على خطى الثورة
بقلم |
د.سالم العيادي |
الثَّورة وسؤال القيم: ما هي تونس؟ |
قد يكون الوعدُ بواقعٍ مغايِرٍ جذريًّا أشدَّ وعودِ الثَّورة جلاءً وسحرًا. إذْ ما الثَّورةُ إن لم تكن هدمًا وبناءً جديدًا وتقويضًا واستئنافًا للتَّأسيس. وما هي إنْ لم يتنفَّس في أفقها صبحُ عصرٍ جديد؟
لعلَّ استعادةَ السُّؤال عن الإنسان أكثرُ آثار الثَّورة انبلاجًا وأعظمُ ما تغنمه الأوطان تاريخيًّا. فسؤال الإنسان هو الموطن النَّظريُّ والعمليُّ لكلِّ استشكالٍ ممكنٍ ومشروعٍ لقضايا الحريَّة والكرامة والعدالة، بل وللحقيقةِ أيضًا بوصفها أمَّ القضايا بإطلاقٍ. وليس من سبيلٍ إلى الثَّورة بهذا المعنى الرُّوحيِّ العميق ما لم ينقلب سلَّم القيم السائدة- البائدة رأسًا على عقب في كلِّ مجالات إنتاج المعنى والقيمة سياسةً وثقافةً، دينًا وفنونًا، فعلاً اجتماعيًّا واقتصاديًّا. ولا أملَ في غدٍ جديدٍ ما لم يتشكَّل فضاءُ التَّواصل والنِّقاش العموميَّين على نحوٍ مغايرٍ ومختلفٍ. فهل أوْفت الثّورة التُّونسيَّة بوعودها؟ وما هو تحديدًا إيقاعُ الخطى الّتي تسلكها الثَّورةُ عبر منعطفاتٍ تكاد تُهلِكها كلَّ مرَّةٍ؟
المحصَّلة الرَّاهنة للفعل الثَّوريِّ ومسارِ التَّحرير والتَّنوير محصَّلةٌ مُحبِطة رغم الاندفاع الرُّوحيِّ العميقِ والمثابرِ لـ «شعبٍ يريد» ولشعبٍ أدرك «حالةَ وعيٍ» ملائمة لكينونته السِّياسيَّة الجديدة. ولعلَّ السَّببَ في ذلك راجعٌ إلى ثلاثة أعطابٍ، هي:
- العطبُ الدُّستوريُّ الحقوقيُّ: ويتمثَّل في اختزال مطلب التَّأسيس في الشَّأن الدُّستوريِّ- الحقوقيِّ الشَّكلانيِّ الصِّرف. فضمن أيِّ شروط يستعيد مطلبُ التَّأسيس مقامَه الفلسفيَّ وأبعاده الحضاريَّة- التَّاريخيَّة حتَّى تتحوَّل الثَّورةُ إلى قيمة أخلاقيَّة يستند إليها اقتدارُ الشَّعبِ مقاومةً لكلِّ الإرادات الارتكاسيَّة الخسيسة؟
- العطبُ الثَّقافيُّ الفنِّيُّ: ويكمن في استماتة الحقل الثَّقافيِّ والفنّيِّ في الحفاظ على نمطيَّة الاسفاف والابتذال والتلهية خاويةِ المعنى. ويكمن أيضًا في استماتة الفضاء التَّواصليِّ في الابقاء على عالم الرَّمزِ خارجَ دائرة التَّغيير الجذريِّ. فهل يمكن لثورةٍ أن تُحقِّق أهدافَها السِّياسيَّةَ والاجتماعيَّةَ دون أن تتحوَّل إلى قيمةٍ معياريَّةٍ يستند إليها فعلُ التَّقويم الثَّقافيِّ لما ينبغي أن يكون عليه الفنُّ؟ ولمَ لا يستلهم الفنُّ التونسيُّ مفرداتِه الإبداعيَّة من حالةِ «التَّجمُّل» الّتي يقترحها «الشَّارعُ» في مختلف أشكال «ظهوره» الخلاَّقة و«مبادراته» المحرِّضة على التَّجاوزِ صوبَ عالمٍ للمعنى بكرٍ ومولِّدٍ؟
- العطبُ الانتاجيُّ السِّياديُّ: وهو من أكثر الأعطابِ تعطيلا لاستعادة السِّيادة الوطنيَّة على مجال الثَّروات والقرارات وهندسات العقل والوجدان كما تتجلّى في مجالات العمل والتَّبادل والتَّربية والتَّعليم. فإلى أيِّ مدى يقدر «الشَّعبُ المريد» على فرضِ سيادته إنْ لم يكن شعبًا عاملا منتجًا، وشعبًا يستلهِم فلسفات العمل والإيثار وفلسفات القيمة والتَّعاون من مُثُلٍ عليا ونماذجَ تترسَّخ في الأذهان والوجدان عبر التَّربية وفي فضاء الأسرة والمدرسة؟
