قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
صدمة أم غباء

 أثارت نتائج الانتخابات الرّئاسية التّونسيّة في دورتها الأولى صدمة كبرى للأحزاب والأفراد على حدّ سواء حتّى وصف البعض ما حدث بالزلزال. ولئن تبدو النّتائج صادمة من زاوية السّياسة، فإنّها تبدو منطقيّة إذا نظرنا إليها بزاوية التّحليل الذي يأخذ فى الإعتبار رغبات النّاخبين لا غير، أي بمنأى عن الحملات الانتخابيّة والبروباغوندا والتّوازنات السّياسيّة وغير ذلك ممّا يمكن أن يؤثّر في اتجاهات النّاخب.

أفرزت الانتخابات صعود مرشّحين متضادّين لا علاقة لطرح أحدهما بطرح الآخر ولا ترابط بين زاوية نظر كلّ منهما لدور المواطن في السّياسة حيث يراه أحدهما محور العمليّة السّياسية في حين لا يرى الآخر في المواطن سوى وقودا للعملية ينتهي دوره بمجرد انتهاء الانتخابات وإن روّج داعموه عكس ذلك. 
إنّ ما يلفت الانتباه في ما جرى هو ما يلوح من أخطار تحيط بالبلاد جرّاء ما يمكن أن يعقب هذه الانتخابات من مخرجات لم تكن في الحسبان بصعود طبقة حاكمة جديدة لا ترى في الثّورة إلاّ فاصلا قصيرا من عمر البلاد وجب القطع معه دون التّفكير في الثّمن.
سيكون من المهمّ راهنا ولاحقا أن نفكّر جميعا في أسباب ما حدث دون أن نغفل عاملا من العوامل بعيدا عن محاولات التّهوين أو الاستخفاف التى مازال البعض مصرّا عليها وكأنّنا إزاء أمر عابر يمكن الالتفاف عليه. ومن ثمّ قد يستطيع صفّ الثّورة بكلّ أطيافه تدارك ما حدث إن صدقت النيّات واقترنت بالعمل من خلال الانتخابات البرلمانيّة وهو أمر لا يبدو صعب المنال إذا أخذنا في الحسبان حجم المأزق الذي وصلنا إليه واستنفرنا كلّ طاقاتنا في معركة مصيريّة.
كثر الحديث قبل الانتخابات عن حجم الفساد الذي ينخر البلد وعن ارتفاع مستوى الفقر وغلاء الأسعار وتدهورالمقدرة الشّرائية وارتفاع نسق الجريمة والانحراف وغير ذلك من الظّواهر التي تنخر المجتمع، فهل كان لهذا الحديث تأثير فى ما كانت تطرحه النّخبة على المجتمع من قضايا وآراء؟ وهل كان له تأثير يذكر في ما كانت تقرّره الدّولة من سياسات أو تتّخذه من إجراءات؟. لا يخفي على أحد أنّ النّخبة ذات التّأثير في واد وما ينخر المجتمع من سوس الفساد والفقر والتهميش في واد آخر ولا أدلّ على ذلك من إصرار هذه النّخبة على طرح إشكاليّات لا ضرورة لها في الواقع ولا هدف منها سوى ممارسة التّنفيس عن عقد اجتماعيّة وفكرية لأناس معطوبين مترفّعين عن عامّة الخلق حتّى لكأنهم لا يعيشون في البلد. ولسائل أن يسأل عن حاجة المجتمع راهنا ( الآن وهنا) إلى طرح قضيّة مثل قضية المساواة في الميراث وجعلها مسألة حياة أو موت وإن أدى الاختلاف حولها إلى حرب أهليّة تأكل الأخضر واليابس. 
