اسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ (‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة التاسعة : لا إله إلا هو

 ورد هذا الإسم زهاء سبع وثلاثين مرة وهو مرتب من حيث تردد الورود في الكتاب العزيز في المرتبة الثانية من العشر الثانية التي إفتتحها إسمه ( رب العالمين ). هو إسم مركب بل هو ربما أطول إسم مركب وهو ثاني إسم عرف به نفسه سبحانه في أعظم آية تعرفنا به سبحانه أي آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ). كما تصدر أطول سياق حمل أكبر كمية من أسمائه سبحانه أي في آخر سورة الحشر ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم ) ثم تكرر هو نفسه في الآية التالية من السياق نفسه (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ). فكأنما هو بوضعه هذا اللصيق بإسمه العلم ( الله ) أحب إسم إليه سبحانه ولا غرو إذ هو إسم يحمل القيمة العليا والأعظم التي يريد الله توجيه عباده كلهم أجمعين إليها عسى أن يعرفوا قدره سبحانه فيعبدونه عبادة تليق بحقه عليهم من خلق وحسن تصوير وتقويم ورزق ورحمة وتعليم وحياة . يرد هذا الإسم في بعض الصيغ منها ( هو الله الذي لا إله إلا هو ) ومنها ( إلا أنا ) في مثل قوله ( لا إله إلا أنا فاعبدني ) ومنها ( إلا أنت ) في قوله على لسان يونس عليه السلام مسبحا في الظلمات الثلاث ( لا إله إلا أنت سبحانك ) وصيغ أخرى ولكن جذرها واحد وهو نفي الإلهية عن كل شيء ثم إثباتها له هو وحده سبحانه

تفكيك الإسم وإعادة تركيبه لفقه معناه
الإسم مركب وهو جملة إسمية مبتدؤها ( لا إله ) وخبرها ( إلا هو ) ويقوم تركيبه اللغوي على النفي والإثبات وهي أعلى صيغة في التحقيق إذ أن تحقيق أي شيء يقتضي أوّلا نفي ضده ثم إثباته بمثل أن البناء السليم لا يكون مشيدا إلا على أرض صلبة. ( لا ) هي لام نفي وليس لام نهي إذ هي تنفي إسما هو ( إله ) . وبذلك يكون المعنى أن الإنسان السويّ عليه أن ينفي إبتداء كل صيغة من صيغ الإلهية التي يمكن أن تترتب عليه فتسترقّه وتستعبده ومن شأن من تتخده إلها أن تكون أنت عبده المحتاج إليه في كل شيء. رسالة هذا الإسم بهذا التركيب إذن هي نفي كل إلهية لأي إله مزعوم وهو أعلى صيحة تحررية وأصدق كلمة إنعتاقية يمكن أن يلهج بها فؤاد إنسان في الحياة والوجود غابره وحاضره وطوله وعرضه. إذ خلق الإنسان حرا ليكون حرا كما عبر عن ذلك شاعر الخضراء ( الشابي ) عليه الرحمة إذ قال ( خلقت طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه ). تلك هي المرحلة الأولى من رحلة البحث عن إله يروي ظمأ الإنسان ويشفي غليله إذ أن حاجة الإنسان في كل زمان وفي كل مكان إلى إله يؤويه وبه يستجير ويستغيث ويستعين هي حاجة جبلية فطرية غريزية أشد عمقا في الكينونية البشرية من حاجته إلى الأكل والشرب جبليّا. ولكن الإنسان وهو يبحث عن ذلك الإله الذي يشعر بالحاجة الشديدة إليه عليه أوّلا ألاّ يتردد طرفة عين في نبذ كل إلهية مزعومة تسترقه وتستعبده وهي ليس أهلا لذلك. فإذا إمتلأ فؤاد الإنسان طمأنينة بأنه لا إله يستعبده وإمتلأ بمثل ذلك فمه ملء شدقيه فإنه عليه أن يقتطع له مسافة من الزمن ومساحة من الأرض يراجع فيها نفسه إذ هو في الآن نفسه يشعر بحاجة لا تشبع ولا تنطفئ إلى قيمة إلهية إليها يركن وبها يحتمي وفي الأثناء ينفي كل إلهية قد تهتبل منه شعوره الفطري ذاك فتسترقه. هنا في هذه المساحة عليه أن يسأل هذه الأسئلة الوجودية الفلسفية الكبرى التي لا أظن أن آدميا تمتد به الأيام دون أن يطرحها على نفسه ولو مرة واحدة في الحياة. سؤاله الأوّل لنفسه : هل أنا موجود؟ وجوابه قطعا : بلى أنا موجود. سؤاله الثاني لنفسه هو : هل أنا خلقت نفسي أم مخلوق؟ جوابه قطعا : أنا مخلوق لخالق إذ لم يزعم أحد في الغابر قط أنه خلق نفسه أو أنه أتى صدفة أو من غير شيء وحتى من ينكر ذلك يتلبس بالطبيعة ليقول أن الطبيعة هي التي خلقتني. سؤاله الثالث هو : من هذا الذي يخلقني متى شاء وكيف شاء وأين شاء ويصورني في الرحم فلا يستشير أمي ولا أبي ولا أحدا أبدا؟ من هذا الذي صنعني وصورني ووهب لي هذه المؤهلات البدنية والنفسية ومن هذا الذي يرزقني بالمعنى الواسع للرزق مادة ومعنى.؟ ومن هذا الذي يميتني متى شاء وكيف شاء وأين شاء ولا يستشير في ذلك أحدا أبدا؟ كل تلك الأسئلة لا بد أن لها جوابا عقليا منطقيا صارما واحدا هو أن الذي فعل كل ذلك لا بد أن يكون هو مالكي ملكية تامة لا يشاركه فيّ أحد إذ هو يقهر كل شيء بقهره فلا يردّ قهره أحد ولا شيء والخليقة على ذلك المنوال أحقابا طويلة والكون مثل تلك الخليقة لا تتخلف الشمس يوما واحدا ومثلها القمر والسماوات والأرض والنبات ودروات من الحياة تغشانا. لا بد أن يكون ذلك هو الملك حقا وفعلا وصدقا. السؤال الأخير هو : إذا كان كل ذلك كذلك أي أن من فعل ذلك هو الملك الذي يملكني ويتوفاني متى يشاء فلا بد أن تكون العلاقة معه أي بيني وبينه علاقة عبودية وليست علاقة صداقة أو صحبة إذ أن العقل الحصيف الرشيد منطقا صارما يقضي بأن من يملك شيئا يستعبده ويسترقه ويفعل به ما يشاء فهو عبده عبودية تامة كاملة مطلقة فإن أبق عبده عنه عاقبه. أليس كذلك يفعل السيد مع عبده وهو لم يخلقه ولم يصوره ولم يحسن له لا تقويما ولا خلقا ولا يملك له حياة ولا موتا؟ هل إتفق يوما في الوجود غابره وحاضره أن إعترض أحد على أحد أنه ذبح شاة له جميلة أو ناقة له حمراء؟ لم يا ترى؟ أليس سوى لأنه يعلم أنه مالك الشاة أو الناقة؟ وهو يعلم في الآن نفسه أنه لم يخلق الشاة ولا الناقة ولكنه إشتراها بماله فحسب. فكيف إذن بمن ملكه إياي أكبر من ذلك وأعظم إذ هو من فعل كل شيء وصنع كل شيء؟ الحصيلة من هذه الرحلة الوجودية إذن هي عقلا صارما لا مكان فيه للشعوذات هي أن هذا الخالق الرازق المصور المالك هو إلهي الحق وأنا عبده فهو معبودي الحق ولا معبود لي سواه. هو الله سبحانه وهو الذي لا إله إلا هو سبحانه. هذا الإسم المركب إذن يكثف العلاقة بين الإنسان العاقل الحصيف الرّشيد ـ الذي يرحل بنفسه من خلال الأسئلة الوجوديّة الكبرى ليكتشف بعقله أن الله سبحانه هو إلهه الحقّ وهو معبوده الحقّ. تلك هي الحقيقة العظمى والكبرى وهي أصل كلّ الحقائق في الحياة والوجود والكون والتي يرسمها هذا الإسم المركب الجميل بحروف مهملة أي غير منقوطة نافية مبدأ الإلهية أوّلا وأصلا أن يسترق الإنسان لمن هو ليس أهلا ثمّ مثبتة تلك الإلهيّة لله وحده سبحانه وقاصرة إياها عليه هو وحده وبذلك يكون الإنسان قد وجد طريقه الصحيح في الحياة
لم يعبد الله ويؤله دون غيره؟
سبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين ولو كانوا جميعا على قلب جبريل عليه السلام ومن لا تضره معصية العاصين ولو كانوا جميعا على قلب إبليس الرجيم. إنما يعبد الله وحده سبحانه ويؤله دون شريك معرفة لحقه سبحانه وإعترافا بجماله وجلاله وكماله وحسن إفضاله وكريم إنعامه وهي خلة قمين بالإنسان أن يتحلى بها أي خلة الإعتراف لصاحب الفضل بفضله. ألسنا نعرف الفضل لآبائنا وأمهاتنا ومن علمنا؟ أين حظ الله سبحانه من ذلك؟ من يملك فضل الخلق ونعمة الرزق وكرم التقويم الأحسن والتصوير الأليق يملك قطعا حق الملكية التامة المطلقة ثم يملك حق الإعتراف بذلك فيكون المملوك عبدا معبدا. تلك هي العلاقة العقلية المنطقية الصارمة. الحكمة إذن من هذا الإسم الذي يحمل أسّ الإعتقاد ورحم الإيمان هي غرس فضيلة الشكر في الإنسان ليكون في الحياة الدنيا متواضعا يعرف لخالقه قدره ويعرف لنفسه كذلك قدرها ويعرف للناس كلهم أقدارهم فلا تتعارض الأقدار وإنما تتكامل. العبادة هي حق الله الواحد سبحانه بما أنعم وأفضل وأجزل فإن لم تصرف له فهي مصروفة قطعا لغيره لأن الإنسان مجبول على العبادة إستجارة وإستغاثة
تثليث ضال ومثله جحود أضل
ظلت البشرية جمعاء قاطبة رغم أنها مغروزة على التوحيد الصافي في عالم الذر مترددة بين توحيد صاف ضاف وبين تثليث هو الأكثر اليوم في الأرض عددا وإعتقاد يهودي مثله تثنية لا تثليثا فحسب (عزير إبن الله) وبين شرك عربي قديم يزعم أن الملائكة بنات الله وبين دعاوى كاذبة للإلحاد أو الدهرية القديمة وأصناف أخرى لا تحصى من صور الكفر والشرك وتلويث التوحيد الصافي بما يلوث العقل البشري إذ أن الإنسان نفسه هو المسفيد الأوّل من ذلك الإعتقاد التوحيدي الصافي إذ أنه لو إتخذ أكثر من إله فإنه سيظل حيران كعبد فيه شركاء متشاكسون فلا يرضى هذا ولا يغنى ذاك ومثله الذي يعبد هواه ( أفرأيت من إتخذ إلهه هواه) وأكثر هؤلاء إنما يزعمون ما زعمت العرب سالفا أنهم يعترفون بالله خالقا ولكنهم يعبدون غيره ( ليقربونا إلى الله زلفى). وهو تفكير سمج متهافت لا يستقيم حتى عقلا إذ أن المرء يتقرب إلى من يحب بنفسه زلفى فإن وضع دونه وسائط فقد تذوب لحمة الحب أو تخفت لاهجة العبودية فلا يصلح بالإنسان إذن عدا إله واحد لا إله غيره وإذا تفكر الإنسان وتدبر فيمن هو لذلك أهل فلن يجد عدا الله سبحانه لأنه خلق ورزق وملك. وبعض الناس يستبد بهم الكبر ويطوح بهم بعيدا فلا يعبدون ولا يسجدون ولا يركعون ولا يشكرون ولا ريب في أن الكبر من أكبر أسباب الكفر
من أكبر منافع التوحيد الصافي : توحيد الحياة وتوحيد الإنسان
لا أخفي إعجابي الشديد بأغزر تفسير قرأته في حياتي وهو كتاب التفسير التوحيدي للمرحوم الدكتور حسن عبد الله الترابي ذلك أنه حاول أن يلم شتات الرسالة الإسلامية في عنوان واحد ربما يند عن الإنسان وهو عنوان قوامه أن الله سبحانه واحد أحد وكل شيء يصدر عنه خلقا أو أمرا هو واحد في أصله سوى أنه بتعدد تلك العناوين الجزئية التفصيلية الجانبية الكثيرة في الحياة قد يند الإنسان ويتشتت تفكيره وتأخذه في دروب الحياة ورحلتها مسارب أخرى فيضل عن الشريعة الأولى العظمى التي تضم إليها ذلك العنوان الأكبر الأوحد. من قيم ذلك العنوان التوحيدي للحياة أن الدنيا مبناها الزينة والغرور والخديعة فهي مؤهلة لأسر الإنسان بجمالها الأخاذ الباهر فينزلق في شعبة من شعابها وبذلك ينقطع عن الأصل التوحيدي الأعظم الذي أخبرنا أن الله الذي خلق لنا هذا سيبعثنا في يوم ما ويحاسبنا عما أغدق علينا من نعم العقل والحرية والإرادة وبذلك يظل المرء دوما على حذر وهو يعالج الحياة الدنيا أن يفقد ذلك الخيط الناظم للحياة أنها لله وحده سبحانه فهي منه وهي إليه وما بين الأمرين مصدرا وعقبى يخشى على الإنسان ندا كما يند البعير عن قافلته فيضل أو كما يند كوكب عن فلكه فيتيه .