نقاط على الحروف
بقلم |
د.عبدالله التركماني |
قراءة متمعنة في الفكر السياسي للطيب تيزيني (2) |
(3) الدولة الأمنية ومرتكزاتها
تعرّف موسوعة «ويكيبيديا» الدّولة الأمنيّة بأنّها «دولة تمارس فيها الحكومة إجراءات قمعيّة صارمة ضدّ المجتمع، تتحكّم من خلالها في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة للشّعب. وغالبًا ما يتمُّ ذلك من خلال شرطة سريّة، تعمل عادة خارج الحدود التي تفرضها الجمهوريّة الدّستوريّة. في الدّولة الأمنيّة عادة ما تظهر مظاهر الشّمولية والرّقابة الاجتماعيّة، وعادة ما لا يوجد ما يميّز بين القانون وممارسة السّلطة السّياسيّة من جانب السّلطة التّنفيذيّة».
أمّا فقيدنا الطّيب تيزيني فقد أسقط هذا التّعريف العام على الواقع العربي، حيث قال أنّ مشروع الدّولة الأمنيّة «بدأ مع مشروع الوحدة بين مصر وسوريّة، حيث كان الشّرط الأول للانضمام إلى الوحدة إلغاء الأحزاب، بالتّالي إلغاء الحياة السّياسيّة». واليوم ها نحن نعيش الحالة بامتياز فـ «الدّولة الأمنيّة، في معظم أرجاء عالمنا العربي، صادرت السّياسة والدّيمقراطيّة، وابتلعت كلّ القوى التي كانت تتطلّع إلى بناء الأوطان. وفي طريق صعودها ابتلعت ثلاث مرجعيّات: المرجعيّة السّياسيّة، والمرجعيّة الثّقافيّة، ثمَّ المجتمع ذاته» (21).
وكثيرًا ما تحدّث عن النّظام الأمني، الذي رفع شعاره الشّهير «يجب أن يَفْسُدَ مَنْ لم يَفْسُدْ بعدْ»، بحيث يصبح الجميع ملوّثين، ومدانين وجاهزين تحت الطّلب. وبذلك أضحى المجتمع برمته خصمًا لهذا النّظام، بعد أن تمَّ تحويله إلى أداة أو إلى قطيع، من خلال إعادة إنتاج الفساد والتخلّف، وتحويل المجتمع إلى حالة من «العقم التّاريخي»، الذي لا يحدث إنتاجًا جديدًا لبشر جديدين بآفاق جديدة. وبحيث «يظلّ هذا المجتمع سائرًا في مسار واحد، فيعيش حالة من القنوط والتخلّف والقسوة، في الإجابة عن مشكلات راهنة، ليجفّف كلّ ما يمكن أن يُنتج حالة جديدة من الإبداع في الاقتصاد أو السّياسة أو الثّقافة أو القضاء. وهي ترى أنّ هذه الحقول كلّها يجب أن يسودها حالة من الجفاف والقصور التّاريخيين، وحين ذلك تستطيع قيادة هذه الدّولة الأمنيّة أن تبقى أبدًا، فلا معارضة ولا رأي آخر»(22)، وبذلك لا تبقى فئة تكون الحامل الاجتماعي لعمليّة التغيير.
(4) هفوات «تيزيني» تجاه المجتمع المدني والمعارضة السّياسية في سورية
عندما بدأت فعاليّات نشطاء المجتمع المدني، بعد توريث بشار الأسد وخطاب القسم الذي بشّر بإمكانيّة بداية مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح، اعتبر «تيزيني» أنّ أولئك النّشطاء « يقلبون أولويّات العمل السّياسي في سوريّة، فيجعلون المجتمعيّة المدنيّة منطلق الشأن العام ومآله، والدّولة تعبيرًا عنها في مستوى السّياسة»، إذ اعتقد أنّ « الأولويّة يجب أن تُعطى لبناء الدّولة الوطنيّة التي ستبني المجتمع المدني، كما في تلك المنهجيّة السّتالينية السّاذجة»(23) .
