قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
عن الجماعة والرئيس
 (1) 
رحم الله الرّئيس الشهيد «محمد مرسي» وأسكنه فسيح جناته، عاش عزيزا ومات عزيزا وترك دنيانا الفانية غير آسف عليها بعد أن رفعه الله إلى أعلى عليّين حتّى وافق مقامه قول الشّاعر العربي : 
علو في الحياة وفي الممات لحقّا تلك إحدى المعجزات
مات الرّئيس وكل جماعته وأصحابه في محنة شديدة ليسيل بموته حبر كثير أساله أعداؤه ومناصروه. ولئن كان جلّ ما كتب متعلّقا بالحدث نفسه تفسيرا وتحليلا فإنّ السّؤال الذي ظلّ حاضرا غائبا في كلّ ما كتب، وبعد؟
(2)
لم يكن حدث استشهاد الرّئيس محمد مرسي حدثا فريدا من نوعه، فقد استشهد من قبله كثيرون من مختلف المشارب وبشتّى الطّرق، كما وأن محنة الإخوان المسلمين ليست الأولى ولا هي المحنة الوحيدة التى عصفت بأهل الرّأي على امتداد العالم بأسره وإن كانت محنتهم الأشد .
لم يتوقّف الصّراع داخل المجتمعات بين قوى الهيمنة بمختلف الأشكال وقوى التّحرر والانعتاق من مختلف المشارب والحساسيّات، في زمن الاستعمار كما في الزّمن الذي تلاه، كانت قوافل الشّهداء تترى وكذلك قوافل المعتقلين والمساجين والمنكوبين في قوّتهم وأعمالهم تتوالى جيلا بعد جيل، ذلك لأنّ أوطاننا لم تضع منّا الآن وإنّما يمتدّ ضياعها لقرون، وليس من الهيّن أن نستردّ ما أضعناه قرونا في بضعة عقود.
(3)
لقد لمست في  أغلب ما قرأت تعاطفا كبيرا مع الرّئيس الشّهيد لما لقيه من إهانة لا مبرّر لها و لما آل إليه من مصير لا يستحقّه، غير أنّني قرأت في الآن نفسه سيلا من التّعاليق الشّامتة كتبها من لا يرى فيه شهيدا أو من يدّعي أنّ ما فعله الإخوان المسلمون إبّان حكمهم يستحّق ذلك وأشدّ، أو كتبها من يكره الإسلاميّين بلا استثناء كرها لا شفاء منه وأغلب هؤلاء من مشارب ايديولوجيّة معروفة بكرهها العميق للإخوان وغير الإخوان من ذوي الميولات الإسلاميّة. كما أنّ عددا غير يسير من الشّامتين ليسوا سوى عبيدٍ لصاحب السّلطان يدورون معه حيث يدور.
و لعل أهم ما يستتنتج ممّا تقدّم أنّ لحظة الموت بجلالها وما تواضع عليه النّاس من تقدير لها ليست كافية عند الكثيرين لإبداء قليل من التّواضع لعلّهم  يعيدون النّظر في ما سبق أن اعتنقوه من أفكار وما أطلقوه من أحكام بغاية تعديل البوصلة ولو قليلا باتجاه التّسامح والاعتدال وقبول الآخر.
(4)
محنة «الإخوان المسلمين» في مصر محنة مركّبة على نحو بالغ التّعقيد، والأشد تفاؤلا من النّاس يعتقد أنّها سوف تطول أكثر ممّا توقّعوا أو يتوقّعون، وهذه المحنة هي الأشدّ عنفا وقوّة ووقعا على الجماعة التي عاشت لما يقرب الثّمانين عاما. أمّا التّعقيد فيأتي من جهة أنّ الجماعة كانت دعويّة تربويّة سياسيّة في الآن نفسه وأنّها جماعة ممتدّة داخل نسيج المجتمع كما هو شأنها من حيث الانتشار بين الأقطار والبلدان.
جماعة تملك قيــادة وإرثا فكريّـــا وتربويّــا كمــا تملك  تنظيما وجهازا بيراقراطيّا ضخمــا فى السّرّ والعلن في تجربة طويلة تمتدّ لعقود كانت فيها هذه الجماعــة مثار جدل كبير منذ النّشــأة، فكرا وممارسة، وكلما تلقّت ضربـــة شديــدة كان لتلك الضّربة وقعها على التّفكير والممارسة، كثيرها أفاد الجماعة وكثير من ذلك ضيعته.
