في الصميم

بقلم
محمد القسنطيني
«الفرد والدولة وبناء النسيج المجتمعي» محاولة في إعادة صياغة آليات تشكل المجتمع المسلم وتحديد مهام م
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، صاحب أعظم تجربة خالدة ‏عرفتها الإنسانية، الذي بعثه الله تعالى بمسألتين أساسيتين وهما المنهج والمنظومة المجتمعية. فلقد أراد الله تعالى من وراء ‏إرساله لخاتم النبيئين صلى الله عليه وسلّم أن يبيّن لعباده منهجه القويم لكلّ مجتمع يريد تبنّي دينه الحنيف ومنظومته المجتمعية ‏المتميّزة، وما المحن والشدائد والتدرّج في الانجازات إلاّ نموذج إنساني برعاية ربّانية ودروس وعبر لمن يريد أن ‏يعتبر ويتعلّم، ولمن يريد النسج على منواله. وما بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلاّ تجسيدا لمنهج الله تعالى في ترسيخ دينه ‏القويم، الإسلام. هذا أمر مهمّ فهمه والاقتناع به والتمكّن منه وهي غاية جهاد رسولنا صلى الله عليه وسلّم وكلّ العناء والتعب ‏والعذاب والشدائد التي عاشها صلى الله عليه وسلّم، حتى يكون هديه سبحانه مجسّدا ومخلّدا في تجربة إنسانية محضة برعاية ‏ربّ العالمين، وأنّه لم يكن أبدا قوالب جاهزة ولن يصير قوالب جاهزة. يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ ‏الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‎ ‎‏»(1). 
فلقد أرسل الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمسألتين مترابطتين، ‏بمنهجية « بِالْهُدَى» ومنظومة «وَدِينِ الْحَقِّ» حتى تكون تلك المنظومة هي أعلى وأرقى وأتمّ من أيّ منظومة أخرى « ‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»، يرعاها ربّنا حتّى تتجسّد في المجتمع مهما كانت مقاومة المشركين « وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‎‏». وفيها ‏دلالة بيّنة أنّ الدّين الحقّ يُظهره سبحانه على أيّة منظومة أخرى كلّما تبنّته جماعة وفق منهجيّة جسّدها رسول الله صلّى الله عليه ‏وسلّم كنموذج يُقتدى به. كما أن فيها دعوة للنّظر والبحث في هذا المنهج وألاّ نكتفي بالتعامل مع ظواهر معزولة بل هناك تناسق ‏وتكامل بين الآيات في ثناياها مناهج وآليات يجب استنباطها واستخراجها لتبنّيها.‏
تأتي هذه المحاولة الفكرية في هذا الاتجاه: استنباط المنظومة المجتمعية المنشودة. وللتذكير فقد خلص البحث إلى أنّ للمجتمع ‏المسلم (الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأْرْضِ) منظومتين، منظومة حياة (أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ) ومنظومة إدارة (وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ‏وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ) موجّهتين نحو نمائه والرقي به إلى أعلى الدرجات بين الأمم (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). غايتها بناء وترسيخ، ‏نسيج مجتمعي سليم، آمن ومتعارف، يشدّ بعضه بعضا كالبنيان المرصوص، تتسابق وتتسارع كلّ مكوناته لنمائه والرّقي به ‏إلى أعلى الدّرجات وأرقاها بين الأمم.‏
وكلمات هذه الآية من سورة الحج « الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا ‏بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور»ِ(2) تعنى بعد التّدقيق والتمحيص والتعمّق فيها أنّ:‏
• التمكين: 
هو الإحاطة التامّة بثبات وقوّة بالأرض التي تتصرّف فيها الجماعة، فتكون كلّ مدخّرات الأرض ومجالاتها ‏وأمنها راجع للدّولة لا ينازعها فيه أحد. والتّمكين هو محطّة تأتي بعد الاستخلاف وقبل تأمين المجتمع من أي تخوّف ‏يحول دون عبادة الله تعالى عبادة خالصة من أيّ شرك. ‏