وفي تبريره لموقفه قال تيزيني: « عند الحديث عن المجتمع المدني، من الخطأ أن نطالب بإنجاز مثل هذا المجتمع بصورة سريعة في مجتمع يعاني من إشكال العلاقات الاجتماعيّة العشائريّة والطّائفيّة والإثنيّة، وإنّ دعاة المجتمع المدني كانوا يتحدّثون عن مجتمع النّخبة، في حين أنّ الأمر الأكثر حسمًا في هذه المرحلة هو مَن المخوّل باكتشاف إشكالات الواقع والعمل عليها»، معتقدًا أنّ ما نحتاجه هو « المجتمع السّياسي والملف السّياسي الثّقافي» (23) .
ومن مظاهر تناقض مواقفه بشأن المجتمع المدني أنّه وقّع على بيان الألف من نشطاء المجتمع المدني، كما ساهم، في العام 2004، في تأسيس منظمة « سواسية» الحقوقية.
وعندما أُعلن عن إنشاء « إعلان دمشق للتّغيير الوطني الدّيمقراطي»، في تشرين الأول/أكتوبر 2005، باعتباره ائتلافًا عريضًا لقوى سياسيّة سوريّة، اعتبر «تيزيني» أنّ الإعلان « جاء في مرحلة تاريخيّة يمكن القول عنها أنّها الأكثر مناسبة لمثل هذا الإعلان، ومن ثمَّ فإنّ الشّرط التّاريخي لصدوره يفصح عن نفسه بوصفه حالة مناسبة جدًا، ممّا يؤكّد على مفهوم الوعي المطابق الذي جسده هذا الإعلان. المرحلة التي يمرُّ فيها الوضع السّوري أصبحت تستلزم وجود حركة سياسيّة وثقافيّة نشطة، تجد مهمّاتها في الإجابة عمّا يحدث في سورية، والإجابة عن آفاق التحوّلات المحتملة سوريًا وإقليميًا ودوليًا». ولكنه استدرك ليقول «إنّ وجود أخطاء في الإعلان إنّما هو أمر طبيعي، إذا ما وُضع في سياق عدّة عقود من سياسة الاستبداد الرّباعي». وعندما وضع يده على «أخطاء» الإعلان لم يكن موفقًا، إذ قال « يفتقد الخطّ النّاظم للفكر السّياسي السّوري، في نطاق كلّيته، وذلك على نحو جاءت فيه مسألتان اثنتان بصيغ مضخّمة أكثر من اللاّزم، هما: المسألة الإسلاميّة والمسألة الكرديّة»، وهنا بدا «تيزيني» أقرب إلى مزاج السّلطة السّورية، أكثر ممّا هو متفهّم لضرورة جذب الطّرفين، الإسلام السّياسي وممثلي الأكراد، إلى العمل الوطني الدّيمقراطي العام. خاصّة أنّ مأخذه تجسّد بقوله « كان مناسبًا أن يميز(الإعلان) بين الإسلام كمعتقد ديني والإسلام كمنطلق سياسي لحركة سياسيّة سوريّة، تشتغل في نطاق ما يُطلَق عليه الإسلام السّياسي. ومن ناحية أخرى كان التّمثيل الكردي في الإعلان قد جاوز ما ينبغي أن يكون عليه، وذلك من موقع ملاحظة أنّ ما طالب به الإعلان إنّما هو أكثر ممّا ينبغي أن يتحقّق في إطار دولة جمهوريّة سوريّة موحّدة».
كما أخذ على الإعلان أنّه لم يتناول «الصّراع العربي الإسرائيلي، في إطار الصّراع مع المشروع الأميركي الإسرائيلي العولمي». وكذلك قوله إنّ الإعلان « ترك مسألة العلاقة بين الدّاخل والخارج مفتوحة، على نحو قد يعطي الانطباع بأنّ أمرًا ما، على هذا الصّعيد، لا يوجد بوصفه عائقًا أمام الإصلاح الوطني الدّيمقراطي السّوري» (25). وهنا نرى أنّ فقيدنا «تيزيني» قد أخطأ البوصلة، ظنًا منه أنّ الإصلاح كان على أبواب دمشق، مما يعكس نزعات رغبويّة لدى المفكّر، أكثر ممّا يعكس رؤية عميقة لبنية نظام الاستبداد.
