تأملات

بقلم
النوري بريّك
فقه التّفاؤل والأمل في السّيرة النبويّة

 التفاؤل هو شعور داخليّ بالرّضا والثّقة، فصاحب الحقّ سعيد في مسعاه، ‏متوكّل على مولاه، قال تعالى ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (1). عن تميم الدّاري عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ ‏اللّيل والنّهار، ولا يترك اللّه بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله اللّه هذا الدّين، بعزّ عزيز، أو ‏بذلّ ذليل عزّا يُعزّ اللّه به الإسلام، وذلاّ يذلّ به الكفر.»(2). وقوله صلّى الله عليه وسلّم ‏وهو في غار ثور وأحد الكفّار على باب الغار: «لا تحزن إنّ اللّه معنا» مخاطبا بها أبا ‏بكر ... ‏

الأمل الدّائم من سياسة كلّ الأنبياء والرّسل لأنّه دال على ثقة في اللّه وأنّهم على الحق ‏ولا بدّ للحق أن ينتصر مهما انتفخ الباطل وعربد وقد جاء على لسان يعقوب عليه ‏السّلام ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (3).‏‎ ‎
سياسة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قائمة على بثّ روح التّفاؤل والأمل في نفوس ‏أصحابه وأتباعه وكان ذلك يولّد فيهم طاقة هائلة ويحفز هممهم ويدفعهم إلى الجدّ ‏والاستماتة في التّقدّم نحو الهدف وإلى ذلك يشير قوله تعالى ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ ‏وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (4).‏‎ ‎
وقد أورد ابن هشام في السّيرة النبويّة عن سلمان الفارسي أنّه قال:«ضربت في ناحية ‏من الخندق فغلظت عليَّ صخرة ورسول الله قريب منّي فلمّا رآني أضرب ورأى شدّة ‏المكان عليّ، نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول ‏برقة..... قلتُ بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت ‏تضرب؟ قال :أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قلت نعم، قال: أمّا الأولى فإنّ اللّه فتح ‏عليّ بها اليمن، وأمّا الثّانية فإنّ اللّه فتح عليّ بها الشّام والمغرب، أمّا الثالثة فإنّ اللّه ‏فتح عليّ بها المشرق» (5). ومن حرارة الأمل والتّفاؤل بالأفضل موقف النّبيّ صلّى الله ‏عليه وسلّم في الهجرة مع سراقة بن مالك عندما قال له: «ارجع ولك سواري كسرى»، ‏كسرى وهو الملك المؤلّه في قومه صاحب العرش المنيع يَعِد محمد بسواره وهو يشق ‏الصّحراء شبه وحيد، خائفا، ملاحقا، ولكنّه الأمل العظيم وأنّ الحقّ لا بدّ منتصر ‏وظاهر، ومن ذلك أيضا قوله صلّى الله عليه وسلم ليلة معركة بدر : «سيروا وأبشروا ‏فإنّ اللّه وعدني إحدى الطّائفتين، واللّه لكأنّي أنظر الى مصارع القوم»(6). وفي روايات ‏أخرى راح يحدّد بعض أسماء كفّار قريش ويقف في موضع بعد موضع ويقول: هنا ‏مصرع أبي جهل، هنا مصرع أميّة بن خلف. وكلّ ذلك تأكيد لبث التّفاؤل في ‏أصحابه وقوّة في أمل وانتظار للنّصر.‏
‏ الأمل والتّفاؤل من أهمّ عوامل النّصر في السّياسة لأنّ ذلك يدلّ على الثّقة في النّفس ‏وأنّها على حقّ وهو حسن الظنّ باللّه مقلّب الأيّام واللّيالي، وإنّ القرآن علّمنا أنّه حين ‏تنزل البلايا وتشتدّ الأمور إذا تعاطاها الإنسان بمنطق السّنن الكونيّة وحسن الأخذ ‏بالأسباب فلا شكّ أنّ المحن ستستحيل إلى منح وأنّ العطايا ستكون في ثنايا الرّزايا. ‏ففي غزوة الأحزاب أزمع بنو قريظة على نقض عهدهم مع الرّسول ولمّا بلغ الخبر ‏النبيّ أرسل سعد بن معاذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة سيّد الخزرج يتحرّيان الخبر، ‏فلمّا رجعا له بنقض اليهود العهد وما في ذلك من شدّة على المسلمين، قال صلى الله ‏عليه وسلم : «اللّه أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين»(7) سألت عائشة النبيّ صلّى الله ‏عليه وسلّم : «هل أتى عليك يوم أشدّ من يوم أُحُدٍ؟»  قال: «لقد لقيت من قومك ما ‏لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن ‏عبد كلال فلم يجبني الى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق الاّ ‏وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، ‏فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك ‏الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال : يا محمد إن ‏شئت أن أطبق عليهم الأخشبين... » ‏فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ‏وحده لا يشرك به شيئا» (8).‏
وبنفس القدر كان صلّى الله عليه وسلّم يبث الأمل في نفوس أصحابه وخاصّة من ‏المؤمنين الجدد حتّى يملأهم ثقة في اختيارهم هذا الطريق مراعيا الجانب النّفسي فيهم ‏حيث يشعرهم أنّهم بالإسلام يكسبون ولا يخسرون فكان كثيرا ما يبقي من أسلم في ‏وظيفته التي كان عليها قبل ذلك، فكان خالد بن الوليد قائد فرسان مكة ولما أسلم ‏أصبح قائد فرسان المسلمين، وعند فتح مكّة كان مفتاح الكعبة عند عثمان بن طلحة، ‏فأخذه النبي منه ثم ناداه وقال له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» (9) وذلك برغم أن عليّ بن أبى طالب رغب في أن يكون المفتاح في عائلتهم، فقد خاطب ‏النبيّ: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية(10). وكذلك موقفه عليه السّلام من أمّ ‏هانئ عندما استجار بها في فتح مكّة بعض من أُهدْر دمهم، وهم ممّن أجرم في حقّ ‏الدّين، ولكن النّبي عليه السّلام راعاها وأشعرها بقيمتها، فقال لها: «أجرنا من أجرتِ يا ‏أمّ هانئ»(11).‏
إن هذا التّفاؤل والأمل يحقّق في النّفس شعورا بالهدوء والتّوازن وحكمة التّعامل مع ‏الآخرين وخاصّة الخصوم والمنافسين فقد اتسمت تصرّفات النبيّ صلى الله عليه وسلّم ‏في السّياسة بالحكمة والقصد الى تحقيق المصلحة والأمن للجميع ما دام المآل لصالح ‏الحقّ الذي جاء به الدّين، والابتعاد عن الفتنة ما أمكن، لقد حدّد الاسلام العلاقة مع ‏غير المسلمين في آيتين محكمتين تمثّلان دستورا في هذه العلاقة، قوله تعالى ﴿لا ‏يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا ‏إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم ‏مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (12). ‏هاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين عبدة الأوثان ولكن الله شرع البرّ بالمسالمين ‏منهم والإقساط لهم، فأعطى الأولويّة لمفهوم البرّ وهو لفظ يعبّر به المسلمون على ‏أقدس علاقة بعد العلاقة بالله وهي العلاقة بالوالدين. وإذا كان الإقساط يعني العدل ‏وهو إعطاء الحق لصاحبه، فإنّ البرّ هو إعطاء أكثر من الحقّ كأن يتنازل المسلم لهم ‏عن بعض حقّه إكراما وتقريبا لهم وبحثا عن المصلحة العامّة والعليا كمصلحة المجتمع ‏أو مصلحة الوطن(13). 
من أجل كلّ هذا قامت سياسة النبىّ على الرّفق والمعاملة ‏بالحسنى والبحث عن المشترك وإن قلّ وتغليبه عن المختلف فيه وإن كثر، معتبرا أن ‏سياسته حتّى مع الأعداء تدخل في إطار الدّعوة الى الخير والعمل على الإصلاح ‏والتّغيير، وإذا كانت حياته صلّى الله عليه وسلم كلّها دعوة، فإنّها مؤطّرة بقوله تعالى: ‏‏﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ‏أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(14)  إلاّ أنّ هذا لا يناقض الحزم ‏والفطنة والحيلة والشدّة عندما يستدعي المقام ذلك والسّياسة حقل خصب لمثل هذا ‏السّلوك الحذر.‏
ألا يمكن أن يستفيد الفرقاء السّياسيّون الحاليّون من هذه التّجربة السّياسيّة التي خطّ ‏معالمها النبيّ الأكرم وسط زحام من الاختلافات المتشبّثة بعاداتها وقيمها المفارقة ‏للإسلام والمترصّدة له ولكنّ النّبيّ القائد بنى دولة بالحكمة وسياسة الجمع والصّبر، ألا ‏يتشوّق كلّ سياسي اليوم لبناء دولة قويّة آمنة يشعر فيها المواطن بالعزّة والكرامة ، نحن قاب قوسين أو أدنى لو يعتبر المعتبر وينظر الى موضع قدميه لا الى حدّ أنفه‏، نحن كأصحاب عقيدة راسخة في الله نوقن أنّ الدّائرة للحقّ وأنّ الباقي هو الصّالح ‏ولكنّ كثيرا من النّاس لا يعلمون. ‏
 
