحياة اليوميّة في حاضر النّاس حيث الحياة المتدفّقة فكريّا ووجدانيّا في جهود متظافرة لقراءة الموروث الثّقافي وإعادة ‏قراءته(7). فالقضيّة المطروحة في يومنا هذا على المسلمين، على رأي «عليّ مراد»، ليست مقتصرة على فهم الخطاب القرآني فحسب وإنّما ‏تتجاوزه إلى  تحديد مجاله الدّقيق في واقع المجتمع المعيش ولا سيّما فيما يتعلّق بتنظيمه الاجتماعي والسّياسي(8)‏.‏
ولقد مثّلت التّفاسير المتوفّرة فهما مؤقّتا ونسبيّا وتاريخيّا، وما التّفسيران المدروسان إلاّ من هذا النّمط التّراثي المقيّد بأطر مذهبيّة قديمة ‏وقيمته إنّما تكمن لا في محتواه العلمي، بل في قيمته التّوثيقيّة وهو موروث فيه من الوهم أكثر ممّا فيه من الحقيقة، على حدّ قول «محمّد ‏شحرور»(9)، لذلك هو أحوج ما يكون إلى منهجيّة علميّة في التّعامل مع « التّنزيل الحكيم» إلاّ أنّ هذه المنهجيّة لم تُطبّق بعد يقول «جاك بارك»: «إنّه ‏يجب أوّلا إخضاع القرآن إلى دراسة منطقيّة وسيمائيّة وصوتيّة في الوقت ذاته وهو ما لم يحدث قطّ» (10) ‏. ويبدو أنّ الإجابة عن مثل هذا السّؤال، ‏المشار إليه آنفا، كامنة في إعراض الرّسول عن إنجاز تفسير بعينه يكون نبويّا ملزما لكلّ المؤمنين من بعده، ولكنّ إعراضه عن ذلك وإن وجدت ‏مبرّراته في تقلّص الكتابة أمام سيادة الثّقافة الشّفويّة، فإنّ ذلك موقف قصدي وإرادي واع لأنّه إنجاز ينافي الحاكميّة البشريّة كما ذهب إلى ذلك ‏محمّد أبو القاسم حاج حمد(11)، ومعناه ممارسة الحريّة فـي التّفسير وتحمّل المسؤوليّة في أقصى درجاتها الفكريّة والوجوديّة لاستنباط المعاني ‏الممكنة من الخطاب القرآني. 
وعموما فإنّ محاولة الرّبط بين لحظتين ثقافيّتين إحداهما قديمة، والأخرى حديثة، عمليّة شائكة وجدّ دقيقة تستوجب ‏حنكة ومهارة في تجشّم مصاعب البحث التّاريخي الّذي ينهض لا على مجرّد نقل ما تحتويه الكتب القديمة من مضامين وأفكار، وإنّما نقد ما ‏فيها من تصوّرات بعد تفكيكها وتحليل مكوّناتها الظّاهر منها والخفي(12)‏. ولربّما ذهب الظنّ بالبعض إلى أنّ القول في القرآن قد قُضي على ‏أيدي المفسّرين الأوّلين ببلوغه منتهاه ممّا يجعل التّفاسير اللاّحقة تدور في فلك التّفاسير السّابقة، حيث تتقلّص الفائدة باجترار المعاني، فانبرى ‏بعض الدّارسين إلى تفنيد هذا الظنّ ومنهم «التّهامي نقرة» حين صدع بالقول: « من يزعم أنّ السّلف لم يتركوا للخلف في فهم معاني القرآن مجالا ‏للبحث والنّظر، والاستنباط، أو أنّ تفسيرا جديدا للقرآن لم يعدْ له من مبرّر، بعدما ألّف فيه المفسّرون مئات المجلّدات في مختلف العصور، فإنّما ‏يريد أن يُوصد بابا كبيرا للمعرفة، فتحه الله بفرقانه لكلّ الباحثين ولم يقصره على فئة دون أخرى، أو عصر دون آخر »(13)‏.‏