تلك هي منفعة التوحيد عقليا ومصلحته في الحياة أي أن الإنسان يوحد ربه توحيدا صافيا لتكون حياته كلها واحدة في معالجاتها حتى لو تعددت تلك المعالجات وأبطأت بها السنون ووحدة الحياة معناها ببساطة شديدة رد الأمر إلى مصدره أي الله سبحانه والسير دوما في الإتجاه الأوحد الذي تسير إليه الحياة نفسها أي الله وحده سبحانه. الخشية هي أن تكون المعالجات كلها أو بعضها بين المصدرية الواحدة والعاقبة الواحدة لغير الله سبحانه وحده وهنا يكون الإنسان نفسه ممزقا مقطعا حيران ولذلك يقتل كثير من الغربيين أنفسهم بشتى أنواع القتل. لذلك إمتلأ الكتاب العزيز بالعقيدة التوحيدية الصافية ليتوحد الإنسان وحياته على سبيل واحد وكان ذلك قصة وتمثيلا وأمرا ونهيا وغير ذلك من أساليب النظم القرآني العجيب الفريد
توحيد الإلهية شأن علمي لا خرافي
قال سبحانه في آية عجيبة في الزّهراء الثّانية (آل عمران) : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. تكثفت الشهادة بعقيدة التوحيد العظمى بدء منه هو نفسه سبحانه وإنتهاء بأولي العلم من الناس ومرورا بالملائكة. الطريف والعجيب هنا هو أن هذه الشهادة من نحت العلماء الذين أشاد بهم في قوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) والعلماء هنا سياقا هم العلماء بقيمة التوحيد التي تحكم الكون كله والخلق كله فكل شيء واحد لأن الخالق واحد ولا يعني هذا طبعا إلغاء قيمة التعدد التي ستتكثف في الآية نفسها وهم العلماء كذلك بأن الله هو الذي (أنزل من السماء ماء) وأنه هو نفسه الذي أخرج (به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك). وهم العلماء كذلك بأن كل ذلك قائم على قيمة التنوع وأسّ التعدد وضريبة الإختلاف. فإذا جمعت إليك ذلك ألفيت أن الكون والحياة والخلق والوجود كله ما علمنا وما لم نعلم مصدره الله وحده سبحانه وهو الذي أراد لمكونات الخلق ومركباته أن تكون متنوعة مختلفة متعددة حتى لا تشتبه به على الناس فيشركونه بها وأن كل ذلك مشهود عليه منه هو نفسه سبحانه ومن الملائكة ومن أولي العلم من الناس ولذلك أسلم كثير من الغربيين بسبيل العلم وليس بسبيل التقليد أو الخرافة حتى لو كان بعضهم ( خير مثال عليهم الفيلسوف الفرنسي روجي قارودي الذي ضاقت به فرنسا وأوربا كلها من بعد أن أظفره الله بالعلم الصحيح ) قد شاب في التنظير للعقيدة الشيوعية الماركسية التي تدعي ألاّ إله والحياة مادة وأن الأمر لا يعدو أن يكون أرحاما تدفع وأرضا تبلع. أولئك هم الذين سلكوا المسلك العلمي طاعة لربهم القائل : فاعلم أنه لا إله إلا الله. توحيد الإلهية علم وخبرة سلكها إبراهيم عليه السلام منتقلا بفؤاده وباحثا عن الحقيقة الوجودية العظمى من كوكب آفل إلى قمر مثله ثم إلى شمس مثلهما ثم إنتهت رحلة الشك إلى اليقين الصافي وبمثل ذلك تختم كل رحلة عقدية إيمانية مهما إختبرت في الحياة وجربت فإنها تظل مثل الذهب الحقيقي يكاد يضيء أو الزيت الذي أثمرته زيتونة لا شرقية ولا غربية