في الصميم

بقلم
محمد الدرداري
فقه الدعوة إلى الله - رؤية تأصيلية (2/2)
 تطرّقنا في الجزء الأول من المقال في العدد السّابق من مجلّة الإصلاح إلى «الصّبر» كأبرز خصائص منهج النبوّة في الدّعوة إلى الله ونواصل في هذا الجزء الثّاني والأخير التطرّق إلى خصائص أخرى لا تقلّ أهمّية عن الأولى..
(2) القدوة الحسنة
وهي الشقّ العملي في القيام بواجب الدّعوة، قال تعالى: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ‏لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا»(1). يقول ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية الكريمة ‏أصل كبير في التأسّي برسول الله (ﷺ) في أقواله وأفعاله وأحواله»‏ (2).‏
ولقد كانت أعماله (ﷺ) التّرجمة الحقيقيّة لأقواله، فلم يكن عليه السّلام ظاهرة صوتيّة، ولا أمّة كلام، وإنّما كان ‏عمليّا، يبادر إلى الامتثال لما يأمر به، ويتجنّب ما ينهى عنه. قال ملك عمان الْجُلَنْدَى: «والله لقد دلّني على هذا النّبي ‏الأمّي، أنّه لا يأمر بخير إلاّ كان أوّل آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلاّ كان أوّل تارك له، وأنّه يَغلب فلا يبطر، ويُغلب ‏فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنّه نبي» (3) ‏ ‏.‏
إنّ على الدّعاة والمربّين اليوم، أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة، ويسائلوها مساءلة الغريم لغريمه، فلن تكون لمواعظهم ‏وخطبهم ودروسهم أيّ فائدة، إلاّ إذا أدرك المدعوون أن ّهؤلاء أوّل الملتزمين بما يقولون، وإن اطلعوا منهم على عكس ‏ذلك سقطوا من أعينهم، وفقدوا ثقة النّاس بهم، بل وازدروهم واحتقروهم. ولقد أحسن الشّاعر أبو الأسود الدؤلي ‏مخاطبة هؤلاء حينما قال:‏
يا أيّها الرّجـــل المعلّم غيــــــره هلَّا لنفسك كان ذا التّعليـــم‏
ابدأ بنفسك فإنهها عن غيِّهـــــــا فإذا انتهت عنه فأنت حكيـم
فهناك يسمع ما تقول ويقتـــــدى بالعلم منك وينفع التعليـــــم
تصف الدّواء لذي سقام بالضّنى كي ما يصحّ به وأنت سقيـم
لا تنه عن خلق وتأتي مثلــــــــه عار عليك إذا فعلت عظيــم
(3) التواضع
قال تعالى: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُومِنِينَ»(4). التّواضع من أهم ‏الأخلاق التي يجب على الدّاعية الالتزام بها، إذ لا يستطيع أن يخاطب النّاس، ويؤثّر فيهم، ويغرس في قلوبهم حبّ ‏المكارم والفضائل؛ إلاّ إذا نزل من قلوبهم منزلا حسنا، وأحسّ النّاس منه بصفاء النّفس، وسموّ الرّوح، وشرف المقصد.‏
ولقد كان نبيّنا محمد (ﷺ) سيد المتواضعين، فلم تكن النّبوة لتخرجه عن إنسانيّته، بل عاش في قلب مجتمعه وسط ‏الناس، واحدا منهم، كارها التّميز عليهم، لأجل ذلك كان ينهى أصحابه عن المبالغة في مدحه، والوقوف له، ووضعه ‏في مكانة غير تلك التي ارتضاها الله له. ‏قال عليه الصّلاة والسّلام مخاطبا أصحابه: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، ‏وَرَسُولُهُ» (5) ‏ ‏.‏
ومن صور تواضعه (ﷺ) أنّه كان يركب الحمار مع قدرته على ركوب الخيل، وكان يردف خلفه بعض أصحابه، ‏ويسلم على من لقيه، ويهشّ في وجوههم، ويضاحكهم، ويلاعبهم، ويضع يده في أياديهم، وكان يعود المرضى ويدعو ‏لهم، ويجلس حيث انتهى به المجلس، ولمّا دخل عليه رجل يوم الفتح ارتعد، فقال النبي (ﷺ): «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي ‏لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (6) ‏.‏
إنّ خلق التّواضع من أرقى الأخلاق خدمة للدّعوة، وتأثيرا في المدعوّين، وعلى الدّعاة أن يدركوا أن النّاس لا يستمعون ‏لمن يتكبّر عليهم، ويرى نفسه أفضل منهم، وإنّما النّاس تبّع لمن يتواضع معهم، ويتذلّل بين أيديهم، ويخدمهم بفعله كما ‏يخدمهم بقوله.‏
