شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
محمد علي الحامّي أيقونة العمل النقابي

 هو رمز الحركة النقابية التونسية ورائدها وهو مناضل ميداني شرس ومؤّسس أول تنظيم عمالي في العالم العربي وأفريقيا. برغم حياته القصيرة ووفاته في ريعان شبابه، نحت اسمه في تاريخ البلاد التونسيّة وسيبقى عالقا في أذهان أبناء هذا الشعب بمختلف التوجهات الفكريّة والسياسيّة. إنّه المناضل النّقابي محمد بن علي بن المختار الغفّاري شهر الحامّي.

ولد محمد علي عام 1894 (أو 1890 بحسب مصادر أخرى) في مدينة الحامة من ولاية قابس، في عائلة فقيرة، فكان لطفولته البائسة الأثر الكبير في شخصيته وأفكاره واهتمامه بالطبقات المعدمة والكادحة. 
اضطرّ الحامّي نتيجة الفقر والحرمان إلى ترك مدينته الصغيرة «الحامة»، في جنوب شرق تونس والانتقال إلى العاصمة تونس بحثاً عن وضع أفضل وآفاق أوسع للعيش. اشتغل بسوق الغلال بالحي الأوروبي حمّالا يقوم بإيصال ما يشتريه روادها من الأجانب إلى بيوتهم. وهناك تعلم اللغة الفرنسية، ثمّ تعرّف على القنصل النمساوي بتونس خلال جولة له في السّوق فاتخذه خادماً خاصّاً لإدارة شؤون منزله، فتعلّم منه اللّغة الألمانيّة وكان يسافر معه كلّ عام إلى النّمسا خلال إجازته الصيفية.
كان الحامي سريع البديهة والتعلم فاستفاد إلى أبعد الحدود من عمله مع القنصل النمساوي، حتى أنّه تعلم قيادة السّيارات وتصليحها وحصل على شهادة سائق وميكانيكي التي كانت يومذاك حكراً على الأوروبيّين. وفي نفس الوقت التحق بجامع الزيتونة أين كان يتابع دورساً ليلية في اللغة العربيّة والفقه وغيرها.
إلاّ أنّ مغادرة القنصل النمساوي تونس، أجبرت الحامّي على البحث عن عمل جديد فاستغلّ معرفته لقيادة السيّارات للعمل عند أحد الأعيان. ثمّ انتدبه عدد من التجار والأعيان في تونس لتوصيل المساعدات المالية والطبية للقوات العثمانية على اثر اندلاع الحرب في طرابلس الغرب بين القوات الإيطالية الغازية والجيش العثماني فكان طوال الحرب يقوم برحلات دورية بين تونس وليبيا. وفي أواخر العام 1910، قرّر الالتحاق بساحة القتال. فانضم إلى الجيش العثماني في بنغازي والتقى هناك الشيخ السنوسي الأكبر، زعيم الحركة السنوسية المناهضة للاستعمار. وبعد سقوط طرابلس، رحل الحامي إلى إسطنبول واشتغل مع أنور باشا، وزير الحربية العثمانيّة الذي كان قد تعرّف عليه في ليبيا. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى انضمت تركيا للحرب إلى جانب الالمان، وكان الحامي يعرف اللّغة الألمانية، فعُيّن مترجماً لدى مؤسّسات الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب.
بعد انتهاء الحرب بهزيمة الألمان وتقسيم الدولة العثمانية، كان الحامي مقيما في برلين فتأثر بأفكار اليسار التي كانت تتمدد بشكل واسع في الأوساط الثقافية والطلاّبية بالتّزامن مع انتصار الثّورة البلشفية في روسيا وصعود الاشتراكيّة الديمقراطية في عدد من الدول الأوروبية وقرّر مواصلة تعليمه العالي، فالتحق بقسم الاقتصاد والعلوم السّياسية في جامعة برلين ونال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1924.
ثمّ عاد في نفس السنة إلى تونس متحمساً للعمل في الشأن العام. كانت البلاد آنذاك تعيش غليانا اجتماعيا أجّجته الأزمة الاقتصادية لسنة 1923وأطّرته الثقافة الشّعبية السّياسيّة (الصّحافة، المسرح، الجمعيّات الثّقافية والرّياضية، المقاهي...). وهي الثّقافة التي أفرزتها تحوّلات ما بعد الحرب. وليس من باب الصّدفة أن يكون مقرّ «الجمعية الخلدونية» المكان الملائم الذي بيّن فيه محمد علي الخطوط الكبرى لبرنامجه الاقتصادي الاشتراكي الرامي إلى تأسيس شركات تعاونية زراعيّة وصناعيّة وتجاريّة وماليّة في أهمّ مراكز البلاد، بيد أنّ الظّروف السّياسية (هيمنة رأس المال الأجنبي وسيطرته على الدّواليب الاقتصاديّة) وحالة التخلّف التي كانت تكبّل المجتمع التونسي جعلت محمد علي يُدرك واقع البلاد فيُوجّه عنايته إلى بعث جمعيّة التّعاون الاقتصادي في القطاع التّجاري فحسب في 29 جوان 1924 بمساعدة ثلّة من أصدقائه الذين كانوا يثقون في أفكاره وفي قدرته على التغيير. وخطا المشروع في الدعاية له خطوة كبيرة غير أنّ حدوث اعتصام عملة الرّصيف بالعاصمة يوم 13 أوت 1924 - وجلّهم ينحدر من الجنوب التّونسي وبالأخصّ من جهة الأعراض - غيّر مجرى الأحداث، إذ طلب العملة المعتصمون من محمد علي الذي ذاع صيته في الأوساط الشّعبية النازحة بالعاصمة أن يتولّى أمرهم. فكوّن لجنة عمل ودعم. وكان هذا الاعتصام بمثابة شرارة انطلاق حركة واسعة من الاعتصامات (ميناء بنزرت، معمل الآجر بمنزل جميل، عملة جبل الخرّوبة، عملة عربات النقل بسيدي أحمد).
