أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ (‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة السادسة : الخبير
 ورد إسم ( الخبير ) زهاء خمس وأربعين مرّة في الكتاب العزيز وهو ينتمي إلى مجموعة أسماء العلم وهي ‏أكبر المجموعات عددا كما مرّ بنا في حلقات سالفة. كغيره من أكثر الأسماء الإلهيّة يرد هذا الإسم على صيغة ‏‏(فعيل ) وهي من أكبر صيغ المبالغة.
المعنى اللّغوي
الجذر الثلاثي هو ( خ ب ر ) والقراءة الصّوتية له ترشدنا إلى أنّ هذا الجذر يعني كلّ معاني الإحاطة والعلم ‏وبكلّ قوّة وعمق وبما لا يضاهى، إذ هو ينطلق للتّعبير عن معناه من حرف حلقي غائر (حرف الخاء) ثم يمتد ‏إلى طرفي الشّفتين عندما يلتقيان إطباقا ( حرف الباء ) ثم يعود ليلج وسط الفم ( حرف الراء ) وبذلك يتكافل ‏الجذر بمكوناته الثّلاثة ليصوغ المعنى . 
بمثل هذا التّمشي والتحليل كان العرب ينحتون لسانهم ويعبرون عمّا ‏يريدون ومن يعود إلى هذا يجني علما ومعرفة، إذ أنّ علم اللّسان العربي علم سماعي أي يعقله السّامع دون ‏حاجته إلى معاجم وتلقينات. فعل خبر (بفتح الفاء واللاّم دوما وبتردّد عينه بين الفتح والكسر) يعني إذن ‏حصول العلم كلّه بيقين لا يضاهيه يقين وبعمق لا يضاهيه عمق، إذ الخبرة أدقّ من العلم وأعمق منه وأشمل ‏وأكمل وبذلك لم ينسب فعل الخبرة في القرآن الكريم كلّه إلا لله وحده سبحانه إلاّ عندما ينسب هذا الفعل إلى ‏بعض الأنبياء ( موسى مثلا عليه السلام) فذلك لأن الله سبحانه هو من يخبره بذلك.
بين الخبر  والنبإ : مثل ما بين العدّ والإحصاء
النبأ من: نبا ينبو نبوا أي ظهر وعلا وبرز، فإذا همز فهو من نبأ كقوله سبحانه « نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1) أي أعلمهم بذلك فإذا أسند الفعل للفاعل أصبح ( أنبأ ) كقوله سبحانه «فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» (2) أي أعلمها . هذا الجذر ( ن ب ا ) يعني الإعلام ‏بشيء ثابت صحيح ظاهر بارز لا مرية فيه وهو يحمل معنى الجدّة والحداثة، إذ يكون النّبأ بشيء جديد على ‏المتلقّي في العادة ولو بوجه من وجوه الجدّة كما أعلم الهدهد سليمان عليه السلام بشأن سبإ فقال «وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ»(3) وبمثل ما أعلم صاحب موسى ( العبد الصالح ) موسى عليه السلام بما لم يستطع عليه صبرا ‏وقال له «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا» (4) ذلك أن ظاهر الأشياء عاينها موسى عليه السلام بنفسه ‏ولكن الإنباء يأتي على ما خفي عليه منها ولذلك وصف الله سبحانه قول الفاسق نبأ لأنّه ينبو عن الإلف والعادة ‏ويبرز ويظهر ويشذّ ويفسق عن ذلك العرف فقال «.. إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا..» (5) ولا يطلب تبيّن الخبر لأنّه ‏الأصحّ والأوثق. أمّا الخبر فهو النّبأ الذي لا سبيل للمرية فيه . ألا ترى أنّ مكونات النّبأ مرققة كلّها طرفيّة ‏سواء لسانا أو شفتين؟ أمّا مكونات الخبر كما مرّ بنا فهي تبدأ بالحرف الحلقي الغائر الأفخم وتنهي به حملها. ‏الخبر هو الأثقل في ميزان العلم والمعرفة والإدراك والإنباء وما يفيئ إلى هذا المربع الدّلالي. الإنباء يقصر ‏شأنه في العادة على الظّاهر أمّا الإخبار فهو علم بالباطن والظّاهر معا. قال تعالى عن نفسه «...وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ»(6) أي أنّ الإنباءات التي تأتيك هي من عند خبير لا يندّ عنه شيء سبحانه. 