إنّ الفهم الصّحيح المتعلّق بالمسائل الثّقافيّة عامّة وقضايا الدّين خاصّة هو الّذي يوفّر إيمانا قادرا أن يثبت ديمومته بصموده أمام ‏الوقائع الاجتماعيّة والحوادث التّاريخيّة، ويبدو أنّ التّفكير الدّيني ما لم يتخلّص من الأفق الضّيّق الدّاعي إلى ‏التّكفير والتّبديع واعتبار أنّ الإطار السّنّي هو المعيار الأوحد والنّقي، فإنّ هذا النّمط من ‏التّفكير سيظلّ يدور حول ذاته ولا يعرف للإقلاع طريقا، إذ يعتبر أنّ التّفكير المعتزلي إلى ‏يومنا هذا مغرق في البدع موغل في الخلافات المبتدعة مارق عن منهج السّلف الصّالح فيما ‏لم يردّ به كتاب ولا سنّة بدعوى أنّه تناول صفات الله بالتّحليل الفلسفي الّذي يؤدّي إلى ‏التّشكيك في عقيدة التّوحيد، في حين أنّ مذهب أهل السّنّة والجماعة يقدّم نفسه على أنّه هو ‏الّذي أثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصّفات أو أثبته رسوله فيما صحّ عنه(14)‏.‏
ولقد ضاعفت هذه النّظرة التّجزيئيّة المقيّدة بقيود المذهبيّة الضّيّقة طريقةُ التّفسير ذاتها ‏الخاضعة للمنهج التّجزيئي الّذي يتناول القرآن آية آية، وإن وقع تفسير القرآن بالقرآن فالهدف ‏النّهائي لدى المفسّر هو الوقوف على دلالة الآية معزولة عن الأخرى، لذلك جاء التّفسير ‏متناثر الأجزاء، تراكميّا دون بلورة مركّبات معنويّة ودلاليّة تنمّي الفكر وتخلّصه من التّذرّر ‏والتّكرار ممّا حدا بالطّبري في كثير من الأحيان إلى الإشارة إنّه قد تناول فكرة بعينها فيما ‏سبق، وفي أحسن الأحوال يصرّح بانعدام الحاجة إلى التّوسّع فيه مرّة ثانية(15)‏.‏
ويبدو أنّ هذه النّظرة التّجزيئيّة ضاربة في طبيعة العقل العربي، إذ تجد لها جذورا في ‏الثّقافة العربيّة منذ الجاهليّة ولم يستطع العقل العربي أن يتخلّص منها إلى حدود القرن الرّابع، ‏يقول أحمد أمين:«  إنّ طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامّة شاملة وليس في ‏استطاعتها ذلك، فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامّة شاملة كما فعل اليونانيّ، كان يطوف ‏فيما حوله، فإذا رأى منظرا خاصّا أعجبه تحرّك له، وجاد بالبيت أو الأبيات من الشّعر أو ‏الحكمة أو المثَل. فأمّا نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتّفق والعقل ‏العربي، وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشّيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن ‏خاصّة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر إليها ككلّ، إنّما يستوقف نظره شيء ‏خاصّ فيها كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا ‏يلتقطه ذهنه كما تلتقطه «الفوتوغرافيا» إنّما يكون كالنّحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف ‏من كلّ رشفة»(16)‏.‏