• إقام الصلاة: 
منهج حياة ينظم به المسلم يومه وفق محطّات، التنظيم الأمثل لأوقات عمله وأوقات راحته وعلاقته ‏بأخيه المسلم وبمجموعته التي ينتمي إليها وبقائده (إمامه)، ويحدّد مكان الالتقاء وهو المسجد، الفضاء الجامع لكلّ ‏المؤمنين بكلّ أصنافهم وانتماءاتهم، حيث يتربّى المؤمن ويعتاد على الانضباط الجماعي والانقياد الواعي للقيادة ويُنسج ‏علاقات اجتماعيّة تعينه على العيش بأمن وأمان وطمأنينة وتيسّر له المساهمة الفعّالة في تحسين سلوكه ووعيه ‏الجمعي ومردوديته وسلوك ومردودية ونماء المجموعة التي يعيش فيها في كلّ مجالات الحياة ممّا يقلّل من تكلفتها. وهي ‏كذلك الآليّة الأولى لبناء النّسيج المجتمعي السّليم والمعافى من العاهات والآفات الاجتماعيّة وهيكليته وتحصينه ‏لضمان ديمومته.‏
• إيتاء الزكاة:
هو المنهج المكمّل لمنهج إقام الصلاة والمبني على أساس أنّ الفرد هو المسؤول الأوّل عن وضعه وحاله ‏والدّافع لنمائه ونماء قدراته وممتلكاته ونماء مجتمعه مهما كان وضعه المالي أو المادي، وذلك بالإنفاق المالي والبدني ‏والمعرفي والفكري والنّصح وكل إسهام لدفع المجتمع نحو الأفضل من تنمية وتوازن اجتماعي وتطوّر. فالفرد مطالب بالعمل على توازن المجتمع ونمائه ودفعه نحو الأفضل من خلال إسهامه بما زاد عن ‏حاجته من إمكانات مالية أو بدنيّة أو معرفيّة ايجابيّة، فيضعها على ذمّة قربى الأرحام وقربى المكان والمجتمع ككلّ ‏يستعملونها عند الحاجة؛ إضافة إلى ما تأخذ منه الدّولة بنسبة معلومة، محدّدة وثابتة من جهده ومن وفرته، فتنفقه ‏على مكامن الخلل والضّعف وعلى مستلزمات إدارة الشّأن العام من تشريع وحسن إدارة ومراقبة وزجر وإصلاح، وكذلك ‏لمزيد تطوير وتيسير استطاعة أفرادها ورفاهيتهم. ‏
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 
هو نموذج للإدارة المثلى والأقل تكلفة، سواء أكان ذلك لإدارة المؤسّسات أو لإدارة ‏الشّأن العام، بقيادة مؤسّسة، «إدارة الرّقي» الصّورة المصغّرة للمجتمع التي تقوم بجهد فكري لإدراك الشّيء بتفكّر وتدبّر ‏لأثره الإيجابي أو السّلبي (القبيح)، غاية أعمالها هو وضع برامج وخطط، وضبط التوجّهات، وإصدار قرارات وأوامر ‏ونواهٍ بعد مشورة المعنيين بها في اتجاه الرقيّ بالأمّة إلى أعلى المراتب والأرقى بين الأمم. منطلق أوامرها ونواهيها ‏ودعواتها إلى الخير هو واقع الأمّة، مرجعيتها القرآن والسنّة أوّلا ثمّ المرجعيات العامّة للمجتمع، ثمّ ما توصّلت إليه ‏الإنسانية والأمم السّابقة والحاضرة، من خيرات وأمور حسنة لا تتعارض مع تعاليم ديننا الحنيف. منفتحة على باقي ‏الأمم لتتقاسم معها ما توصّلت إليه من خيرات. ‏
• لله عاقبة الأمور:
هو موجّه ومحرّك مؤسّسة إدارة الرّقي حتّى تتّجه دعواتها إلى الخير وأوامرها ونواهيها إلى ما يعقب ‏الحاضر، وهو جهد لا ينتهي ولا حدود له وحركة لا متناهية في الزّمن إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. فهو الدّافع ‏ومحرّك الرّقي بالكل إلى أعلى الدّرجات، والإطار العام الذي يتحرّك فيه الكُل، أفرادا ومؤسّسات ودولة، ما بين العمل على ‏مرضاة الله في كلّ عمل وحركة، والاهتمام بما سيأتي ومنتظر، بعد الحاضر، أي النّظر وإعطاء الأولويّة للنتائج المرجوة ‏لأيّ شأن على المدى البعيد والابتعاد عن كل ما هو فوري وآني، والكدح إلى الله عزّ وجل بالدّفع إلى الكمال، وذلك ‏بالتّحسين المستمر والتّجديد والتّطوير والاكتشاف والابداع بدون تعب ولا كلل ولا ملل إلى أن يرث الله الأرض ومن ‏عليها.