(5) الاندراج في فعاليات الثورة السورية
اتسمت مواقف «الطيب تيزيني» من سلطة الاستبداد في سورية بـ « الاستمراريّة والتّواصل »، أكثر من ميله إلى الحديث عن «القطيعة والتّفاصل». وعليه، كان حريصًا على أن يحافظ على « شعرة معاوية» مع هذه السّلطة. ولكن، في أغلب الأحيان كان «منفصلًا» عنها، بل منتقدًا لها، إلى درجة أثارت حفيظة رجالاتها في أكثر من مناسبة. وفي الواقع فإنّ تواصله مع السّلطة بدأ يتلاشى – شيئًا فشيئًا - بعد توريث السّلطة لبشار الأسد، ومن أدلّة ذلك حديثه الدائم عن «قانون الاستبداد الرّباعي»، و«الدّولة الأمنيّة» التي حوّلت المجتمعات إلى «الحطام العربي». ومع بداية الثّورة السّوريّة بدا لتيزيني أنّ هذا الحطام قد « أصبح حطامًا مفتوحًا على احتمالات عديدة».
وعلى الرّغم من تأييده الكامل والصّريح للثّورة السّورية، فإنّه « ظلّ يرفض المواجهة الصّدامية الكاملة مع السّلطة الأسديّة، ويأمل بأن تصلح هذه السّلطة نفسها بنفسها، وتخضع لمطالب الثّائرين. وعلى هذا الأساس، سعى إلى تشكيل (مجلس الحكماء)، وبلغت آماله درجة المراهنة على إمكانيّة وجود حكماء في هذه السّلطة. ومع خبوّ هذه الآمال وازدياد ضعفها لاحقًا، ازدادت مواقفه جذرية وانفصالًا عن السّلطة، وظهر ذلك في انتقاده الشّديد لما أسماه بـ (الأبديّة الأسديّة)» (26).
وفي الواقع أخذت مشاركاته في الشّأن العام، منذ توريث السّلطة لبشار الأسد « طابع النّقد الحادّ لتركيبة النّظام وسياساته وممارساته، وترافق ذلك مع دعوته المستمرة إلى الإصلاح»(27). ومنذ بداية الثّورة السّورية، في آذار/مارس 2011، كان للطّيب مواقف مشرّفة، كلّفته مضايقات واعتداءات ومشاكل عديدة، خاصة مشاركته في الاعتصام أمام وزارة الدّاخلية، في 17 آذار/مارس 2011، حيث تعرّض للأذى من قبل عناصر الأمن السّوري. كما شارك في اعتصام السّاعة في حمص، في 18 نيسان/أبريل 2011، وروى كيف قتل النّظام 1300 صبية وشابًا في ذلك الاعتصام وبكى، في لقاء تلفزي، بكاءً حادًّا.
ومن أبرز الأمثلة على مواقفه المتميّزة ما طرحه في مؤتمر الحوار، الذي دعا إليه النّظام في 10 تموز/يوليو 2011، بحضور فاروق الشّرع. حيث أكّد على أنّ اللّجنة التّحضيريّة للمؤتمر كان يجب أن تتشكّل من السّلطة والمعارضة، كما طالب بتفكيك الدّولة الأمنيّة، باعتباره حجر الزّاوية في الحلّ، وحينها سيكون في مقدور سورية الخروج من الحطام المتراكم. وفي حوار مع فضائية «الميادين»، ذات الميول الإيرانية، في 3 تموز/يوليو 2012 « لم يبرّر تيزيني للنّظام خياره الأمني في مواجهة الثّورة، ولم يندّد بالمعارضة والثّورة، على الرّغم من محاولات المحاور إلى دفعه نحو ذلك، بل قال: لماذا لا تكون الممانعة والمقاومة مع الدّيمقراطية؟ لماذا تكونان ضدها؟» (28).
