وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
تهافت المتطرفين دعوى للتدبر في مقومات النظر ومآلات العمل ‏
 تعيش تونس خاصّة، والدّول العربيّة عامّة، مخاضا فكريّا عسيرا في ظلّ وجود بعض التّيارات الفكريّة التي تؤصّل للتّطرف ‏وتشرّعه سواء كانت مرجعيتها دينيّة أو حتّى فلسفيّة وخاصّة تلك التي أصّلت تصوراتها ورؤاها على تأصيل بما هو تنزيل ‏المستجدّات الواقعيّة في سياق منظومة التّشريع في المرجعيّة المعتمّدة واعتباره مغشوشا، فيتعسّف المفكرون في قراءة ‏الأفكار وتنزيلها على الواقع وتطويعها حسب الإيديولوجيّات التي يتبنّونها ممّا يحدث خللا فكريّا وغيابا للحياد في البحث ‏العلمي.‏
لغة ؛ تطرَّفَ‎ / ‎تطرَّفَ‎ ‎في يَتطرّف ،‎ ‎تطرُّفًا‎ ‎، فهو مُتطرِّف ، والمفعول مُتطرَّف – للمتعدِّي يقال رَأَى خِصَاماً فِي الشَّارِعِ ‏فَتَطَرَّفَ جَانِباً : اِبْتَعَدَ إِلَى الطَّرَفِ ، الجَانِبِ الآخَرِ وتَطَرَّفَتِ‎ ‎الْمَاشِيَةُ جَوَانِبَ الْمَرْعَى : صَارَتْ بِأَطْرَافِهِ وتَطَرَّفَتِ‎ ‎الشَّمْسُ : ‏دَنَتْ إِلَى الغُرُوبِ تَطَرَّفَ‎ ‎الحَدِيثَ : عَدَّهُ طَرِيفاً و أخيرا وهو المقصد يَتَطَرَّفُ فِي أَفْكَارِهِ : يَتَجَاوَزُ حَدَّ الاعْتِدَالِ وَالحُدُودِ ‏الْمَعْقُولَةِ ، يُبَالِغُ فِيهَا وأما التطرُّف فهو المغالاة السّياسية أو الدّينية أو المذهبيّة أو الفكريّة ، وهو أسلوب خطِر مدمِّر ‏للفرد أو الجماعة تبذل بعض الدّول جهودًا مضنية للقضاء على‎ ‎التطرُّف‎ ‎الإرهابي ( مقتطف من الموقع الالكتروني المعاني 1) ‏
بهذا المعنى يمكن أن نشهد حالة من التّطرف الدّيني المؤدّي إلى الإرهاب الدّموي كما يمكن أن نشهد كذلك ردّة فعل من ‏طرف مقابل يتجادل في آراء متناقضة ويسقط تجارب غربيّة على واقع سياسي وتجربة ثقافيّة ودينيّة ومنظومة أخلاقيّة ‏وقيميّة مشرقيّة لا يتوافق معها في شيء الأمر الذي يشكّل عسرا في التّفكير وغلوّا في التّطبيق.‏
‏(1) غلو التّطرف الدّيني ‏
أ – أساس التّطرف الدّيني ‏
يرتكز التّطرف الدّيني أو التّطرف القائم على مرجعيّة دينيّة على تأويل مبتور للنّصوص الشّرعيّة لا تراعى ‏فيه الشّروط العلميّة لعمليّة التّأويل، وقد أسّس الفكر المتطرّف على أساس نظري قائم على الأوهام المتراكمة والمركّبة ‏من ذلك وهم المطابقة بين التّأويل والنّص المؤسّس سواء كان قرآنا أو سنّة، ومعناه أنّ حاملي هذا الفكر لا يعتبرون ‏فهمهم للنّصوص الشّرعيّة فهما إجتهاديّا يحتمل الصّواب كما الخطأ، بل إنّهم يكفّرون من لم يفهم هذه النّصوص فهمهم ‏ويؤوّل تأويلهم، إذ أنّهم يصلون إلى المطابقة بين التّأويل ومقصود صاحب النّص، فيضفي ذلك قدسيّة لا على النّص ‏فحسب، بل على تأويل بشري للنّص المقدّس.‏