ولمّا أراد صاحب موسى أن ‏يعلّمه أنّ الصّبر على ما لا يصبر عليه في العادة محرجة، قال له «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا»(7) أي ‏أنّ ما سأفعله له باطن لا تعلمه أنت ولا سواك فهو يحتاج إلى خبرة. وأخبرنا سبحانه عن الأرض أنّها يوم ‏القيامة «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا»(8) أي أنباءها التي طويت في أحشائها، فهي لم تكن معلومة للنّاس أو سرت حيلها عليهم ‏وأنطلت. ولما ذهب موسى عليه السلام إلى النّار وهو تائه في سيناء يبحث عن دليل وحمى قال:«..سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ..»(9) أي سآتي من النّار التي رأيتها بخبر إذ أن المعقول والمألوف هو أنّ النّار أوراها أصحابها ليجد عندهم ‏خبرا صحيحا ثابتا عن وجهته وربّما رفدا ورفقا. هنا يباح إستعمال ( الخبر ) لأنّ المعقول هو أنّ النّار لا ‏تورى من تلقاء نفسها وعندما تورى لا بدّ أن يكون واريها بجانبها أو قريبا منها ولذلك إستخدم موسى فعل ‏الإخبار. ولما جاء جبريل عليه السّلام إلى محمد عليه السّلام يعلم النّاس دينهم في صورة إنسان سويّ قال له ‏‏«أخبرني عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وعن السّاعة»(10) ذلك لأنّه ملك يعلّم النّاس أصول الدّين ‏العظمى وهو في بادئ الأمر في عيون الصّحابة رجل يسأل عن دينه، فلا بدّ أن يستخدم الفعل الذي يكون ‏صحيحا ويأتي بالنّبإ الصّحيح. الخبر إذن ـ بخلاف ما يستخدم فينا اليوم ـ هو النبأ الأصح الأعمق الأشمل الذي ‏يحيط بالشّيء ظاهرا وباطنا، فلا يتسلّل إليه ريب ولا عيب ولذلك لم ينسب إلاّ إلى الله سبحانه فهو الخبير الذي ‏يخبر بالحقيقة وحظّ الإنسان أن ينبئ أو يعلم أو يدرك أو يعي أو يفهم أو يفقه أو يعرف وكلّ ذلك دون الإخبار ‏بما لا يضاهى. 
الفرق بين الإخبار وبين الإنباء كالفرق بين العدّ والإحصاء إذ العدّ عمل بشري مقدور عليه لأنّه ‏يتعلق بالظّاهر، أمّا الإحصاء فهو عمل إلهي فهو المحصي سبحانه وليس من أسمائه أنّه عادّ رغم أنّه نسب إلى ‏نفسه فعل العدّ.
بم يكون الله خبيرا؟
أكثر ما ورد في القرآن الكريم أنّه سبحانه خبير بما يعملون وما يفعلون وما يصنعون وبما تكنّ الصدور وتخفيه ‏وغير ذلك ممّا هو مبثوث في الكتاب العزيز. الله سبحانه لا يعلم فحسب بل هو يخبر الأشياء والأمور خبرا فلا ‏يندّ عنه منها شيء مهما دقّ وجلّ وخفي وصغر. ورد أنّ الله سبحانه أنبأ المسلمين من أخبار المنافقين وغيرهم ‏فقال «..قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ..»(11) وهكذا في مواضع كثيرة في الكتاب العزيز يلتقي الإنباء والإخبار في آية ‏واحدة أو جملة واحدة أو سياق واحد ليتبين الفرق بينهما. الله خبر ما عند المنافقين وغيرهم خبرا كاملا شافيا ‏ضافيا وافيا لا مزيد عليه «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(12) ولكنه عندما يعلم بذلك المؤمنين فإنّه ينبّئهم ‏به أو منه وليس يخبرهم بكلّ شيء فيه.