هذه المنظومة، منظومة آليات الرّقي لتحقيق أمن وطمأنينة ورغد عيش المجتمع، تبدأ من الفرد النّامي، الذي يرعاه ويرّبيه ويكوّنه ‏البيت بأعلى مردوديّة وبأقلّ التكاليف بفضل التّوزيع الأمثل بين الرّجل والمرأة للمهام الموكولة إليهما لإدارة البيت، ويحضنه ‏المسجد القلب النابض للمجتمع الذي زوّده الله تعالى برحى (استراتيجيّة) تأمين المجتمع من الخوف بأشكاله التي لن تتوقّف ‏قبل تأمين الجماعة من أيّ خوف في إيمانها وطمأنينتها ورغد عيشها، والذي تُشرف عليه هيئة الإرشاد، الحاضنة والرّاعية لشؤون ‏الجماعة اليوميّة في المسائل غير المقنّنة، والمنتبهة والباحثة لمزيد من الأمن والأمان لأفرادها والضّابطة لأفكار مشاريعهم، ‏والمُمَثّلة لهم لدى أجهزة الدّولة، والملتزمة بتوجّهات وبأوامر إدارة الرّقي والقيادة المركزيّة.‏
هذه الرّكيزة الأولى لنماء المجتمع، هذا الفرد الزّاكي النّامي، عليه مهما كان وضعه المادي والاجتماعي أن يؤدّي فريضة الزّكاة بمعني ‏إنفاق ممّا رزقه الله وممّا زاد على حاجته من قدرات واستطاعة مهما قلّت او كثرت وايصالها طواعية لمستحقّيها؛ ممّا استوجب ‏عليه البحث والتعرّف، في المكان والزّمان بحكم أنّه فعل متواصل مدى الحياة، على من هو أحقّ بالإنفاق ونوعيّة وحجم وكيفيّة ‏ايصال ذلك الإنفاق. فأرشد الله عزّ وجلّ إلى أيسر السّبل لأداء هذه الفريضة بالتّركيز على الدّائرة التي يعيش فيها الفرد، قربى الأرحام ‏وقربى المكان، الأقرب والأيسر للتّعرف على حاجاتهم الآنيّة وعلى المدى المتوسّط والبعيد. عندما يسلك المسلم هذا النّهج لإيتاء ‏الزّكاة، فهو يكشف في نفس الوقت عن حدود امكاناته وقدراته، ممّا يتيح للمحسنين الآخرين التّعرف على مكامن ضعفه وحاجاته، ‏فيقوم من له القدرة بالإنفاق عليه ليسدّ شيئا من حاجاته؛ وهكذا يتمّ بناء النّسيج المجتمعي ونسج خيوطه وتأسيس التّعاون ‏والتّكافل ونظام تدفّق المعلومات بين أفراد المجموعة وفق أسس دنيا بيّنة.‏
هذا الفعل المتواصل في الزّمان وما يتطلب من رصد للتّغيرات والتّحولات التي قد تطرأ على أحوال النّاس وإمكاناتهم وقدراتهم، ‏وجب على المجموعة أن تنظّم حياتها اليوميّة وأوقات ومكان الالتقاء لضمان استمرارية وفعّالية هذا الإحسان. فجعل الله تعالى ‏الالتزام بالصّلاة في المسجد وتنظيم الحياة اليوميّة للمجموعة وفق أوقات الصّلاة فيه هو التّنظيم الأمثل، والمسجد هو المكان ‏الأفضل والأنسب للتّعارف والتّعاون والتّآزر والتّكافل والالتزام بالجماعة ولتبادل المعلومة وللتعرّف بأكثر عمق لخصوصيّات ‏مكوّناتها. 