وفي سياق المقابلة نفسها أكّد « كانت المطالب في البدايات سلميّة، وقد رأيتها في حمص ودمشق، وكان جميلًا لو أنّ هؤلاء، الذين خرجوا ليعلنوا عن مطالبهم، أن يُسمَع إليهم، وحين ذلك ربّما كان الأمر سهلًا جدًا، لكنّني أرى في الرّصاصة الأولى حالة مأساويّة أتت بما أتت به لاحقًا، ونحن الآن نعيش حمولات هذه الرّصاصة الأولى بصيغة مأساويّة، ومع ذلك أقول إذا حدث الآن أن صدر قرار من أعلى سلطة في سورية من الرّئاسة بوقف العنف، بشرط أن يقف العنف كلّه، فإنّ هذا في ظنّي سيكون مسألة تاريخيّة هائلة بأهميتها».
بل أنه في حديث خاصّ مع موقع فضائية «المنار» الإلكتروني، أشار إلى أنّ « الثّورة السّوريّة ماضية حتّى تحقيق النّصر» (29) .
لقد انشغل تيزيني بتحوّلات الثّورة السّوريّة، ولم يخلُ أي حديث معه أو محاضرة له عن ذكر «التّراجيديا السّوريّة»، وقد فسّر تمرّد الجيل الشّاب بقوله «هؤلاء شعروا بالإذلال نتيجة البطالة والإقصاء، والإهمال، فاختزلوا كلّ الطّبقات والفئات، وأعلنوا عن ذواتهم على نحو باغتنا جميعًا، لذلك فنحن أمام خريطة فكريّة جديدة، سبق إخراجها بيولوجيًا من السّاحة الثّقافيّة والسّياسيّة، والآن أتى دور الأبناء والأحفاد كي يبلوروا رهانات أخرى تطيح المسارات الثّابتة»(30).
وعندما سُئل عن توصيف ما حصل في تونس ومصر وسوريّة أطلق عليه «هبّة أو انتفاضة»، ويمكن أن «تكون الثّورة قادمة فيما إذا سارت هاتان – أي الهبّة والانتفاضة – في سياقهما التّاريخي وسارتا بنجاح»، إذ إنّ العملية مركّبة «تندرج في مهمّة واحدة هي إعادة بناء المجتمعات العربيّة، بما يحقّقه من كرامة وكفاية مادّية وحرّية»(31). وعمّا إذا كان ينطبق ما يجري في سوريّة، من عمليات عنف وقتل مدعومة من الخارج، تسمية «الثّورة»، أجاب «إنّ ما يحدث ليس ثورة، بكلّ ما للكلمة من معنى، ولكنّه مهيأ لأن يكون ثورة، هو حالة انتقاليّة». وحمّل النّظام مسؤوليّة الحوادث الأمنيّة، وقال « فلنسأل من الذي بدأ بسفك الدّماء»، وأنّ «الظّرف اليوم يتطلّب من الدّولة أن تقوم بواجباتها وإلاّ فلترحل»(32). وفي المقابل أشار إلى أنّ «الكتلة البشريّة» السّوريّة، التي تحرّكت من أجل الحرّية، هي «الحامل الاجتماعي لهذه اللّحظة التّاريخية». إذ إنّ خطاب الحراك الشّبابي كان وفيًّا للحظة الرّاهنة والمستقبل «الرّفض العارم للدّولة الأمنيّة المتوغّلة في التّوحّش، والتّركيز على ما من شأنه المضي قدمًا بالشّعب السّوري نحو دولة المواطنة، قبل أن ينفتح الحراك على جحيم طائفي أوقده نظام غولي وتوحّش إسلاموي، منبتّين عن الحياة ويتغذيان معًا على أسوأ ما أنتجه الماضي من أحقاد». وهنا أكّد أنّ النظام قد استغل بعض الشّعارات ذات الصّبغة الدّينية الشّعبية، في المرحلة السّلمية للثّورة، لـ «يخرجها عن سياقها، ويسرع بدفعها إلى خانة الإرهاب والطّائفية، حتّى يسوّغ لنفسه باستعمال السّلاح ضدّها»(33).