وكان الدّافع الأساسي لهذه الحركة الاجتماعية مقاومة الميز العنصري الذي كان مسلّطا على العملة التونسيين (الفارق في الأجور وظروف العمل) وغطرسة رأس المال الأجنبي الذي استغلّ اليد العاملة التونسية بلا حدّ وغلاء المعيشة الذي عصف بضعاف الحال في صائفة 1924. 
وجّه الحامّي الكفاح توجيهاً جديداً بروحه الثّورية، وحاول اخراج الحركة الوطنية المتمثّلة آنذاك بالحزب الحرّ الدستوري من جمودها وبعدها عن النّاس وتوجّهها إلى نخبة صغيرة مثقّفة ذات طبيعة برجوازية، ومن أجواء الخطابة في المنتديات الضّيقة إلى الالتحام بالجماهير، فتسبب ذلك في قطيعة بينه وبين الحزب الدستوري ممّا دفعه إلى التفكير في صيغة تنظيميّة جديدة للنّضال الجماهيري ضد الاستعمار، فوجد ضالّته في العمل النقابي، فأيقظ الضمائر وحرّك العزائم. 
وبتحريض من الحامي وتطبيقاً لأفكاره الثّورية، قرر عمال ميناء العاصمة الإضراب عن العمل في أوت 1924 مطالبين برفع أجورهم، فأثار الإضراب هلعاً كبيراً لدى السلطات الاستعمارية التي لم تتعوّد مثل هذه التّحركات العمّالية لدى التّونسيين. ثم تفشّت عدوى الإضرابات نحو بقية موانئ البلاد، فشكّل ذلك نقطة تحوّل في مسيرة الحامي دفعته إلى تأسيس منظمة نقابيّة مع رفيقه وابن قريته، الطّاهر الحدّاد، واختار لها اسم «جامعة عموم العملة التونسيين».
هكذا تشكّل أول تنظيم نقابي مستقل في تونس والمنطقة العربية وكان ذلك في نوفمبر 1924. جمع التنظيم عناصر شيوعية كأحمد ميلاد والمختار العياري وأخرى دستورية كأحمد توفيق المدني والطّاهر الحداد. وفي بيانها التّأسيسي، أشارت النّقابة إلى أنّ «جامعتنا الوطنيّة النّقابية ليست مؤسّسة على التّمييز الدّيني والقومي، هي بالعكس مفتوحة في وجه العمّال الأجانب وقد علّمتنا التّجارب أنّ اتحاد النّقابات الفرنسيّة لا يهتمّ بمصالح التّونسيين».
كانت جبهة أعداء النقابة واسعة. وقف في وجهها الحزب الدستوري الذي كان منساقاً وراء الوعود الإصلاحية للجبهة الائتلافية لأحزاب اليسار الفرنسي. وعارضته الإدارة الاستعمارية الفرنسية بشدّة مسنودة بحركات اليمين الفرنسي المتطرف، التي كان أغلب متحزبيها من المستوطنين الفرنسيين في تونس، والتي كانت تخشى المطالب الاجتماعية للعمّال والمطالب السياسية الاستقلالية للتنظيم.
في المقابل، وقف الحزب الشيوعي وصحفه مع التنظيم الجديد ودعمته قواعد الحزب الدّستوري. واصل الحامي ورفاقه نشاطهم العمالي التّحريضي ونجحوا في تنفيذ العديد من الإضرابات. لكنّ توجّه الحامّي ورفاقه نحو منطقة الحوض المنجمي لحشد المزيد من الأنصار أغضب السّلطة الاستعمارية فقامت باعتقالهم وقدمتهم للمحاكمة بتهمة التآمر على أمن الدولة (فيفري 1925). وبعد إيقافهم أكثر من تسعة أشهر، قررت المحكمة الفرنسية، في نوفمبر 1925 نفي الحامي خارج البلاد عشر سنوات. غادر تونس نحو إيطاليا ثم اتّجه نحو الحدود الايطالية اليوغسلافية. ومنها وصل محمد علي إلى تركيا، إلاّ أنّ سلط هذه البلاد منعته من الاقامة بها فاتّجه إلى طنجة في محاولة للالتحاق بثورة عبد الكريم الخطّابي بالرّيف المغربي ضدّ إسبانيا وفرنسا، فقُبض عليه واقتيد في مارس 1926 إلى مرسيليا. فتسلّل إلى إحدى البواخر المبحرة إلى مصر حيث استقرّ بعض الوقت ثم انتقل إلى الحجاز. ويذكر «صديق له» أنّ الأمير ابن السعود عرض على محمد علي إحدى الوظائف السامية في مصلحة البريد. لكنه أبى واختار أن يبقى حرّا يلقي دروسا في الاقتصاد بمدرسة «الفلاح» ثم تعاطى مهنة سياقة سيارات الأجرة بين جدّة ومكّة إلى أن وافاه الأجل في حادث اصطدام بوادي المصيلة يوم الخميس 20 ذي القعدة 1346 الموافق ليوم 10 ماي 1928. وتناقلت الصحف التونسية الناطقة باللغة العربية نبأ الفاجعة.