كما يقوم التطرّف الدّيني على عديد الأوهام الأخرى منها على سبيل الذكر؛ وهم الانتقائيّة في فهم النّصوص والإعتماد على الفهم ‏الإجتزائي، ووهم مشروعية تجاوز الإرادة العامّة للمجتمع إستنادا إلى الآية الكريمة « وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» ممّا يؤدّي إلى الانتقال من وهم امتلاك الحقيقة الفرديّة إلى امتلاك الحقيقة الجماعيّة ليخلص في ‏الأخير إلى مشروعيّة العنف لتحقيق النّظام السّياسي الأمثل في نظرهم وهي الخلافة على منهاج النبوّة.‏
جميع هذه الأوهام تنتج عنها مخلفات أهمّها الانغلاق على الذّات وإقصاء للآخر الذي يعتبر كافرا بمقدّسهم، بالإضافة إلى ‏عقيدة الولاء لله وللرّسول وللمؤمنين والبراء من الشّرك والمشركين الذي ينتج عنه تقسيم للدّول قائم على دار إيمان ‏ودار كفر وهو ما يتيح في النّهاية الإنخراط في استراتيجيا للعنف قائمة على إدارة للتّوحش مفادها تدمير دولة الكفر ‏وإعادة بنائها على أحكام الشّريعة المنصوصة في تأويلاتهم المحرّفة لمقصد النّص الشّرعي.
ب – نقد التطرف الديني ‏
لو تدبّرنا في هذا الفكر لوجدنا قصورا في الفهم وتنزيلا للفكر في سياقات تاريخية ومكانية مختلفة، فالتطرف الديني يقوم ‏على تأويل مغشوش للنصوص الشرعية بينما التطرف الفلسفي فيقوم على تنزيل الأفكار التي أنتجتها ظروف مكانيّة معيّنة ‏وسياقات تاريخيّة محدّدة وإسقاطها في سياقات أخرى لا تتناسب مع السّياقات التي ظهرت فيها بعض المفاهيم.‏
إنّ الإجابة على قصور فهم المتطرّف الدّيني يحتاج منّا الوقوف على المبادئ الأساسيّة التي هي من صميم الشّريعة ‏الإسلاميّة في العمران البشري وهي رسالة الإسلام التّكوينية والتي تقوم على معان خمسة :‏
‏ * الكرامة الوجودية؛ لعلّها أهم هذه الشّروط الجوهريّة في رسالة الإسلام وتكون في صورتين إحداهما الكرامة المعنويّة ‏‏(الانعتاق من الرّقّ السّياسي) والكرامة المادّية (الانعتاق من الرّقّ المالي) ولا يمكن المرور على هذه الكرامة دون التّدبّر ‏في التّأصيل القرآني لنظريّة الكرامة. حيث كثيرا ما تتكرّر في القرآن الكريم قصّة خلق الإنسان بأنماط سرديّة مختلفة، تارة ‏يتحدّث عن نوعيّة المادّة التي خلق منها وتارة أخرى يحدّثنا عن حدث إستكبار الشّيطان ورفضه السّجود لآدم بتعلّة أنّ ‏مادة الخلق الخاصّة به –النّار- أرفع قدرا من مادّة خلق آدم –الطّين- وكثيرا ما تختتم هذه المحاورة بين قطبي الخير والشّر ‏‏–الله والشّيطان- بطرد الأخير من رحمة الله لتكبّره وتعنّته جهلا وإعراضا منه.       ‏
