أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ ‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة الخامسة : السميع البصير
 إخترت جمع هذين الإسمين لتقاربهما في المعنى من ناحية ولورودهما مقترنين عشر مرّات . وردا كالعادة ‏بصيغة المبالغة الماضية ( فعيل ) كما وردا معرفين ومنكرين بحسب السّياق دوما. ينتميان للمجموعة الكبرى ‏الأولى أي مجموعة أسماء العلم والخبرة والرّقابة والفوقيّة التي لا يندّ عنها شيء وهي المجموعة التي من ‏المفترض أن تكون منشئة لوازع التّقوى. والتّقوى هي المطلوب الأكبر من الله فينا، فمن اتّقى ثاب وإن عصى. ‏ورد إسم ( السّميع ) زهاء خمس وأربعين مرّة ودونه بقليل إسم ( البصير ) بزهاء واحد وأربعين مرّة. وهما ‏من آخر أكثر الأسماء العشرة الأولى ورودا وهي ( العليم والرّحيم والغفور والحكيم والعزيز والرّحمان والخبير ‏والقدير ثمّ السّميع والبصير ). لم أتعرّض لإسم ( الرّحيم ) بذاته إذ يشترك في معنى إسم ( الغفور) كثيرا. ‏إقترن إسم ( السّميع ) بالعلم إثنتين وثلاثين مرّة وبالبصر كما مرّ بنا آنفا عشر مرّات. وورد مرّتين بصيغة ‏‏( سميع الدّعاء ) . أمّا إسم ( البصير ) فقد إنفرد بزهاء سبع وعشرين مرّة ـ على غير عادة صنوه أي إسم ‏‏( السّميع ) وإقترن بالخبرة أربع مرّات وبالسّمع كما مرّ بنا هنا عشر مرّات.
المعنى اللغوي
السّمع يتطلّب دقّة ولطفا ولذلك وردت مكوّنات جذره كلّها مرقّقة كما ينبّئك إنتهاؤه بحرف حلقي غائر أن السّمع ‏يعني ولوج ما يحدث حركة أو صوتا إلى آخر شبر فيه حتّى يحيط السّامع بما وقع. أما البصر فهو أعمق إذ ‏إستخدم فيه ـ بل في أمّه ـ حرف مغلّظ لينبّئك أنّه يلج إلى ما لا يلج إليه السّمع. البصر غير الرّؤيا فهو أدقّ ‏وأعمق وفيه عناية وتركيز ولذلك يرى النّائم ولا يبصر وبذلك ينفذ الباصر بما لا ينفذ إليه الرّائي.
ما معنى الإقترانات المذكورة أعلاه؟
عادة ما تقترن أسماؤه سبحانه بعضها ببعض لتعمق حقلا دلاليّا مشتركا من مثل إقتران العزّة بالحكمة، إذ العزة ‏بلا حكمة تؤول إلى قهر عبثي، ومن مثل إقتران المغفرة بالرّحمة، إذ أنّ إذهاب الذّنب طريق إلى حصول ‏الرّحمة فهو يتقدّمها ولا تتقدّمه، ومن مثل إقتران السّمع بالبصرّ إذ أنّ السّمع وحده لا يكفي فلا بدّ من بصر ينفذ ‏إلى الحقيقة كاملة صحيحة. إقتران السّمع والبصر في أسمائه سبحانه لتعميق معنى الإحاطة والشّمول والدّقة ‏والعمق والصّحة والشّهادة والخبرة والعلم وهناك ما يسمع ولا يبصر وهناك ما يبصر ولا يسمع ولكن هذا في ‏حقّ الإنسان وليس في حقّ الله سبحانه، ولكنّه سبحانه رحمة بنا يعرفنا بنفسه بالطريقة التي تجعلنا نفهم فنؤمن ‏ونخشى ولذلك جاءت أكثر أسمائه ممّا يمكن تمثله من لدن الإنسان مع بقاء فارق التّنزيه له وحده سبحانه. ‏إقترن سمع الله سبحانه بالعلم 32 مرّة وهو أكبر إقتران هنا وهو مفهوم لأنّ السّميع لا بدّ أن يكون عليما، فهو ‏يسمع شيئا يعلمه ويعلم شيئا يسمعه وليس كالإنسان الذي قد يسمع شيئا ولا يعلمه. كما ورد مرّتين بصيغة أنّه ‏سميع الدّعاء لإضفاء مسحة رحمة وإذهاب غيمة قنوط عن الإنسان، فالله سبحانه يسمع كل شيء وممّا يسمعه ‏دعاء الإنسان، فلا ييأس الدّاعي ولا يشغب عليه كثرة الدّاعين وعادة ما يكون الدّعاء سرّا بل صمتا صامتا ‏خلجات تومض في غياهب الفؤاد لا يكاد يلقي لها صاحبها نفسه بالا ولكن الله سبحانه يسمعها ويسمع أنينها ‏وعذاباتها في تلك المساحة الزّمنية التي لا تعمّر عشر معشار طرفة عين وهي دليل إشارة على أنّ الدعاء ‏مطلوب وهو مسموع ومستجاب إن شاء الله . أمّا إسم ( البصير ) فقد ورد في الأعمّ الأغلب منفردا وكثير منه ‏بصيغة ( بصير بما يعملون أو يفعلون إلخ ..) وهو هنا شبيه بما مرّ بنا في حلقة سالفة في إسم (الخبير) فهو ‏سبحانه خبير بما يفعلون ويصنعون ويعملون وغير ذلك ولذلك إرتبط إسم (البصير) بالخبرة أربع مرّات لأنّ ‏الخبير بصير بالضّرورة والبصير لا بدّ أن يكون كذلك خبيرا بالضّرورة.