(5)
عاشت جماعة «الإخوان المسلمين» ما يقرب من ثمانية عقود في صراع مستمرّ مع كلّ الأنظمة التي حكمت مصر و كذلك شأن فروعها أين ما وجدت، وسبب الصّراع كان دائما اتهامها بمحاولة الهيمنة على المجتمع والسّلطة وإن اختلفت المسمّيات. ولم تعرف جماعة أخرى في ما أعرف صراعا بهذا الطّول، ما تكاد تخرج من فصل من فصوله حتّى تدخل فصلا آخر، كلّ ذلك والجماعة تزداد قوّة كلّما تجاوزت محنة وتنفض عن جلدها الكثير ممّا بلي منه، كلّما تقدّمت في الزمن. تفرّعت عنها فروع قطرّية تحت نفس المسمّى أو بمسميات أخرى بعضها لم يعد له وجود حقيقيّ مثل جماعة «جبهة الإنقاذ» في الجزائر وبعضها انفصل عنها تنظيميّا وفكريّا مثل «حركة النّهضة» في تونس وبعضها انشق عنها ليأخذ طريق التّطرف والغلوّ. كابدت الجماعة من أجل البقاء ولم يفل في عضدها ما تلقّته من ضربات على أيدي الاستبداد السّياسي ولا ما رميت به من نعوت على أيدي المغالين من الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة كجماعة التّكفير والهجرة أو القاعدة أو بعض الجماعات الأخرى التي كانت ترى فيها مروقا عن الدّين وتخاذلا في الدّفاع عن نصوصه وأحكامه.
عرفت الجماعة كما عرف غيرها ما سمّي بالمراجعــات، وكان لكلّ مرحلة من المراحل الزّمنيّة نصيب من التّقييم وإعادة النّظر بعضهــا أخطــأ وبعضها أصاب، ولا تخطئ عين الملاحــظ أثر هذه المراجعــات في سلوك الجماعة وفكرها كما في سلوك الجماعات المتفرّعة عنها، بل وحتّى تلك المناوئة لها ولعلّ أوضح دليل على ذلك قبولها بفكرة الحزب والانتخابــات واقتناعهـــا بأنّها ليست إلاّ جزءا من مجتمــع متفاعــل متنوع يعيــش فيه المسلم والمسيحــي والشّيوعي واللاّديني والعلماني في إطار ما يتواضعون عليه من مفاهيم وقوانين.
(6)
في المدى القريب لا يبدو للجماعة مخرج من محنتها وسيظلّ المعتقلون من أفرادها في السجون والمشرّدون رهن التّشريد، وهناك من يرى أنّ الجماعة رغم قوّتها في السّابق قد انتهت وأنّها في طريق الاضمحلال شأنها شأن «الإسلام السّياسي» كله. وقد يكون في هذا الطّرح وجاهة من جهة كون ما تلقّته وما تتلقّاه من ضربات يقصم ظهر أيّ جماعة مهما بلغت من قوّة. 
ومن نافل القول أنّ الجماعة لم تحسب لقوّة الدّولة والعسكر ما كان ينبغي من حساب وأن الكثير من الشّعارات والرّهانات قد خانتها سيّما في ما يتعلّق بالثّورة وقدرة المجتمع على حماية نفسه من دولة تغوّلت عليه لعقود طويلة. 
إنّ الذين كانوا يخافون على الدّيمقراطيّة من تغوّل الإخوان لم يبذلوا أيّ جهد يذكر في حماية الدّيمقراطيّة من تعسّف غير الإخوان، ولقد كان بمقدورهم الفصل بين الدّفع بالمجتمع إلى المجهول ووضع الدّولة تحت تصرّف أعداء الثّورة بالأمس وبين بناء مؤسّسات قادرة على حماية الثّورة من الإستبداد والتّخلف قبل حمايتها من الإخوان وغيرهم، وهذا خطأ مشترك بين قوى الثّورة والجماعة التي ظنّت أنّ الفوز في الانتخابات كفيل وحده بقطع طريق العودة أمام الدّولة العميقة.
(7)
كتب أحد كتاب اليسار متحسّرا « كنت أيام الرئيس مرسي أتظاهر أمام قصر الاتحادية ثم أذهب لأكتب مقالا عن الرئيس و جماعته لا يبقي و لا يذر ثم ألتحق بأصداقي في خان الخليلي لنشرب الشاي و ندخن الشيشة كل ذلك و هاتفي لا يرن و زوجتي لا تتوجس خيفة علي أما الآن فلم يعد بامكاني أن أتظاهر لا أمام الاتحادية و لا في أي مكان و لا أن أكتب عن الرئيس و إذا ذهبت إلى خان الخليلي فإن هاتفي لا يتوقف عن الرنين لما يستبد بزوجتي من قلق».
هذه شهادة عن الرّئيس الشّهيد وغيرها ممّا قيل وكتب كثير، وإن يكن قد رحل شهيدا فإنّ رحيله قد يفتح الباب نحو مراجعات قاسية يقوم بها الإسلاميّون عامّة من أجل تجديد أفكارهم وممارساتهم وطرق مخاطبتهم لمجتمعاتهم لعل و عسي ألا تذهب تضحية الرئيس مرسي هدرا .