قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
في ذكري الثورة : متفائلون
 في مثل هذه الأيام من سنة 2010 اندلعت الثّورة التّونسية لتنتهي بإسقاط نظام جثم على قلوب التّونسيين لمدّة فاقت العقدين من الزّمن. كان السّقوط سريعا ومدويّا وغير متوقّع من أشدّ النّاس تفاؤلا رغم عدد الشّهداء وفورة الغضب التي اجتاحت البلاد لكأنّ بركانا ثار فجأة.
الآن وبعد مرور كلّ هذه السّنوات، هل بوسعنا أن نتساءل مرّة أخرى عن ماهية ما كان وما أفضى إليــه من واقع جديد؟ وهل يمكن إجراء تقييم موضوعي لحدث لم يكتمل بعد؟ وهل نستطيع أن نتفاءل كما كان عهدنا في البدايات أم أنّ التّفاؤل بات أمرا بعيد المنال في ظلّ ما نشعر به جميعا من إحباط ؟ .
(2)
لم يكن حدث الثّورة عاديّا، فقد كان النّظام التّونسي يبدو متماسكا خلف رئيسه، شديد السّطوة، ماسكا بتلابيب كلّ شيء وخاصّة في ما يتعلّق بالأمن. لم تعرف البلاد على مدى ما يزيد عن العقدين إلاّ رئيسا واحدا ورأيا واحدا ومن عارض كان مصيره الاعتقال والتعذيب والسجن والنفي. 
لم يكن تغيير النّظام يبدو ممكنا لا على المدى المنظور ولا حتّى على المدى البعيد، حيث كانت الأجنحة تتنافس من أجل ترتيب انتقال ما للسّلطة يخدم مصلحة العائلة الحاكمة وما يدور في فلكها من مستفيدين بعد نيل الرّضا من دوائر دوليّة متنفّذة في تونس.
لا ينكر أحد حجم التّضحيات التي بذلها التّونسيون طوال عقود، ولا حجم مكابدتهم من أجل فرض إصلاحات على النّظام وطريقة الحكم أو من أجل توزيع عادل للثروة  وفي شهادات الشّهود غيض من فيض تلك التّضحيات ومقدار المعاناة والتّنكيل الذي لحق بكلّ المناضلين من مختلف المشارب والاتجاهات وفي مختلف الحقب. 
لقد صدم معظم التّونسيين من شهادات الشّهود أمام هيئة الحقيقة والكرامة وكان وقعها أليما على نفوسهم حين عرّت واقعا ظلّ خفيّا لعقود وأزالت غشاوة كانت تحول بين التّونسيين وبين الحقيقة التى جاءت بعكس ما كانوا يسمعون ويعرفون، حيث لم يكن لأحد قبل الثّورة أن يجرُؤ على الحديث علنا عن معاناة السّجناء أو طرق تعذيبهم أو تقديمهم للنّاس في ثوب غير الثّوب الذي ألبسهم إيّاه نظام أوغل في عرضهم ودمهم ونعتهم بأبشع النّعوت.
(3)
كما لم يكن حدث الثّورة عاديّا في السّرعة والتّوقيت والنتائج، لم يكن ما أعقبه عاديّا كذلك. فجأة أصبحت البلاد بلا رئيس ولا حزب حاكم، وفجأة زال الخوف من النّفوس مرّة واحدة وأصبح من العادي الوقوف لساعات أمام المبنى الرّمادي لوزارة الدّاخليّة أو أيّ مبنى سيادي آخر. 
أصبحت السّياسة وشجونها حديث النّـــــاس من الصّباح إلى المساء وتغيّر حالهم من اللاّمبــــالاة التّامّــــة بل والخوف المرضـــيّ من السّياسة وشأنهـــــا إلى الانغمـــاس التّام في قضايــا البلــــد. تحوّلت المقاهـــــي من حلقـــــات الحديث عن الرّياضــــة وكرة القــــدم وغيرها من الأمور الثّانويّة في حياتنا إلـــــى الحديــث عن السّلطــــة وإرادة الشّعب والحرّيــــة والكرامة والانتخابات والتّأسيس والأحزاب والثّــورة والثّروة وغيرها . 
دخلنا مرحلة جديدة أصبح فيها للسّياسة معنى وسطوة غير مألوفين من قبل، مرحلة انتقاليّة أولى أعقبتها انتخابات تاريخيّة لم يشهد البلد مثيلا لها في تاريخه، ولعلّ معظم التّونسيين ممّن شهدوا تلك الانتخابات ما زال يذكر الطّوابير الطّويلة للنّاخبين وهم ينتظرون دورهم للإدلاء بصوتهم في أوّل اختبار للثّورة مرّ على البلد ومرّت منه بسلام دون دماء تسيل أو انقلاب يقضي على الأحلام.