‏ * الحرية؛ إذ أنّها تعدّ مبدأ أساسيّا من المبادئ التي تقوم عليها رسالة الإسلام وتكون على قسمين؛ الحرّية الدّينية متمثّلة ‏في الصّحوة الدّينية والحرّية السّياسيّة متمثّلة في تركيز منظومة سياسيّة قائمة على الدّيمقراطية وهو ما عرف بثورتيّ ‏الاسلام الرّوحيّة (لا وساطة بين الانسان والله ) والسّياسيّة (لا وصاية بين الانسان والله أو الحكم الالهي)                                                                       ‏
الحرّية الحقيقيّة هي حرّية الاختيار الموجودة في هذا العالم والتي كرّسها الإسلام كجوهر للدّينيّ في كلّ الأديان ؛ حرّية ‏روحيّة من خلال حرّية اختيار المعبود الذي ترضاه نفسك دون قيد أو شرط وحرّية سياسيّة أن تختار من يخدم ‏دولتك دون وصاية أو حقّ إلهي. تلك الحرّية هي أمانة الإستخلاف التي تعتبر غاية خلق الانسان الجهول (دون علم ‏بشروطها ومقوماتها الرّوحية والمادّية).       ‏
‏ * الإختلاف والتّعارف؛ الأول سبب للثّاني والثّاني نتاج للأوّل، فلو أنّ سنّة الله الكونيّة اقتضت أنّ البشر غير مختلفين ‏جنسيّا وعرقيّا لكان التّعارف لا معنى له في ظلّ تماثل كلّي وتطابق تامّ بين سكّان الأرض، فالإختلاف المولّد الأساسي ‏للتّعارف، الذي هو غاية الخلق أو « ولذلك خلقهم» بالتّعبير القرآني، لا يكون إلاّ إذا توفّرت فيه شروط محدّدة ومنها ‏الحوار المفضي إلى التّعارف الإنساني الذي ينجرّ عنه تراكم معرفيّ وترابط إنسانيّ.‏
إنّ التّعدديّة الثّقافية أو الاختلاف الثّقافي والحضاري هي إعتراف بالكرامة الإنسانيّة المفضية إلى الحوار بين الحضارات، ‏خاصّة في العهد الرّاهن الذي أتاحت ثوراته المعرفيّة إمكانات لا محدودة من التّعرف على ثقافات الآخرين عبر ثقافة ‏الصّور، فما دامت المجتمعات هي التي تحاور فإنّ الصّراع الثّقافي الحضاري لا يقوم بالأساس على خلفيّة السّيطرة ‏المباشرة بقدر ما يتأسّس على خيار السّيطرة على الرّأسمال الرّمزي المشكّل للرّصيد الثّقافي.‏
‏* المعاملة؛ إنّ مقولة «الدّين المعاملة» تمثل أساسا قيميّا يرتكز عليه المتديّن، فهي منظومة أخلاقيّة قيميّة لتنظيم الفرد ‏أوّلا وتهذيبه ليعيش في إطار المجموعة الإنسانيّة والعيش في سعادة التي‎ ‎كثيرا‎ ‎ما‎ ‎تتكرّر‎ ‎في‎ ‎القرآن‎ ‎الكريم‎ ‎وهي تكون‎ ‎من‎ ‎خلال‎ ‎تطبيق‎ ‎ركنين‎ ‎أساسييّن،‎ ‎ركن‎ ‎مادّي‎ ‎هو استعمار‎ ‎الأرض‎ ‎بقيم‎ ‎الاستخلاف‎ ‎أو‎ ‎العمل‎ ‎الصّالح‎ ‎بعبارة‎ ‎القرآن‎ ‎وركن‎ ‎روحي‎ ‎يتمثّل‎ ‎في‎ ‎الإيمان‎ ‎الذي‎ ‎هو إقرار‎ ‎قلبي‎ ‎بوحدانيّة‎ ‎الله‎ ‎وتصديق‎ ‎بالجوارح‎ ‎والأركان،‎ ‎فتهذب‎ ‎النّفس‎ ‎وتزكّيها‎ ‎حتّى‎ ‎تصل‎ ‎إلى‎ ‎مقام‎ ‎التّقوى وهو‎ ‎الاحترام‎ ‎المطلق‎ ‎للقانون بما‎ ‎يجعل‎ ‎الفرد‎ ‎صالحا‎ ‎داخل‎ ‎المجتمع‎ ‎الإنساني‎.‎