الهوامش
(1) ‏- سورة آل عمران: 3/139.‏
(2) ‏- الألباني (محمد ناصر الدين ت 1999م): م. س، الفتن وأشراط الساعة والبعث ص495 حديث ‏‏2702.‏
(3) ‏- سورة يوسف: 12/87‏
(4) ‏- سورة الأحزاب: 33/22‏
(5) ‏- ابن هشام (محمد بن عبد الملك ): م.س، ج 3 و4 ص 219‏‎.‎
(6) ‏- م.ن. ج 1،2 ص 615‏
(7) ‏- ابن هشام (محمد بن عبد الملك): م.س، ج 1،2 ص 222‏
(8) ‏- البخارى(محمد بن اسماعيل: م.س، كتاب بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم، آمين... ج 2 ص 115 ‏حديث رقم 3231‏
(9) ‏- ابن هشام (محمد بن عبد الملك ـ): م.س، ج 3-4 ص 412  ‏
(10) ‏- ابن هشام (محمد بن عبد الملك ـ): م.س، ج 3-4 ص 412  ‏
(11) ‏- القرافي (شهاب الدّين): الذّخيرة، تحقيق محمد بوخبزة، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، الطبعة ‏الأولى، 1994م، ج3، ص 445.‏
(12) ‏- سورة الممتحنة : 60/8-9‏
(13) ‏- انظر: القرضاوي (يوسف): فقه الجهاد، مكتبة وهبة، القاهرة، 2009م، ج 2 ، ص1038-1039‏
(14) ‏- سورة النحل: 16/125‏