فكن متواضعا أيها الداعية، ولا تتحرج إن سئلت فلم تدر أن تقول: لا ادري، فقد قالها من هو أفضل منك. قال ‏القاسم بن محمد ـــــ وقد سأله رجل عن شيء ـــــ «لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. ‏فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ‏ابن أخي الزمها. فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن ‏أتكلم بما لا علم لي به»‏ (7) ‏.‏
وإذا أخطأت يوما فلا يزين لك الشّيطان زلّتك، بل اعترف بها أمام النّاس، حتّى لا يزلّوا بسببك، فإنّ الرّجوع إلى الحقّ ‏خير من التّمادي في الباطل، وإذا جهلت شيئا أو تشكّكت فيه فاسأل من هم أعلم منك، فإنّ السّؤال مفتاح العلوم، ‏وإذا نُصحت فلا يضق صدرك بها حتّى وإن كان النّاصح أقلّ منك علما، وإذا تعرّضت للإساءة من أحدهم فقدّم ‏العفو وتجاوز، واستحضر قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين»(8).‏
لين القول: فإنّ الدّاعية ليس بالسّباب ولا بالشّتام، قال تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ‏وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن»(9). إذ الواجب على كلّ داعية أن يدعو إلى ربّه برفق ولين وإحسان، ‏ويتجنّب كلّ أسلوب فيه تجريح أو احتقار للآخرين.‏
وتبدو قيمة هذه الخصلة في الدّعوة إلى الله، في ما خاطب به الله تعالى موسى وأخاه هارون حينما قال لهما: «اذْهَبَا إِلَىٰ ‏فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(10). قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية ‏فيها عبرة عظيمة، وهو أنّ فرعون في غاية العتوّ والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا ‏يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللّين»‏ (11) ‏.‏
وقال الإمام الشّوكاني: «أمرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التّأثير في الإجابة، فإنّ التّخشين بادئ بدء ‏يكون من أعظم أسباب النّفور والتّصلب في الكفر، والقول اللّين هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشّيء يلين ‏لينا، والمراد تركهما للتّعنيف» (12) ‏ ‏. ‏
كما تبدو قيمتها أيضا في منهج النّبي (ﷺ) في الدّعوة، القائم على الرّفق واللّين والمخاطبة بالتي هي أحسن، ‏فاستطاع بذلك أن يفتح مغاليق القلوب، ويحييها بعد أن غشيتها ظلمة الجاهلية.‏
ولقد ضرب لنا النّبي (ﷺ) أمثلة رائعة في اللّين في الدّعوة. فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتى فتى شابا النّبي ‏‏(ﷺ) فقال: «يا رسول الله، ائذن لي بالزّنا»، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: «مه. مه». فقال: «ادنه، فدنا منه قريبا». ‏قال: فجلس. قال: «أتحبّه لأمك؟» قال: «لا. والله جعلني الله فداءك». قال: «ولاّ الناس يحبّونه لأمّهاتهم». قال: «أفتحبّه ‏لابنتك؟» قال: «لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: «ولاّ الناس يحبّونه لبناتهم». قال: «أفتحبّه لأختك؟» قال: «‏لا والله جعلني الله فداءك». قال: «ولا النّاس يحبّونه لأخواتهم». قال: «أفتحبّه لعمتك؟ «قال: لا. والله جعلني الله ‏فداءك». قال: «ولا النّاس يحبّونه لعمّاتهم». قال: «أفتحبّه لخالتك» قال: «لا. والله جعلني الله فداءك». قال: «ولا الناس ‏يحبّونه لخالاتهم». قال: فوضع يده عليه وقال: «اللّهم اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصّن فرجه» قال: فلم يكن بعد ذلك ‏الفتى يلتفت إلى شيء»‏ (13) ‏.‏
فأنت ترى أنّ النّبي (ﷺ) لم يعنف هذا الشّاب الذي جاء يستأذن في ارتكاب كبيرة من الكبائر، بل ناقشه ‏مناقشة هادئة، مليئة بالرّفق واللّين، أفضت به إلى استقباح هذا العمل، والعدول عنه.‏