إقترانات الخبرة في القرآن الكريم
إقترن فعل الخبرة الإلهيّة في الكتاب العزيز باللّطف في مواضع خمسة وبالعلم وبالحكمة وبالبصر في مواضع ‏أربعة لكلّ منها دون ورود هذا الإسم ( الخبير ـ سواء ورد نكرة أو معرفا ) مستقلاّ لا مقترنا وهو الأكثر أي ‏زهاء ثلاثين مرّة من جملة خمس وأربعين مرّة. قراءة سريعة في معاني هذا الإقتران تنبئنا أنّ خبرة الله سبحانه ‏فيها لطف، واللّطف ـ كما سيأتي إن شاء الله في حلقات قابلة ـ يحمل معنيي الدّقة والحلم. الله خبير بلطف أي بكلّ ‏معاني الخبرة، إذ اللّطف هو كمال الدّقة التي لا تذر شيئا إلاّ ولجته ولا أمرا إلا غمرته. 
صفة اللّطف هنا تعمق ‏معنى الخبرة. فلا يحتاج الله سبحانه إلى تشريح وجهد وعبء حتّى يخبر ما يريد خبره بل يفعل ذلك بمنتهى ‏اللطف. كما إقترن معنى الخبرة الإلهيّة بالعلم وهو مفهوم لأنّ الذي يخبر شيئا لا بدّ أن يكون به هو الأعلم فهو ‏يخبر بعلم وقدرة على الخبرة. والعلم هنا يؤكّد قيمة الخبرة الإلهيّة. كما إقترن بقيمة الحكمة ليفيد أنّه سبحانه ‏يخبر الأشياء والأمور والصّدور والغيوب وهو يحكمها حكما وكذلك يخبرها وهو سبحانه يحكم أمرها فلا يكون ‏خبرها بها عبثا بل عملا حكيما. كما إقترنت صفة الخبرة الإلهية بالبصر ليعلمنا أن البصير سبحانه لا يخفى ‏عليه شيء فهو يبصر كل شيء حتى النملة السوداء في الليلة الظلماء تدب فوق الصخرة الملساء . كل تلك ‏الإقترانات تنبئنا أن خبرته سبحانه لا حدود لها فهو خبير بكل شيء وعلى كل شيء قدير سبحانه وذلك حتى ‏تتميز خبرته عن خبرة الإنسان وإن كانت نسبة الخبرة للإنسان نسبة مجازية وليست حقيقية
المفاجأة هي : عدم إقتران الخبرة بالسمع
أجل. تلك هي المفاجأة إذ ورد سبحانه ـ كما سيمرّ معنا بإذنه سبحانه في حلقات قابلة ـ أنه سميع بمثل ما هو ‏خبير وبصير تقريبا وإذ إرتبطت خبرته سبحانه بالبصر في مواضع أربعة فهي لم تقترن ولو مرة واحدة بصفة ‏السّمع التي هي من أسمائه وصفاته كثيرة الورود والتّواتر. لم يا ترى؟ الأمر في غاية اليسر ذلك أن السّمع لا ‏يمكن من الخبرة التي لا يخترمها أيّ ريب ولا يخالطها أيّ شكّ، ولذلك لم يقل سبحانه ولو مرّة واحدة أنّه سميع ‏خبير أو خبير سميع، إذ أنّ ذلك لو ورد يعوق من صفة الخبرة. الأمر هنا مقيس علينا نحن البشر حتّى نفهم أنّ ‏السّمع أقلّ علما وإحاطة من البصر، وتأتي أسماؤه سبحانه وصفاته مناسبة لعقولنا نحن لنعقلها ونفقهها ولكن لا ‏نقول أنّه سبحانه يبصر أكثر من أنّه يسمع وبذلك هو خبير. لا. هذا لا يقال في حقّه سبحانه. ولكن عندما نعلم ‏ذلك من حالنا نحن نكون قد تقدّمنا على درب العلم بالله سبحانه من خلال أسمائه وأفعاله خطى حثيثة. 