وبعد عسكرة الثّورة، أشار «تيزيني» إلى خصائص الحراك الثّوري ومعوّقاته «غياب الكتلة التّاريخية والحامل الاجتماعي وعنف النّظام وتحالفه مع الخارج وضبابيّة مطلب القطيعة مع الماضي». إضافة إلى «عدم وجود إجماع دولي على طبيعة التّغيير في سوريّة، وعدم أخذ العامل الإسرائيلي في الحسبان، ورخاوة تحالف أصدقاء سوريّة، وتناقض أجنداتهم، وصراعات الفصائل المسلّحة وارتباطاتهم الخارجيّة، والمراهقة السّياسية لعقليّة بورجوازيّة صغيرة وفلاحيّة أسلمت الثّورة الوطنيّة، مقابل صلابة حلفاء الأسد الذين لولاهم لكان النّظام في خبر كان»(34).
وفي تطور دراماتيكي، مناقض لمشروعه الفكري القائم على رفض الهيمنة الغربيّة والأجنبيّة، دعا «تيزيني» إلى «تدخل أجنبي إنساني فوري لإنقاذ الشّعب السّوري من المذبحة، التي يتعرّض لها على يد نظام بشّار الأسد. المساعدات الإنسانيّة أصبحت ضرورة قصوى لإنقاذ الشّعب السّوري، فهناك غياب شبه كامل للمواد الأساسيّة التي يحتاجها المواطن. والتّدخل الأجنبي أصبح ملحًّا. فسورية وقّعت على عدد من الاتفاقيات الخاصّة بحقوق الإنسان والمساعدات الدّولية، ومن ثمّ فهي دعوة في المقام الأول لوقف العنف وتخفيف الوطأة على الشّعب، ويمكن بعد ذلك التّأسيس على عمليّة بناء جديدة لا تقوم على الثّأر وإنّما على العدالة».
وعندما بدأ الحديث يتواتر عن احتمال تفكك سورية، قال تيزيني «لقد أصبح البلد مستباحًا، إنّه شيء مأساوي، البلد مستباح تمامًا من عصابات النّظام في سورية ومن القوى الرّسمية، فالآخرون صاروا يشاركون بعد أن فقدوا القدرة على الوقوف في وجه الرّصاص»(35).
وقبيل وفاته سُئل عن توصيف ما يجري في سورية، فأجاب « سورية الآن ساحة مبتذلة للعالم، الكلّ يسعى لتحصيل موقع له فيها، وهي تعيش اليوم تمزّقًا هائلًا. بعضهم يريد أن يبقى خمسين سنة، وآخر 25 سنة، وثالث يريد أن يبقى دائمًا، فالخلاف صار حول فترات البقاء والتملّك في سورية، وهذا ينذر بأنّ سورية قد تمزّقت، لكنّ هذا لن يحدث. سورية في لحظة واحدة يمكن اكتشافها متآخية حتّى الثّمالة، بحيث لا يستطيع هؤلاء الأغراب أن يأخذوا ما يأخذون»(36).
وممّا يُؤخذ على «تيزيني»، عند الحديث عن احتمال تقسيم سورية «أنّه ينزع عن الكورد شعورهم الوطني، بتضادّ مع المجموعات الأخرى التي ترفض التّقسيم، نظرًا لمخزونها الوطني». وهنا يكشف هوشنك أوسي الافتراضات المسبقة التي « تشوب خطاب المفكر هنا، وارتهانه لرؤية ميتافيزيقيّة تنأى عن الواقع وتقترب من الخطاب السّائد، الذي لم تنفك أدبيّات حزب البعث عن تكراره.. وهذا الرّأي يقف بالضدّ من معطيّات التّاريخ الحديث لسورية، منذ تشكّل الكيان السوري» (37) .
ومن جهة أخرى، أكد أنّ سورية تحترق «في الماضي كان هناك صراع طائفي كامن، لكنّ اليوم هناك من يتم جلبه إلى سورية، في مقابل إخراج السوريين من بلادهم بالملايين وتوزيعهم على العالم»(38) .