فاحذر أيها الدّاعية أن تُغلظ القول في دعوتك، فينفر النّاس عن الرّكون إليك، ويعرضوا عن السّماع منك، فإنّ الرفق ‏كما قال النّبي (ﷺ): «لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»‏ (14) ‏ فكم من قلوب صلدة لا تلينها ‏إلاّ الكلمة الطّيبة، وكم من نفوس تائهة لا يُرشدها إلا القول الحسن الجميل.‏
(4) الأمل وعدم اليأس
ومن فقه الدّعوة أيضا الأمل وعدم اليأس: إذ الواجب على الدّعاة ـــــ الذين هم ورثة الأنبياء ـــــ ألاَّ يستعجلوا قطف ‏ثمار دعوتهم، وألاّ يركبهم اليأس إذا نفر النّاس منهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم، ولهم في أنبياء الله القدوة الحسنة. فهذا نبي ‏الله نوح عليه السّلام، مكث في دعوة قومه إلى التّوحيد ألف سنة إلا خمسين عاما، فما تبعه إلاّ قليل. ونبينا محمد ‏‏(ﷺ) اشتدّ عليه قومه، وآذوه، وضربوه، حتّى جاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين. فقال: بل ‏أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله.‏
فعلى الدّاعية أن يدرك أنّه بدعوته يبرئ ذمّته بين يدي الله تعالى، ويقوم بواجبه الدّيني الذي ورَّثه إياه رسول الله، وأنّه ‏لن يُسأل لماذا لم تدع النّاس وترشدهم إلى طريق الخير والرّشاد. ومتى تسرّب اليأس والقنوط إلى نفوس الدّعاة، وقفوا في ‏منتصف الطّريق، وفوّتوا على أنفسهم وأمّتهم الخير الكثير.‏
(5) التعفّف عمّا في أيدي النّاس
ومن فقه الدّعوة أيضا، أن يتعفّف الدّعاة عمّا في أيدي النّاس، وتلك أرقى الأخلاق ‏وأفضلها خدمة للدّعوة، فإنّ الدّاعية متى تطلّع إلى ما في أيدي النّاس، وتاقت نفسه إلى شيء ممّا عندهم، لم يعد ‏لدعوته أيّ قبول في نفوسهم، وربّما ازدروه واحتقروه لأجل ذلك، فعن سهل بن سعد السّاعدي قال: أتى النبيَّ ‏‏(ﷺ) رجل فقال: يا رسول الله دلّني على عمل إذا أنا عملته أحبّني الله وأحبّني النّاس. فقال رسول الله (ﷺ): «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» (15). ‏
إن فقه الدعوة إلى الله تعالى فقه مهمّ وضروري، لأنّه مستنبط من كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ﷺ)، لذا يجب على ‏الدّعاة الاجتهاد في ربط دعوتهم بهذا الفقه، والانطلاق منه لجعل جهودهم الدّعوية محقّقة لأهدافها ومقاصدها. قال ‏تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن ‏قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين»(16).‏
الهوامش
(1) سورة الأحزاب - الآية 21.‏
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط/2، 1420هـ ‏‏(6/ 391).‏
(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـــــ الأردن، دون طبعة، ‏‏1409هـ (1/ 249).‏
(4) سورة الشعراء - الآية 214.‏
(5) ‎صحيح البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا﴾ ‏‏(مريم: 16) حديث رقم: 3445 (4/ 167).‏
(6) سنن ابن ماجه، كتاب: الأطعمة، باب: القديد، حديث رقم: 3312 (2/ 1101).‏
(7) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي ـــــ المملكة العربية السعودية ‏ط/1، 1414هـ (2/ 837).‏
(8) سورة الأعراف - الآية 199.‏
(9) سورة النحل - الآية 125.‏
(10) سورة طه - الآيتان 42 و 43.‏
(11) تفسير القرآن العظيم (5/ 294).‏
(12) فتح القدير، الشوكاني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب ـ دمشق، بيروت، ط/1، 1414هـ (3/ 433).‏
(13) مسند أحمد، مسند أبي أمامة الباهلي، حديث رقم: 22211 (36/ 545).‏
(14) صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل الرفق، حديث رقم: 2594 (4/ 2004).‏
(15) سنن ابن ماجة، كتاب: الزهد، باب: الزهد في الدنيا، حديث رقم: 4102 (2/ 1373).‏
(16) سورة الجمعة - الآية 1.‏