وقيمة ‏أخرى يمكن إجتباؤها هنا وهي أنّ من الأشياء والأمور ما لا يحدث ما يسمع فهي لا تحتاج إلى سمع ليسمع ‏خبرة أو إنباء ولكن يحتاج إلى بصر وكلّ ذلك في حقّنا نحن تنزيها له سبحانه ولكنه سبحانه يعلم بإحاطة ‏وشهادة لا حدود لهما ويخبر بسمع وبصر وبما علمنا وبما لم نعلم ولن نعلم وسبحان من ليس كمثله شيء
لماذا هو خبير سبحانه ؟
مرّ بنا هذا مرّات كثيرات ولا بأس من التّذكير به فهو سبحانه خبير ليعلمنا أنّه لا يغيب عنه شيء وأن علمه لا ‏يضاهى، فهو ليس علما فحسب ولا معرفة ولا إدراكا ولا سمعا ولا بصرا فحسب ولا شهادة فحسب بل هو خبير ‏مبالغة من الخبر. والثمرة المرجوة هي تعميق حاسة المراقبة فينا وعدم غفلتنا أن الله سبحانه معنا حيثما كنّا ‏وكيفما كنّا من ليل أو نهار أو خلجة صدر لا تعمّر عشر معشار طرفة عين وأنّه سبحانه خبير بما يكون وغير ‏ذلك ممّا لا يحصى، فإذا نحتنا الحياة على أساس أنّنا مراقبون مراقبة تامّة كاملة داخليّا وخارجيّا، قلبا وقالبا، بالليل ‏والنهار والصّبح والعشي، فإنّ النّتيجة هي إنصرافنا عمّا يغضبه قدر الإمكان، فإذا صدرت السيئة غفلة أو شهوة ‏هُدْنا إلى الإستغفار والتّوبة. 
تلك هي قيمة صفة الخبرة وكلّ الأسماء المنتمية إلى أكبر مجموعة وهي مجموعة ‏العلم وذلك حتّى لا نتصرف بسوء حتّى بالخلجات الصدريّة الخافية فضلا عن الظّاهرة البارزة كمن يعمل أو ‏يقود سيارة أو يفعل أي شيء وأجهزة المراقبة الدقيقة جدا ترصده من كلّ جانب لا تهدأ طرفة عين من ليل أو ‏نهار. هل يخطئ هذا ؟ أبدا. لم؟ لأنّه يخشى العواقب. والله سبحانه أحقّ أن يخشى وأن تخاف عواقبه. وهو ‏خبير سبحانه كذلك ليبثّ الأمل في صدور المستضعفين أنّ الله منتقم لهم وحتّى يبث الخوف منه في صدور ‏المجرمين والسّفاحين أنّه لن يتركهم ولكنّه يمدّ لهم ويستدرجهم. هو إسم يبعث الأمل إذن والخوف معا.
حظ الإنسان من إسم الخبرة الإلهية
من حيث المعنى فإنّ للإنسان حظّا من إسم الخبرة وذلك حتّى يحكم عمله ويحسن قوله ويخبر شأنه، فيكون عالما ‏ومتعلما ومعلّما قدر الإمكان ولكن من حيث المبنى فإنّ الإنسان لا يسمى خابرا بله خبيرا مبالغة إلاّ على وجه ‏التجوّز والمبالغة والعرف، إذ رأينا أنّ هذا الفعل لا ينسب إلى النّاس ولم ينسب حتّى إلى الإنبياء إلاّ إذا أراد الله ‏أن يخبرهم بشيء. بذلك يظل إسم الخبرة متردّدا مبنى ومعنى بين الخبير بحقّ سبحانه وبين عبده الذي يطلب ‏منه أن يكون على قدر من الخبرة قدر الإمكان. 
ومن المعاني هنا كذلك أن يلزم الإنسان الخبر الصّحيح فلا يقبل ‏إلاّ الخبر الصّحيح ولا ينطق إلاّ بالخبر الصّحيح، إذ أنّ الإنباء منسوب إلى الفسق إلاّ أن يكون خبرا صحيحا ‏في ظاهره على الأقل، كما أنبأ الهدهد سليمان عليه السلام بسجود بلقيس وقومها للشّمس من دون الله. ولا مانع ‏من أن يتسمّى الإنسان بصفات الخبرة من مثل خابر أو خبير وإن كان الأولى أن يتسمّى بعبد الخبير ولكن لا ‏مشاحة في الأسماء لأنّ العرف جرى على أنّ الذي يتسمّى بالخبير لا يريد مضاهاة خبرة الله سبحانه.
الهوامش
(1) سورة الحجر - الآية 49
(2) سورة التحريم - الآية 3
(3) سورة النمل - الآية 22
(4) سورة الكهف - الآية 79
(5) سورة الحجرات - الآية 6
(6) سورة فاطر - الآية 14
(7) سورة الكهف - الآية 68
(8) سورة الزلزلة - الآية 4
(9) سورة النمل - الآية 7
(10) من حديث جبريل، عن عمر رضي الله عنه - ورد الحديث في كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم والأربعين النووية.
(11) سورة التوبة - الآية 94
(12) سورة الملك - الآية 14