تمثّل‎ ‎التّقوى القانون‎ ‎الذي ينظّم‎ ‎العلاقات‎ ‎الاجتماعيّة،‎ ‎فيجرّم‎ ‎إرتكاب‎ ‎المحظورات التي‎ ‎تشكّل‎ ‎تهديدا‎ ‎لسلامة‎ ‎المجتمع‎ ‎ولأمنه‎ ‎العام‎ ‎ويحثّ على‎ ‎مكارم‎ ‎الأخلاق‎ ‎والتّقيّد‎ ‎بها‎ ‎حتّى‎ ‎ينتقل‎ ‎المجتمع‎ ‎من الحيوانيّة ‎ )‎قانون‎ ‎الغاب‎( ‎إلى‎ ‎البشريّة ‎ )‎المدينة‎ ‎الفاضلة ‏التي‎ ‎دعا‎ ‎إليها‎ ‎جميع‎ ‎الفلاسفة) ولذلك‎ ‎فإنّ‎ ‎تقوى‎ ‎الله‎ ‎في مخافته‎ ‎باجتناب‎ ‎نواهيه‎ )‎الأعمال‎ ‎الضّارة‎ ‎التي‎ ‎ينجرّعنها‎ ‎ظلم‎ ‎لنفس‎ ‎مرتكبها‎ ‎فترديه‎ ‎إلى‎ ‎أسفل‎ ‎سافلين‎(‎‏ واتباع‎ ‎أوامره‎ )‎الأعمال‎ ‎التي‎ ‎يقوم‎ ‎بها‎ ‎الفرد‎ ‎الصّالح‎ ‎في المجتمع‎ ‎ليثبت‎ ‎حسن‎ ‎أدائه‎ ‎لأمانة‎ ‎الاستخلاف‎(‎‏ ‏
‏ ‏‏(2) إسراف التطّرف الفلسفي ‏
أ – أساس التطرّف الفلسفي  ‏
دحض مفكرو التطرّف الفلسفي أو التطرّف القائم على مرجعيّة فلسفية فكرة أنّ الدّين بصفة عامّة يسعى ‏لتحقيق الحرّية داخل المجتمع واعتبروا أنّ السّلطة الدّينية هي أصل داء المجتمع ولذلك تمّ الفصل في المجتمع الأوروبي بين ‏السّلطة الدّينية التي تمثّلها الكنيسة والسّلطة السّياسيّة بعد الحروب الدّينية التي شهدتها أوروبا في عصر الظّلمات وأدّت ‏إلى ظهور وثيقة ‏Westphalie‏ وفيها ظهر للمرّة الأولى مصطلح العلمانيّة والتي تعني إخراج الكنيسة من السّيطرة في ‏الشّأن العام، فهي إذا تحرير النّاس من سلطة الكنيسة لا من الدّين في ذاته.‏
اعتبر فصل السّلطة الدّينية عن السّلطة السّياسية ثورة حقيقيّة، لقضائه على الاستبداد الدّيني الذي كانت الكنيسة تنتهجه متسلّطة بذلك ‏على الأرواح والأجساد على حدّ سواء وفي جوانب الحياة المختلفة كالفنّ الذي قسمته إلى قسمين؛ فنّ مقدّس يصف ‏تفاصيل صلب المسيح وآخر مدنّس يصف تفاصيل الحياة اليوميّة ومختلف العلوم والعلماء الذين كانوا في صراع وجودي ‏بين قداسة الدّين وروحانيته ودناسة العلم ومادّيته.‏
كانت هذه السّردية التّاريخيّة سببا رئيسا في نشوء مفهوم العلمانيّة وتطوّره بما مكّن المجتمع الأوروبي من تكوين ‏حضارة بشريّة بعيدة عن الدّين، إذ أنّ فصل السّلطة الدّينية عن السّلطة السّياسية انتقل إلى فصل جذري للدّين عن ‏السّياسة وهو مفهوم راديكالي تطرّفي قائم على الإعلاء المطلق من النّشاط الدّنيوي المادّي وإقصاء ترسّبات الرّوحاني ‏حتّى أنّ القيم تشيّأت وأصبحت من المادّيات التي تساعد في الدّورة الاقتصاديّة.‏
ب – نقد التطرّف الفلسفي ‏