وإذ نسجّل اتّفاق محمّد شحرور مع أحمد أمين على أنّ العقل العربي يتّسم بأنّه غير ‏جدليّ، ينظر إلى الأشياء والأحداث منفصلة بعضها عن بعض(17)، فإنّه لا يفوتنا التّنبيه إلى ‏أنّ التّعامل مع القرآن على أنّه آيات متفرّقات يخفي وراءه نقيصة منهجيّة تتمثّل في أنّ دور ‏المفسّر يستحيل إلى مهمّة سلبيّة لأنّه يظلّ مقتصرا على الاستماع والفهم منطلِقا من النّصّ ‏عائدا إليه، وقد فاته الانطلاق من الواقع الحيّ المتضمّن لتجارب الحياة والنّاظم لها، ومن ثمّة ‏يتسنّى له إعادة تركيب النّصّ ساعيا في بناء منظومة دلاليّة تجيب عن أسئلة الواقع المعيش، ‏وعندئذ تنساب حركة التّفسير انسيابا مفضيا إلى معالجة قضايا متكاملة المفاصل واضحة ‏المعالم.‏
وإذا حاول بعض الأقدمين مقاربة هذا التّمشّي في التّفسير، وإن جزئيّا، عبر الكتابة في ‏مواضيع مستقلّة مثل وضع مصنّفات فـي النّاسخ والمنسوخ أو أسباب النّزول أو إعجاز القرآن ‏أو أقسامه أو مفرداته أو أحكامه، فإنّها ظلّت حبيسة، هي الأخرى، في إطار هذا المنهج ‏التّجزيئي والمعكوس، فهي لا تعدو أكثر من تجميع عدديّ لآراء وقضايا من التّفسير التّجزيئي ‏يربط بينها ضرب من ضروب التّشابه، وليس كلّ تجميع عملا إيجابيّا وبنّاء(18)‏. وما عدا هذا ‏الخطأ المنهجي في التّعامل مع النّصّ القرآني فإنّ أوائل السّلف قد مدّوا جسور التّعامل المباشر ‏معه، وقد سار المعتزلة على هذا النّهج المتنكّب عن الوسائط الّتي من شأنها تشويش الأفهام ‏فكان التّأويل منفتحا سهّل الخروج بعمليّة التّفسير من ضيق الشّرح إلى فضاء تعدّد المعنى ‏الأرحب، ولعلّ هذه العلامة هي الّتي حدت بعبد المجيد الشّرفي إلى القول: « فما أحرى علماء ‏الإسلام بالاقتداء بمنهج السّلف لا الالتزام بأقوالهم»(19)‏. وعموما فقد كشف أبو عليّ الجبّائي ‏عن نموذج اعتزالي يتميّز بتفكير حيويّ ينحو نحو التّفرّد، ولا سيّما في تفريقه بين كلام الله من ‏جهة، ومستوى الخطاب القرآني من جهة أخرى، وهذا التّحرّر في النّظر يكشف عن مساحة ‏واسعة من التّفكير، والغريب أنّ الوعي لدى المسلمين في العصور التّالية لعصر الجبّائي قد بدأ ‏يستنكف من طرح مثل هذه القضايا، ولا تسلْ عن الوعي في الأزمنة المتأخّرة «فالأسئلة التّي ‏طرحها المعتزلة على القرآن لا يمكن طرحها الآن في أيّ وسط ثقافي عربي أو إسلامي»‏(20)‏.‏
وفي الختام نشير إلى أنّنا قد باشرنا في هذه الدّراسة أثريْن ينتميان إلى ما يُسمّى ‏بالتّفسير التّراثي استبدّ بأحدهما النّظر الّذي يعني تعقّل المواضيع والقضايا المنظور فيها، ‏فسجّل بذلك خطوة إلى الأمام على طريق مباشرة النّصّ مخفَّفا من ضغط الموروث والمأثور ‏وطغى على الآخر الأثر الّذي أفاد الاقتفاء والتّقصّي لأقوال السّابقيـــن، فبدا ملتفتا إلى الوراء ‏مكرّسا سلطة الماضي والسّلف، فتأكّد لدينا أنّ هذا الموروث التّفسيري ينهض على تفكير نابع ‏من القوّة الاعتقاديّة يُستدلّ عنه ويُبرهن عليه من جهة، أو تُكثَّف المرويّات حوله من جهة ‏أخرى فاتّضح أنّ هذيْن السّبيلين هما المدخل الملائم لولوج عوالمه التّاريخيّة بما فيه من ‏معقول ولا معقول.‏