تقدم السّمع على البصر : لم؟
يتقدم السمعُ البصرَ دوما لأنّه أدق إذ يسمع ما لا يبصر بسبب أنّ البصر أيسر ولكن ليس على الله سبحانه وكما ‏مرّ بنا فإنّ الله سبحانه يعلمنا عن نفسه بما يجعلنا نفهم ونؤمن رحمة بنا. يكون مجال سمع الإنسان أوسع من ‏نطاق بصره بمرّات كثيرات. كما تقدّم السّمعُ البصرَ لأنّ ما يطبخ في الصّدور وفي الغرف المغلقة لا نسمعه ‏ولكن الله سبحانه يسمعه ولذلك كان هذان الإسمان ( السّميع والبصير ) من أقوى معاني الرّقابة والتّهديد. يبصر ‏الإنسان ظاهريّا وجزئيّا ما يبصره الله سبحانه ولكنّه لا يسمع ما يعتمل في ذلك المبصور لأنّ السّمع أدقّ ‏وأعمق وأكبر وأعظم وأخبر ولذلك تقدّم حتّى في حقّ الله سبحانه ويظلّ تنزيهه قائما أنّه لا تجري عليه ‏المبالغات ليقال أنّه سبحانه يسمع أكثر مما يبصر أو غير ذلك سبحانه وتعالى.
ماذا يسمع سبحانه؟
هو سميع لكلّ شيء سبحانه وقد أخبرنا عمّا يسمع في القرآن الكريم كثيرا ومن ذلك ذكرا لا حصرا ‏أنّه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا …) وقد روت الأم العظيمة عائشة عليها الرّضوان أنّها كانت ‏على بعد مترين فحسب منهما ( هو عليه السلام وخولة زوج عبادة ) ولم تسمع من تحاورهما شيئا حتّى نزل ‏الوحي يخبر بما وقع بينهما. توظيف صفة السّمع هنا لتقرير العلم والخبرة والرّقابة لعلّ النّاس يؤمنون بأن الله ‏سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء.
الإنسان نفسه سميع بصير
قليلة جدّا هي الأسماء الإلهيّة التي يخلعها الله سبحانه بنفسه على الإنسان خلعا بالكلّية، لحما ودما، ومنها قوله في ‏أوائل سورة الإنسان «فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» ولم يقل ولو مرّة واحدة عن الإنسان أنّه جعله رحيما أو عزيزا ‏أو خبيـــرا أو غفــورا أو غير ذلك. القصد من هذا أمران : أوّلهما أنّه يريد أن يبيّن لنا عظمته سبحانه وقدرته إذ ‏خلق الإنسـان من تراب أو ماء أو نطفة ثم تدرّج خلقه فكان سميعا بصيرا وثانيهما هو أنّ منافذ العلم عند ‏الإنسان ثلاثــــة هي : السّمع والبصر والفؤاد وهذا يعني أنّ الإنسان مزوّد بأسباب العلــم ومؤهّل للإيمان ‏بعمليّــة سمعيّـــة بصريّـــة قلبيّة وليس بإكراه عليه ولا برؤيا مناميّة ولا بمعجزة لا أثر له فيها. بل لك أن تلاحظ ‏أنّــــه لم يبخل عليه سبحانــه بصيغــة المبالغة نفسها فقال إنّه سميع بصير وليس سامع أو باصر فحسب. 
عندما أراد ‏أن يؤكد هذا المعنى وقد فعل في عشرات المواضع قال «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا» وأناط الإيمان به سبحانه بحاستي السمع والبصر والنظر مرات ومرات حتى إن العبد الفقير يقول دوما ‏أن الرغيف نشتريه من المخبزة والإيمان نقتنيه من الكون والعملة هنا ليست مالا كمقابل الرغيف بل هي عملة ‏النظر والتفكر والتدبر والتأمل فمن سمع وأبصر ونظر آمن وإهتدى وهدي بإذن الهادي سبحانه ومن أغلق منافذ ‏العلم فيه أي السمع والبصر والنّظر الفؤادي، فلن يؤمن إذ لو آمن لآمن كرها والله نفى الإكراه نفيا.