يختلف التّاريخ الإسلامي الذي أصّل لقاعدة جوهريّة تتمثّل في «لا رهبانية في الإسلام» وقد تمّ تكريس ذلك واقعا وتطبيقا ‏من خلال بناء المسجد في قلب المدينة وبذلك جعل الدّين يتفاعل مع المدينة والمدينة تؤثّر في الدّين وتشريعاته وبذلك يختلف عن التّاريخ ‏المسيحي الذي قسّم المجتمع المسيحي إلى قسمين ؛ قسم فيه مجتمع مؤمن بالعقيدة المسيحيّة لكنّه غير مكرّس لخدمة ‏الكنيسة وقسم آخر فيه مجتمع آخر يطلق عليه بمجتمع المترهب وهو الذي تجده في خدمة الكنيسة آناء اللّيل وأطراف ‏النّهار، وقد ظهر هذا التّقسيم خاصّة في المعمار المسيحي من خلال بناء الكنائس خارج المدينة لينقطع الرّاهب عن الدّنيا، ‏فلا تؤثّر فيه ولا يؤثّر فيها.‏
كما تختلف السّلطة الدّينية على مرّ التّاريخ الإسلامي التي لم تكن تحاكم النّاس على آرائهم ومعتقداتهم الباطنيّة، باستثناء ‏فترة المأمون والصّراع المعتزلي في علم الكلام وقضيّة خلق القرآن، بقدر ما كانت تحرم النّاس حقّهم في المشاركة في ‏الحياة السّياسيّة وتدبير شؤونهم الخاصّة تحت ذريعة خطر تفكّك الدّولة منذ الفتنة الكبرى وبذلك نخلص بأنّ الثّورة في ‏التّاريخ الإسلامي لم تكن ضدّ رجال الدّين أو الفقهاء بقدر ما كانت ضدّ رجل السياسة على عكس نظيرتها في التّاريخ ‏المسيحي التي لعبت فيه الكنيسة دور الوصيّ على الدّين فأرست محاكم التّفتيش لدحض المعتقدات التي لا تتبناها الكنيسة ‏بصفة رسميّة وإجبار أتباعها على اعتناق الدّين الرّسمي للكنيسة.‏
لا ينكر عاقل أنّ التّاريخ الإسلامي قد شهد انتهاكات لحقوق الإنسان خاصّة حقوقه المدنيّة والسّياسيّة، فمخاوف دعاة ‏الفصل أو دعاة التحديث تبدو مشروعة بالنظر إلى التجربة الاسلامية طيلة الـ14 قرنا الماضية لكن وجب بيان أنّ التّجربة ‏التّاريخيّة لا تعكس فهما صحيحا للنّص المؤسّس بل لو تدبّر هؤلاء في ما يقوله النّص الشّرعي المؤسّس لوجدنا أنّ علم ‏الأنثروبولوجيا بما هي علم الإنسان والتي تهتم بالثّقافات الأخرى من خلال دراسة سلوك الإنسان في المجتمعات الماضية ‏والحاضرة يبيّن لنا أنّه لا يمكن لأيّ مجتمع أو مؤسّسة الخلوّ من السّياسة قطّ، فالإنسان كائن سياسيّ بامتياز وبهذا يمكن ‏القول أنّ المسجد هو مؤسّسة سياسيّة بالمعنى الأنثروبولوجي.
ختاما، يكون الفصل بين الدّين والسّياسة لا معنى له في السّياق الأنثروبولوجي إذ أنّه ليس هنالك فترة في التّاريخ القديم ‏والحديث وحتّى المعاصر كان الدّين فيها غائبا عن تدبير شؤون النّاس، وبهذا يمكن القول أنّ الوصل ممكن في إطار مدني ‏مع ضرورة تجديد الفكر الدّيني بما هو ثمرة عمليّة إنتاج الأفكار والتي تحتاج إلى مؤسّسة مشتركة بين جميع الأطراف ‏المتداخلة في الشّأن العام وذلك لبناء مرجعيّة فكريّة واضحة ومشتركة تعود إليها السّلطة التّشريعية لسنّ القوانين ‏المتوافقة معها، فيسهل بذلك إنتظام العامّة داخل المجتمع الإنساني.‏