وعندما طرح النّظام دستوره الجديد في العام 2012، قال تيزيني « نحن فوجئنا أمامنا بنسخة من دستور جديد، قد تكون فيه جوانب إيجابيّة جيّدة ومرحّب بها، لكنّه لم يأتِ في السّياق المطلوب. كما أنّ هذا الدستور فيه جوانب ضعيفة مرفوضة، كأن يظل الرّئيس يحكم لمدّتين هما 14 سنة، وكذا كان لابدَّ من البدء بانتخابات وطنيّة، كي نؤسّس لمؤتمر وطني يضع الدّستور، لكنّ السّلطة وضعت الدّستور وطالبت السّوريين بإبداء الرّأي فيه، لقد وضعوا الدّستور والقتال والقتل والقصف دائر في شوارع حمص وغيرها، ولذا فإنّ هذا الدّستور لا يعني شيئًا، وهو حبر على ورق»(39) .
وفي العام 2016، عندما انعقدت المفاوضات بين ممثّلي النّظام والمعارضة تحت سقف الأمم المتحدة، ذكّر «تيزيني» بـ «مبادئ ميثاق شرف بين السّوريين»، الذي كان قد قدّمه في العام 2015، فقال « لقد أصبح من العار أن تستمر لعبة الموت في سورية». وتذكيرًا بهذه المبادئ، طرح مجموعة نقاط تضبط العمل السّياسي، تتمثّل في « 1 – لا لتقسيم سورية أرضًا وشعبًا، 2 – لا للطّائفية كحل سياسي أو مسلك اجتماعي وفكري، 3 – لا للثّأرية في مواجهة الفعل السّوري، وخصوصًا بصيغة الانتقام، بل نعم لسيادة الآلة الاجتماعيّة والمساواة الإنسانية. 4 – لا للإرهاب والتطرّف، بل نعم لتعدديّة ديمقراطيّة مفتوحة». كما تحدث عن حلقتين أخريين لتأسيس عملية إعادة بناء سورية «إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين والمخطوفين في سجون سورية، مع الدخول في عملية تفكيك الدولة الأمنية. ومن ثمَّ استعادة المهاجرين من كل الدول والأطراف في الداخل والخارج، وكذلك إدخال الإغاثة غير المشروطة لكل النقاط المنكوبة ». وصولًا إلى مؤتمر وطني شامل «يواجه مسائل بناء النظام السياسي، والدستور، والمرجعيات الثلاث: القضائية، والتشريعية، والتنفيذية، مع العمل على انتخابات برلمانية ورئاسية» (40).
وهكذا، بقي تيزيني يطرق الأبواب لعلها تفتح على إصلاح حقيقي في سورية، وكان تبريره لهذا الطّرق « ليست هناك بنية مغلقة على الإطلاق، فهذا غير موجود في سورية. لذلك، كنت أفكر دائمًا أنني قادر على اكتشاف ثغرة في هذه البنية. لذا، كان مهمًا بالنسبة إليَّ أن أستطيع فعل شيء، ولو كلمة»!! (41) . وكان رهانه على الدّاخل السّوري « ننطلق من أولوية الإصلاح الوطني الدّيمقراطي، وليس ممّا يقوله رموز في النّظام وفي المعارضة، أي من الخارج الذي، كما يقولون، هو الذي يمتلك الأولويّة حيال مشكلاتنا الرّاهنة». وفي أكثر من محاضرة أو مقالة أو مقابلة صحفية كان فقيدنا يؤكد على المشروع الوطني الديمقراطي للإصلاح والتغيير، وكان يؤكّد أنّ «الملف السّياسي يمثل بداية الموقف، انطلاقًا من أنّ هذا الملف هو الذي يؤسس للملفات الأخرى، حيث يقوم بإعادة الاعتبار للمجتمع السياسي وللأحزاب السياسية، وبالتّالي للتّفكير العقلي الحاسم، وغير المراوغ، في استصدار قانون عصري ديمقراطي للأحزاب. وقد تلكأ النّظام السّوري طويلًا في هذا الأمر»(42) .