إنّما يستجيب الذين يسمعون
السّمع عند الإنسان لا يقصد به السّمع نفسه، إذ لو كان ذلك كذلك لما آمن أصمّ ومثله البصر إذ لو كان ذلك كذلك ‏لما آمن أعمى. السّمع مقصود منه إستثماره عملا ونخلا ليفضي إلى النّظر ثمّ إلى الإيمان، إذ قال سبحانه «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ» هكذا بكلّ حصر وقصر أنّ الإيمان بالله سبحانه إستجابة لأمره لا يكون إلاّ بالسّماع ‏وليس هو السّماع الحسّي إذ الأصمّ لا يسمع ولكنّه يؤمن بل حتّى لو كان الإنسان أصمّ لا يسمع وأعمى لا ‏يبصر فإنّ فؤاده هنا هو من يتحمّل عن سمعه وعن بصره مسؤوليّة السّماع فيسمع ويؤمن بإذن الله سبحانه. ‏ولذلك لمّا خاف المشركون على أنفسهم أن يكونوا أسرى أسماعهم وهي تنصت إلى القرآن فيؤمنون، قالوا في ‏حركة بهيمية عجماء «لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ». إذ لو سمعوا القرآن الكريم لنفذ إلى ‏أفئدتهم فآمنوا وبذلك نكون مطمئنين إلى أنّ السمع هو أوّل خطوات الإيمان والفهم والوعي ومن أحسن ‏الإستماع أحسن الفهم ولا يعرض عن السّمع إلاّ متكبر حتّى لو كان المسموع كفرا يتلى وهرطقة يهدر بها.‎  ‎
محدودية سمع الإنسان وبصره رحمة من الله
أجل. لو إنتهت إلينا اليوم صيحات المعذّبين في الأرض لما أستسغنا طعاما ولا كففنا دمعا، بل لمتنا كمدا . ولو ‏أبصرنا اليوم كلّ ما يدور في الأرض من حولنا لفررنا إلى حيث لا مفر. ومن رحمة الله بعبده أن جعله سميعا ‏بصيرا وأن جعل سمعه محدودا ببضعة أميال وبصره مثل ذلك ولو سمع الإنسان كلّ شيء لبطلت قيمة الإبتلاء ‏وسنّة التّدافع بين النّاس ولو سمع الإنسان ما يعتلج في صدور النّاس من حوله حتّى وهم يبشّون به ويهشون له ‏لإفترسهم إفتراس السّباع النّهمة الجشعة وإفترسوه. ولو سمع الإنسان ما يدور حوله من غيب حجبه الله عنه ‏لتحولت حياته إلى جحيم لا يطاق. ولكن رغم ذلك لا يهدأ الإنسان فهو يوسع دائرة سمعه وبصره وها هي ثورة ‏الإتصالات المروّعة تهتك حجبا كانت مغلقة وسترا كانت موصدة لنسمع بأمّ آذاننا ونبصر بعيون أبصارنا ‏بعض ما يحدث من عذابات في سوريا أو اليمن أو الروهنغا أو ليبيا أو غيرها وذلك معنى من معاني جعل الله ‏عبده سبحانه سميعا بصيرا ومازال يأذن سبحانه بمدّ سمعه ومدّ بصره تقدّما في العلم وتوسيعا لتلك الدّوائر.
حظ الإنسان من إسمي السميع والبصير
تقدّم هذا في نبذات سالفة إذ أنّ الله نفسه سبحانه سمّى الإنسان سميعا بصيرا وبذلك لا حرج على من تسمى ‏بإسم الله «سميع» أو «بصير» ولك أن تلاحظ أنّه لم يخلع عليه ما خلع على نفسه سبحانه من إستغراق ‏وتعريف لحقا بالإسمين، فالله سحبانه هو السّميع البصير والإنسان سميع بصير. ولا حرج في كلّ الأحوال ‏التّسمي بالسّميع والبصير أو بعبد السّميع أو عبد البصير، إذ أن ذلك لا يطمر تنزيها له سبحانه أو يغمر تفرّدا له ‏سبحانه. إنّما الحظّ المطلوب هنا هو تقدّم الإنسان على درب توسيع دائرة سمعه وبصره كما يفعل اليوم في ‏ثورة المواصلات لعلّه يزداد إيمانا أو يكسب علما يخدم به النّاس، فيزداد خيرا أو يسمع ما لم يكن يسمعه أسلافه ‏من قبل ويبصر، فيزداد يقينا إذ أنّ أصل حاستي السّمع والبصر في الإنسان لكسب العلم فهما منافذ علم وخبرة ‏وهما رسول الإنسان إلى محيطه بهما يبعث الرّسائل وبهما يتلقّاها وهي نعمة رحمانيّة لا تكاد تساويها نعمة.