وأوجد هذا النّهج، نهج «إقام الصّلاة وايتاء الزّكاة»، الإطار والبيئة الأمثل والأنجع لتنظيم الحياة اليوميّة للنّاس وتثبيت ‏الوعي الجمعي والتّذكير به في كلّ ركعة يؤدّيها المسلم، والحدّ من طغيان الأنا وإضعافها، وكذلك الإطار للانتباه ولطرح مشاغل ‏وهموم واشكاليّات الأفراد كأشخاص وكمجموعة ليُتكفل بها على المستوى المحلّي، على مستوى قربى الأرحام وقربى المكان، ممّا ‏يزيد من فعّالية حلّها لسرعة كشفها قبل استفحالها أو تعقيدها وغالبا ما يكون مواردها من تطوّع أفراد المجموعة. فتصبح ‏الجماعة عالمة وعارفة بقدرات أفرادها وما زاد على حاجتهم من إمكانات عينيّة ومعرفيّة تستعملها عند الحاجة لحلّ ما أشكل ‏على أفرادها، وتصير الحاملة لمشاغلهم والمسيّرة لشأنهم المحلّي في المسائل غير المقنّنة والمتحدّثة باسمهم لدى مؤسّسات ‏الدّولة والضّابطة لأفكار مشاريعهم فترفعها لإدارة الرّقي لتمحّصها وتدرس جدواها ومدى تطابقها وخيارات الأمّة وتوجّهاتها. 
موارد ‏تلك المشاريع أمر يتقاسمه الكلّ الجماعة صاحبة الفكرة، والدّولة التي تملك موارد قارّة ومخصّصة لمثل هكذا مشاريع ‏والمشاريع التي تزيد من رقيّ المجتمع، والمتأتية من منظومة ضريبيّة معلومة ومحدّدة تفرّق بشكل نهائي بين موارد التّسيير ‏وموارد التّنمية المستديمة.‏
والوحدة التّنظيمية ليست معزولة عن باقي المجتمع، بل هي مترابطة ومتداخلة مع عدّة وحدات بحكم ترامي ‏علاقات القرابة والجيران والأصحاب خارج حدود منطقة الجماعة، فتتعارف وتتعاون التجمّعات فيما بينها بمثل تعاون وتعارف ‏أفراد الجماعة الواحدة، ليصبح كلّ المجتمع نسيجا متكاملا ووحدة متجانسة متآزرة كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.‏
هذا الحراك ليس بالعشوائي أو بحسب اجتهاد كلّ جماعة، بل هو مشدود إلى قاطرة الأمّة، إدارة الرّقي، ومتّجهّ نحو غاية الأمّة، ‏وسائر سيرا حثيثا نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ترعاه وتتابع فعّاليته «إدارة الرّصد والإنذار المبكّر» التي تبيّن ضرورة ايجادها ‏من قوله تعالى في سورة التوبة « وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا ‏قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(3) والتي عليها الاستيعاب والفهم بعمق والتفطّن إلى خبايا وجزئيات ‏المنظومة انطلاقا ممّا تجمعه من فرق التنفيذ لاستنباط واستخراج الأحكام التطبيقية التي لها علاقة بالمنظومة التي تدير شؤون ‏المجتمع المسلم، فتنذر المعنيين بها أملا أن يتّعظوا من تلك الأحكام فيحذروا عواقبها ويحسّنوا من تأهّبهم فيزيدوا من فعّالية ‏أدائهم. غايتها تحسين وزيادة فعّالية المنظومة المجتمعية ككلّ.‏
لتحقيق هذا كلّه، جعل الله تعالى أسسا ونموذجا تنظيميا متميّزا لبناء ذلك النّسيج المجتمعي الآمن، والسليم والمتعارف والمتراص ‏كالبنيان المرصوص، الذي تتسابق وتتسارع كلّ مكوناته لنمائه والرّقي به إلى أعلى الدّرجات والأرقى بين الأمم. ركيزة هذا النموذج ‏الرّباني هي نفس ركيزة هذا البثّ وهذا الانتشار المتزايد باطّراد للبشريّة بعد أن خلق الله تعالى النّفس الأولى وخلق منها زوجها، ‏وهي صلة الرّحم التي تربط بين الإنسانية جمعاء والتي، وفي نفس الوقت، فيها تأكيد من العلي الحكيم على إنسانية هذا الدّين ‏الحنيف.‏
لذلك جعل سبحانه لصلة الرّحم وما تنتجه من أفراد ومعاملات وترابط وتواصل، أسسا وهي في نفس الوقت حقوقا وحدودا في ‏إطار هيكلة محدّدة للمجتمع وتوزيع وظيفي بين الرّجل والمرأة ليقوما بما هو منوط بعهدتهما لتحقيق هذه الأهداف النّبيلة ‏الرّاقية من أمن وطمأنينة ورغد عيش، ليتبيّن من خلال هذه الأسس أنّ الفرد هو مؤسّسة وعلاقاته مع أقربائه هي علاقة تبادل ‏منافع بالقوّة أو بالإرادة، وما تقسيم الميراث إلاّ تجسيد لثمرة تلك المنافع وتأكيد لحاجة كلّ جنس للمال في الزمن المنظور اعتبارا ‏للتوزيع الوظيفي بين المرأة والرجل حيث الرجل هو المسؤول الأوّل على تزويد البيت بالمال. 