ولا يفوتنا التّنبيه إلى أنّ هذيْن الضّربيْن من التّفسير تحوط بهما محاذير، إذ التّفسير ‏بالمأثور مهدّد بالنّقول الّتي هي أحوج ما تكون إلى المصداقيّة سندا ومتنا، وأنّ التّفسير بالنّظر ‏مهدّد بإسقاط الرّأي على النّصّ، فيُحْمَل القيل القرآني على شيء لا يحتمله. ولا تعدم الحالتان ‏الوقوع في النّقيصة إن لجهل أو لتعصّب.‏
الهوامش
(1)  ‏ نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الدّيني، ص 131.‏
(2)   ‏ انظر محمّد أركون، القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّينيّ، ص 24.‏
(3)  ‏ الشّافعي، الأمّ، ج7، ص274.‏
(4)   ‏ انظر خليل أحمد خليل، العقل في الإسلام، ص 301.‏
(5)   عبد المجيد الشّرفي، لبنات، ص50.‏
(6)  ‏ انظر محمّد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص90.‏
(7)  ‏ أثار صادق جلال العظم هذه القضيّة في كتاب « نقد الفكر الدّيني»، ص 88.‏
(8)  ‏ Ali Mrad, renouveau de l’Exégèse .Point de vue musulman, II ème  Rencontre ‎Islamo-Chrétienne Sens et niveau de la révélation, Carthage 1979, p 207.             ‎‎                               
(9)   انظر محمّد شحرور، القصص القرآني قراءة معاصرة، مج 1، ص189.‏
(10) جاك بارك: «‏Jacques Berque, Relire le Coran, p 32» . وهذه الأطروحة تتقاطع مع رأي يوسف صدّيق: «Youssef Seddik, Nous n›avons jamais lu le Coran, p 44» 
 (11)  انظر كتابه الحاكميّة، ص131.‏
(12)  عالج محمّد أركون هذه الأفكار وشِبهها في كتابه «قضايا في نقد العقل الدّيني»، تعريب هاشم صالح، ص 139 وما بعدها.‏
(13)  ‏ التّهامي نقرة، الوحي والتّنزيل بين التّفسير والتّأويل، مقال ضمن كتاب جماعي « الملتقى الإسلامي المسيحي الثّاني معاني الوحي والتّنزيل ومستوياتهما»، ص ص 188- 189.‏
(14) انظر النّموذج الدّال على هذه العقليّة ما يذكره منّاع القطّان في كتابه «مباحث في علوم القرآن»، ص49.‏
(15) الأدلّة على ذلك كثيرة نذكر منها بعض الأمثلة فيما تعلّق بقصّة ثمود مع النّبيّ صالح:« وقد بيّنا قصّة ثمود وسبب ‏هلاكها فيما مضى بما أغنى عن إعادته». الطّبري، جامع البيان، مج9، ص 7719. وقوله:« وقد بيّنا معنى الدّأب فيما ‏مضى بشواهده، المغنية عن إعادته، مع ذكر أقوال أهل التّأويل فيه». م.ن، ص7133. وقوله:« وقد ذكرنا أخبار كلّ هؤلاء ‏فيما مضى قبل من كتابنا هذا» مج8، ص 6972.‏
(16) ‏ أحمد أمين، فجر الإسلام، ص ص41- 42.‏
‏(17)  محمّد شحرور، الدّولة والمجتمع، ص254.‏
(18)  انظر محمّد باقر الصّدر، مقدّمات في التّفسير الموضوعي للقرآن، ص17.‏
(19)  ‏عبد المجيد الشّرفي، لبِنات، ص180.‏
(20)‏ محمّد أركون، العلمنة والدّين:الإسلام المسيحيّة الغرب، تعريب:هاشم صالح، هامش رقم 4، ص108.