إنَّ السيادة على الموادِّ والأرضِ والحدودِ لا تكون دون «روحٍ سيِّدة حرَّة». ولا تتخلَّق هذه الرُّوح إلاَّ عبر اندفاعاتها الثَّوريَّة العليا تأسيسًا لقيمٍ جديدة. وفي ذلك يكمن الدَّورُ الافتتاحيُّ للسُّؤال التَّأسيسيِّ عن الإنسان في كونيَّته وملِّيَّته وقوميَّته ووطنيَّته. فما هي تونس؟ وما هي ملامح الهويَّة المتشكِّلة على خطى الثَّورة وعلى وقع صداها في مختلف الأقطار العربيَّة بالإيجاب والسَّلب؟ وما «التونسيُّ الثَّائر» تحديدًا، ولأجل ماذا يثور حقًّا؟ وهل يقدر الفضاء الثَّقافيُّ الفنيُّ اليوم على الاضطلاع بمسؤوليَّة انتاج المعنى في أفق هذا السُّؤال؟ وإلى أيِّ مدى يكون هذا الاستشكال القيميُّ لمفهوم الثَّورةِ ممكنًا دون فعلٍ إنتاجيٍّ سياديٍّ في مجالات التَّخليق التاريخيِّ الماديَّة والرُّوحيَّة؟
هذه الأسئلة لا تَطلب إجابات نهائيَّة ولا مقرَّرات يقينيَّة حول نظريَّات أو مذاهب أو مناهج. وإنَّما هي تدعو في مجملها إلى استعادة اللَّحظة الثَّوريَّة في عمقِ إرهاصاتها من حيث هي إسقاطٌ لكلِّ اليقينيَّات والمسلَّمَّات واستئنافٌ بدئيٌّ لكلِّ أشكال الاستفهامِ المندهشِ الّتي يتبدَّد على أعتابها وهمُ الوضوح والبداهة. فما هي تونس إذن؟
إنَّ الحقيقةَ ثوريَّةٌ دون شكٍّ. وتكمن ثوريَّتُها أوَّلا وبالذَّات في تقويض كلِّ المسلَّمات ومساءلة كلِّ البداهات. وهذا – في تقديري – ما تأخَّر في إنجازه الفكرُ التُّونسيُّ لأسباب متعدِّدة يقتضي الكشفُ عنها الحفرُ عميقًا في جملة الأشياء الّتي نحمل عليها دائمًا صفةَ «تونسيٍّ»: إسلام تونسيّ، نمط مجتمعيّ تونسيّ، موسيقى تونسيَّة، فكر تونسيّ، الثورة التونسيَّة...
فـ «تونسيٌّ» في كلّ مرّة هو محمولٌ على الجوهر الرّوحيّ لهذا الكيان - الشّعب - الثقافة... فماذا لو ساءل أحدُنا «الإسلام التونسيّ» سؤالا نقديًّا جذريًّا مثلما يجد الجرأة على مساءلة الوهم الدّينيّ في عمومه؟ أو ماذا لو كتب مقالة «ضدَّ الموسيقى التونسيَّة» مثلما كتب جون جاك روسو رسالة ضدّ الموسيقى الفرنسيَّة؟ وماذا لو كشف تفكيكيًّا عن الادِّعاء الزائف بأنَّ شيئًا ما يمكن أن يُقال «فكرًا تونسيًّا»؟ هل نخرجه من «الملَّة التونسيَّة» مثلا، أو ننكر عليه حداثة الانتساب إلى تونس؟
«ما هي تونس؟» هو في تقديري أكثر الأسئلة ثوريَّة لأنَّه يطلب الكشف عن حقيقة شيءٍ مَّا نظنّه - بضربٍ من سكينة الأنفس المطمئنَّة - على غاية من الوضوح والبداهة، ويتوهَّم الكثير منَّا - على نحوٍ شكلانيٍّ فارغ - أنَّ الدّستور كافٍ لتعيين دلالته.
وسؤال «ما هي تونس؟» ثوريٌّ أيضًا لأنَّه سيقودنا ضرورةً إلى التساؤل - فيما وراء اللّغو الفضفاض المكابر- عن هذا الشّيء الّذي نسميّه « ثورة». بأيِّ معنى تكون الثّورة شيئًا ممكنا في أفقنا الرّوحيّ والثقافيّ والسِّياسيّ؟ فإذا لم نجد في «تونس» إمكان فكرة الثّورة قبليًّا فإن واقعها بعديًّا لن يكون إلاَّ أكذوبة مريحة لا غير. ولهذا السّبب أظنُّ أنَّ الثَّورة التونسيَّة ستظلّ - إلى حينٍ، أرجو ألاَّ يطول - يتيمةً فكريًّا ودون نسبٍ روحيٍّ يمدُّها باقتدارها التاريخيّ الخاصّ من حيث هي وعدٌ بالحريَّة والكرامة والعدالة.
والحقيقةُ ثوريَّة لأنّها بالأساس اندفاعٌ حيٌّ صوب ما إليه ينتسب الإنسانُ بما هو إنسانٌ. وهكذا فإنَّنا حين نجعل من «تونس» حيِّزًا منغلقًا دينًا وفنًّا وفكرًا وثورةً نكون قد أخمدنا أنفاس الإنسان وتطلُّعاته الكونيَّة والحال أنَّ الثَّورة في ذاتها حدثٌ كونيٌّ. وإنّني حين أختار لنفسي أختار للإنسانيَّة قاطبة. فهل في الثّورة التونسيَّة ما يجعلها أفقا كونيًّا وإمكانًا عالميًّا حتَّى وإن كان في عالم المعنى والمفهوم؟ إن لم يكن بالإمكان تشريعُ الثّورة للناس جميعا وحيثما كانوا فلا مكان لتشريعها تونسيًّا.وتلك في تقديري أزمة النُّخبِ التونسيَّة وقد استغرقها المحلِّيِّ وتاهت عنها السَّماءُ في رحابة مداها الخلاَّق. |