بعد التّأسيس وصدور الدّستور ومرحلة انتقاليّة ثانية، كان للبلد موعد مع انتخابات ثانية كادت تعصف بالثّورة وتأتي بنقيضها كلّه إلى سدّة السّلطة كأنّ شيئا لم يكن لولا أنّ وهج الثّورة كان متألّقا بعد ولم يترك للمتربّصين فرصة الانقضاض على الثّورة وأحلام النّاس. 
لم تنتكس الثّورة بشكل نهائي ولكنّها لم تقم على سوقها دون انحناء أو اعوجاج، ليس هذا شأن الثّورة التّونسية فقط بل ذلك حال الثّورات في كلّ عصر و مصر ، ولكن ثمّة من يرى أنّ للثّورة التّونسية شيئا من الفرادة سمّي اصطلاحا بالعبقريّة التّونسيّة حيث استطاعت أن تحيا دون أن تقتل القديم أو ترخي للقديم عنانها فيوردها المهالك.
(4)
كان الكثير من النّاس مستكينا قبل الثّورة لا يرجو إلاّ السّلامة لنفسه ولأهل بيته ولكنّ الحال تغيّر بعد الثّورة، فأصبح الثّوار بلا عدد و كلّ يدّعي في الثّورة هوى ، وهكذا أصبح على الثّورة أن تبدّل حال النّاس من حال إلى أحسن حال دون مشاركة منهم ودون أن يعطي بعضهم لبعض فرصة النّظر في الممكن قبل المأمول دون تعجيز. 
أصيبت الثّورة في مقتل أو كادت حين نزل الغوغاء إلى الشّوارع رافعين الرّايات مطالبين بتحسين أوضاعهم الحياتيّة على نحو تعجز عنه البلاد في حال الرّخاء، فكيف وهي في حال من الاسترخاء ولكنّها لم تمت وظلّت تحافظ على ألقها . 
مرّت سنوات التّأسيس على قصرها كأنّها عقود ، بدأت بانتخابات هادئة تمّت بمقتضى قانون مفصّل على قياس فئة دون أخرى مستندا على فكرة في ظاهرها التّجميع وفي باطنها التّفريق من خلال الاحتكام إلى نظام أكبر البقايا، وبعد الانتخابات كان المنجز السّياسي وحده ما يمكن أن يفخر به النّاس لأنّ البلد دخل في صراعات لا حصر لها حول قضايا وهميّة أو عويصة لم يكن للبلد أيّ نفع في طرحها، وأهم ما في هذا المنجز هو الدستور.
مرّت البلاد بأزمات كثيرة ، ووقفت على شفا الانهيار مرّة و مرّة و لكن إرادة التّونسيين المخلصين كانت حاسمة في حماية التّجربة حتّى وصلنا أخيرا إلى انتخابات أتت برئيس من عامّة النّاس ومن خارج النّخبة السّياسيّة والحزبيّة المعهودة وحافظت على هامش ولو كان ضئيلا من العمل السّياسي بعيدا عن الفوضى والاحتراب. 
لقد انتكست كلّ الثّورات الأخرى وتحوّل بعضها إلى حرب أهليّة أكلت الأخضر واليابس كما هو حال اليمن وسوريا، وتحوّلت ثورات أخرى إلى حالة فريدة من القمع والتسلّط والاستخفاف بإرادة الشّعوب. ورغم ما يبدو من ضبابيّة المشهد أحيانا وما حدث ويحدث للثّورات المتزامنة جميعها من محاولات النّسف والهدم، يزداد ألق الثّورة بروزا مع كلّ ثورة جديدة وما يحدث في العراق ولبنان دليل آخر على حجم ما كان للثّورة التّونسية من ألق وتأثير.
(5)
لقد تنبّأ الكثيرون بنكوص الثّورة في تونس ولكن خابت آمالهم جميعا، لم تنتكس الثّورة وإن كان الحصاد في عمومه ضئيلا حيث ازدادت معاناة الكثيرين وانفلتت الأوضاع الاقتصادية وضعفت الدّولة كثيرا وتراجع نفوذها لصالح مافيا متعدّدة الأنشطة والأوجه ممّا تسبّب في ارتفاع حجم الفساد واختلال الأوضاع على نحو ينبئ بالخطر الشّديد.
لم تسقط الثّورة ولا الدّولة ولكن زخم الثّورة بدأ في الذّبول ولعلّ هذا ما يعيدنا إلى طرح السّؤال مجدّدا ، هل يمكننا تقييم حدث لم يكتمل بعد؟ وهل نستطيع أن نبقي على جذوة التّفاؤل متألّقة في نفوسنا رغم ما يتهدّد الثّورة من مؤامرات ورغم ما يبدو من هزال الحصاد؟
الذين تفاءلوا وكانوا على يقين من انتصار الثّورة باعتبارها فعلا صادرا عن إرادة الشّعوب سوف يظلّون متفائلين، أمّا اللّذين لا يرون في الثّورة إلّا فعلا آنيّا لتحقيق المكاسب لن يكون أمامهم إلاّ شحذ سكاكينهم لينظمّوا إلى ركب المتآمرين، فهم وهولاء سواء.