والمرأة هي المسؤولة الأولى على انتاج ‏النّوع الرّاقي للنّشء، وهما مسؤولان معا على ربط وتوطيد التّواصل بين البيت، النّواة الصغرى للمجتمع، ومحيطه. انخراط المرأة في ‏هذه المهمّة الثالثة للبيت لا هي بمنّة من الرّجل ولا باختيارها بل هو أمر من الله. لذلك جعل سبحانه قواعد ثابتة وصارمة لحماية ‏وتيسير وتسهيل تواصل المرأة بالرّجل داخل وخارج البيت، بدون شبهات أو الوقوع والسّقوط في الفاحشة والرّذيلة، وتقديرا ‏للمساواة بين الرّجل والمرأة وحقّ كلّ منهما في حرّية الحركة والتّواصل بينهما حتّى ولو كانا غرباء ما لم يخلاّ بالسّلم المجتمعي. ‏فالمرأة في الإسلام مرآة المجتمع ومرجعية تركيبته ونقاوة نسيجه، معززة مكرّمة حقوقها مصانة، تتساوى مع الرجل في الحقوق ‏وتختلف معه في الوظيفة المجتمعية، كلّ حسب قدراته التي تميّزه عن الآخر، ليتكفّلا معا بكل المهام الحياتية ‏والأساسية لبناء المجتمع المنشود.  ‏
هذا التكفّل بمشاغل الفرد والجماعة على المستوى المحلّي يسمح للدّولة أن تنصرف إلى إدارة الشّأن العام بـ «الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر» وإلى الإدارة الحسنة والعادلة لمشاريع الجماعات المحليّة والمساهمة في تمويلها، والتّشريع والمراقبة ‏والعمل والتّفكير المستقبلي والاستشرافي والعمل على إزالة المعوّقات التي تحول دون استطاعة أفرادها المادّيين والمعنويين. 
كل ‏هذه المهام تبقى متناسبة وفي حدود ما يتوفّر لديها من مستخرجات الأرض وخمس ما غنمه أفرادها المادّيين والمعنويين، والفيء ‏والأنفال، وقد تمّ اعادة تعريفها باستعمال المصطلحات الحديثة، وممّا جمعته من الصدقة المفروضة (الزّكاة بمفهومها الشائع) ‏وما تكفّل به أفرادها لتمويله ضمن آلية الخراج والتّكافل والإيثار، فيحصل النّماء والرّفاه والأمن والأمان لكلّ من انخرط في هذه ‏المنظومة المجتمعيّة، وذلك بفضل الحراك الدّاخلي، الذاتي الدّفع والمتعدّد المنابع. من هذا المنظور لا حاجة للدّولة لفرض أيّ ‏ضريبة أكثر ممّا شرّعه الله، فالكلّ يعلم قيمة النّاتج العام وما على الأفراد إلاّ المزيد من الجهد والبذل والإيثار كلّما أرادوا المزيد من ‏التّقدم والرّفاهية والخدمات العامّة.‏
الهوامش
‏(1) سورة التوبة - الآية 33
‏(2)   سورة الحج - الآية 41
‏‏(3)  سورة التوبة - الآية 122