خاتمة
مع انطلاق ربيع الثّورات العربيّة في العام 2011، بدا فقيدنا الطّيب تيزيني متفائلًا بأنّ «الحطام العربي» مفتوح على احتمالات عديدة، بما فيها إمكانيّة فتح الأفق على الإصلاح والتّغيير. بعد أن تحدّث كثيرًا عن « تماهي» الدّولة والنّظام في أغلب الدّول العربيّة، خاصّة في سورية، حيث تغوّلت السّلطة على الأرض والشّعب والمؤسّسات، وظهر ذلك جليًّا في خيارها الأمني، منذ بداية الحراك الشّعبي السوري، ممّا رسّخ هذا التّماهي في ذهنيّة الموالين للنّظام، وأيضًا لدى العديد من المعارضين.
ولأنّ الأخطاء، التي تُرتكب، في نطاق نظام ديمقراطي، يمكن تصويبها والتقليل من مضّارها بالديمقراطية نفسها، فإنّ فقيدنا أدرك ثقل المسألة السّورية ومخاطر استمرارها، وضرورة التّأسيس لعقد اجتماعي جديد بين كلّ السوريين، تتحدّد مهمته المركزيّة في إعادة بناء المجتمع السّوري وفق معايير وآليات النّظام الدّيمقراطي
الهوامش
(21) حوار داليا عاصم مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(22) حوار عبير يونس مع الطيّب تيزيني، صحيفة « البيان «، دبي 10 نيسان/أبريل 2011.
(23) ميشيل كيلو، الطـيّـب تـيـزيـنـي أو فـيـلسـوف الـعـصـر!، صحيفة « النهار «، بيروت 22 آب/أغسطس 2003.
(24) حوار مفيد نجم مع الطيّب تيزيني، الملف السياسي لصحيفة « البيان «، دبي 25 تموز/يوليو 2003.
(25) حوار أبيّ حسن مع المفكر السوري الطيّب تيزيني، حاوره في القاهرة، صحيفة « المستقبل «، بيروت 4 كانون الأول/ديسمبر 2005.
(26) حسام الدين درويش، من هو الطيب تيزيني؟ ملاحظات منهجية وإجابة أولية، الموقع الإلكتروني لصحيفة « المدن «، بيروت 27 أيار/مايو 2019.
(27) فايز سارة، الطيب تيزيني في الكلام الهادئ، صحيفة « الشرق الأوسط «، لندن 22 حزيران/يونيو 2019.
(28) عمار ديوب، الفيلسوف الذي أبكته الدولة الأمنية، صحيفة « العربي الجديد «، لندن 21 أيار/مايو 2019.
(29) موقع فضائية «المنار» يلتقي المعارض السوري الطيّب تيزيني، صحيفة « الشرق الأوسط «، لندن 2 تموز/يوليو 2012.
(30) حوار خليل صويلح مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(31) حوار راشد عيسى مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(32) موقع فضائية « المنار « يلتقي المعارض السوري الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(33) د. خالد حسين، ماذا في وسع الفيلسوف في لحظة الدم (عن حوار الحيرة والاحتمال الذي أجرته مجلة « الجديد « اللندنية)، عن الموقع الإلكتروني « مدارات كرد «، 7 كانون الأول/ديسمبر 2015.
(34) حوار زهير توفيق مع الطيّب تيزيني، مجلة « الجديد «، عمّان 1 آب/أغسطس 2015.
(35) حوار حسن عبدالله مع الطيّب تيزيني، صحيفة « الوطن «، الكويت 24 شباط/فبراير 2012.
(36) حوار سناء إبراهيم مع الطيّب تيزيني، صحيفة « الأخبار «، بيروت 6 أيلول/سبتمبر 2017.
(37) د. خالد حسين، ماذا في وسع الفيلسوف في لحظة الدم...، المرجع السابق.
(38) صلاح الدين الجورشي: كلّ ما كتبته في محل إعادة نظر – صحيفة « العربي الجديد «، لندن 2 شباط/فبراير 2017.
(39) حوار حسن عبدالله مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(40) د. الطيّب تيزيني، ميثاق شرف بين السوريين، صحيفة « الاتحاد «، أبو ظبي 21 آذار/مارس 2016.
(41) حوار سناء إبراهيم مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
(42) حوار أبيّ حسن مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق. |