خرج النّاس في الانتخابات الأولى بأعداد غير متوقّعة أملا في إحداث تغيير يقطع مع الماضي وينقل البلاد نقلة نوعيّة على كافّة الأصعدة، ولكن الحصيلة الهزيلة خيّبت ظنّ الكثير منهم ولذلك كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التي تلتها أقلّ بكثير وكان التّصويت عقابيّا تجاه من تصدر للحكم. لم يحسن السّياسيون التّعامل مع رسالة الشّعب لهم ولم يتّعظوا بما حصل، بل إنّ الأمور ازدادت سوءا وتدهورت الأمور في كثير من المجالات الحياتيّة حيث ازدادت الأسعار ارتفاعا وارتفعت نسب الفقر ولم ترتفع نسب النّمو ولم يتغيّر من منوال التّنمية شيء يذكر وظلّت الخيارات الاقتصاديّة نفسها رغم ما كان لها من تأثير على الواقع، فكانت النّتيجة في المحصلة جملة من الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ونكوصا دراماتيكيّا بالمجتمع إلى ما دونه قبل الثّورة. ولكي نكون منصفين لا بدّ أن نشير إلى أنّ الدّولة نجحت رغم الأزمات في تحقيق استقرار سياسي وأمني كان له أثر واضح في حماية التّجربة من الانهيار وفي إبعاد شبح الاحتراب عن المجتمع، ولكن ذلك لم يكن بلا ثمن اذ استشرى الفساد حتّى بلغ أرقاما مفزعة وإنهار الدّينار وارتفع عجز الميزانية واختل الميزان التّجاري واتخذت الحكومة تدابيركان لها تأثير بالغ على حياة النّاس، كما تناست أو كادت فئات كثيرة في أمس الحاجة إلى رعاية الدّولة وعونها ولم تبلور أيّ استراتيجيّة لمجابهة ما ينتج عن قراراتها من ارتدادات يدفع ثمنها الفقراء من المواطنين قبل غيرهم.  
ولأن الانتخابات هي الوسيلة الشّرعية الوحيدة التي تتيح للمواطنين المشاركة والتّغيير، فقد كانت نتيجتها الأخيرة تصويتا عقابيّا للأحزاب جميعها وإن بشكل متفاوت.
لا يحتاج المرء إلى عصف فكري لكي يتأكّد من أنّ الذين صوّتوا لمرشح بعينه إنّما فعلوا ذلك لأنّ الدّولة دفعتهم إلى ذلك حين استخفّت بمعاناتهم. ألم يكن بوسع الدّولة أن تفعل بأجهزتها الكثيرة وأدواتها الهائلة ما فعل شخص واحد وجمعية واحدة بامكانيات لا تقارن بما يتوفّر للدّولة ؟ لقد كان للثّورة مطالب وأهداف عدّة لعلّ من أهمّها على الإطلاق مقاومة الفقر والتّهميش وتكافؤ الفرص للجميع من حيث توفّر الغذاء والدّواء والمسكن اللاّئق والحقّ في حياة آدميّة كريمة، فما الذي تحقّق من ذلك بعد أن مضي على الثّورة كلّ هذه السّنوات؟
لقد أغلقت الدّولة جمعيّات كثيرة كانت تمدّ يد العون للنّاس وهي قريبة منهم يقصدونها دون الشّعور بالمذلّة أو الإهانة، ولئن كان هذا تحسّبا من امكانيّة استغلالها لتبييض الأموال أو لغاية سياسيّة أو إرهابيّة، فإنّ غلقها قد ساهم في ترك فراغ جاء من يملؤه دون أن يعترض أحد أو يتعرّض للمساءلة رغم الصّبغة السّياسيّة الواضحة في ما فعل ويفعل.  كانت آليّات الافتراس التي يملكها الفساد زمن الاستبداد هائلة بل ومسنودة من حاكم الدّولة في حينه فلما زاد الفساد وتطوّرت مجالاته صارت قوة افتراسه أكثر ولم يخش أيّ رقيب أو حسيب، فكانت نتيجة ذلك أن ازداد عدد الفقراء حتى أصبح يعدّ بالملايين .
ليس الفساد وحده المسؤول ولا ظروف الانتقال الدّيموقراطي التي حتّمت أن نضع السّياسي في أولوياتنا قبل الاقتصادي والاجتماعي كما يقال، وإنّما هي حلقات مترابطة بدأت بالمطلبيّة المشطّة لجموع الموظفين والعملة وانتهت بانحسار دور الدّولة في حماية ضعاف الحال والمعوزين والفقراء والمعاقين ونهجها مقاربة في إصلاح الإقتصاد لا تعير جانبا لما يمكن أن يترتّب عنها من ضرر للفقراء واقتصار دورها في مقاومة الفقر على آليّات بالية قديمة موروثة من زمن الاستبداد دون التّفكير في ابتكار حلول لا تكون رهنا للآلة البيروقراطيّة للإدارة أو دون المستوى المأمول من قبيل تقديم منح موسميّة أو أخرى شهريّة لا تفي بحاجة أيام لعائلة صغيرة تعيش على الكفاف.
كانت نتيجة الانتخابات صادمة و لكنّها كانت كذلك معيارا يمكن بواسطته تعيير الجهد الذي بذل من طرف النّخب والأحزاب والدولة ومؤسّساتها للإحاطة بالفقراء والمهمّشين وغيرهم من ذوي الحاجة من النّاس، إن كان هذا الجهد كافيا فهي الصّدمة وإن كان دون المأمول أو ضعيفا أو غائبا فلا وجود للذمّة وإنّما هو الغباء.