الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
دحو الأرض(2)‏
 تناولنا في الجزء الأول الصّادر بالعدد 142 من المجلّة لفظ «الضّحى» في اللّغة وفي الاستعمال القرآني. وقد توصّلنا الى نتيجة هامّة ‏مفادها أنّ كلمة «الضّحى» وردت في القرآن بالمعنى الحرفي لها أي أكمل أجزاء النّور في الضّياء والصّفاء، وهذا منتظر، وأنّ الآيات ‏التي وردت فيها تفسير لظاهرة الضّحى وذلك عندما تمّت إضافتها في موضعين في القرآن مرّة الى السّماء في الآية 27 من سورة ‏النّازعات وهي موضوع بحثنا ومرّة الى الشّمس في الآية الأولى من سورة الشّمس وهذا اكتشاف. والدّليل على ذلك أنّ العلم الحديث ‏توصّل الى إرجاع ضياء النّهار الى تفاعل أشعّة الشّمس بالغلاف الغازي المحيط بالأرض. وهذه النّتيجة لا تستقيم طبعا الاّ إذا ‏افترضنا أنّ السّماء جاءت بمعنى الغلاف الغازي المحيط بالأرض وهو ما فعلناه. وإذا كان الأساس الأول للافتراض هو لغوي ‏باعتبار أنّ السّماء في معناها المعجمي اسم مشتق من أصل يدلّ على العلوّ والارتفاع، والغلاف الغازي لا يشذّ عن هذه الحقيقة ‏المشاهدة فهو موجود في الأعلى، فإنّ الأساس الثّاني هو ما تضمّنته الآيات 27 و28 و29 من إشارات سنواصل الكشف عن ‏مضمونها اللّغوي والعلمي في هذا الجزء الثّاني وسلاحنا الوحيد لذلك هو إرجاع الكلمات الى معناها الأصلي وعرض الآيات الواردة ‏فيها على الحقائق العلميّة.‏
(1) إغطاش اللّيل وإخراج الضّحى: من غلاف شاف الى غلاف شفاف.‏
تفيد معاجم اللّغة أنّ اللّيل هو الفترة الممتدّة من مغرب الشّمس إلى طلوعها أي ما يَعقُب ضياء النّهارَ من الظَّلام. وكما أضيف ‏الضّحى الى السّماء في الآية 29 من سورة النّازعات فإنّ اللّيل أضيف بدوره إليها وفي نفس الآية. فلماذا أضيف ظلام اللّيل الى ‏الغلاف الغازي ونحن نعرف أنّ الظّلام هو الذي يسود الفضاء بين الكواكب وليس خاصّا بليل الأرض؟ لقد أصبحنا نعرف الآن أنّ ‏ظلام الغلاف الغازي يختلف عن ظلام الفضاء الفارغ المحيط بالأرض وغلافها. فيكفي أن نشير الى أنّ النّجوم التي تتلألأ بالنّسبة ‏للناظر من على سطح الأرض ليست كذلك من خارج الأرض وغلافها، فالحالة البصريّة لظلام اللّيل تختلف عن ظلام الكون ‏الحالك. كما أنّ نور القمر لا ينتثر خارج الغلاف الغازي مثله مثل أشعّة الشّمس وهو ما يجعل الظّلام الأرضي يختلف جوهريّا عن ‏أيّ ظلام آخر وذلك يؤشّر على الدّقة العلميّة التي ورد بها لفظ اللّيل الأرضي عند إضافته الى الغلاف الغازي. فنسبة اللّيل ‏والضّحى الى السماء بمعنى الغلاف الغازي يؤكّد خصوصية هذا الغلاف. وهي خصوصيّة يؤكّدها العلم الحديث إذا قورن بالأغلفة المحيطة بالكواكب الأخرى. ونعيد ‏طرح التّساؤل الذي ختمنا به الجزء الأول والمتعلّق بإضافة الضّحى الى السّماء والشّمس، ولكن هذه المرّة بعلاقة بالظّلام المذكور ‏في الآية فنتساءل: هل إضافة ظلام اللّيل الشّديد الى السّماء بمعنى الغلاف الغازي صدفة؟
ولكن لماذا تخبر الآية بأنّ اللّيل قد أغطش والضّحى قد أخرج؟ جزء من الإجابة نتوسّله من اللّغة والجزء الثاني من الحقيقة العلميّة. ‏تفيد الصّيغة المزيدة المستعملة لفعلي غطش (ظلم) وخرج (برز وظهر) إضافة للمعنى الأصلي، الصّيرورة، وهذا يعني لغة أنّ ‏اللّيل لم يكن شديد الظّلام فصار كذلك ولم يكن النّهار بارزا وظاهرا كما هو في يومنا هذا فصار كذلك. تخبر الآية إذا وبوضوح ‏شديد أنّ الله تعالى أخرج الضّحى (شدّة ضوء الشّمس وصفاؤه) أي أبرزه وأظهره ولم يكن كذلك وأنّه أغطش اللّيلَ أي صيّره ‏شديد الظّلمة ولم يكن كذلك‎.‎‏ وعندما تقول الآية أنّ الفاعل هو الله فلا يجب أن ينسينا ذلك أنّه تعالى يفعل من خلال القوانين ‏والآليات التي أودعها في الطّبيعة والتي يعمل العلم جاهدا على اكتشاف كيفيّة عملها. فماذا يقول العلم عن الحالة البصريّة للنّهار ‏واللّيل؟ وهل اكتشف كيفيّة عمل الطّبيعة فيهما؟
رأينا في الجزء الأول أنّ الحالة البصريّة للنّهار، تتحدّد بفضل الشّمس والتّركيبة الغازيّة للغلاف الغازي وقد أشرنا في الأعلى أنّ ‏نفس الشّيء يحدث بالنّسبة للّيل. لكن، يفيد العلم الحديث أيضا، أنّ الغلاف الغازي تطوّر بشكل كبير خلال تاريخ الأرض الممتدّ ‏على دهر قُدّر بـ 4,5 مليار سنة. لذلك يصبح من المفيد جدّا بل من الضّروري أن نعرف أهمّ المراحل التي مرّ بها حتّى نفهم ‏مسألة الإغطاش والإخراج. 
وبإيجاز نقول:‏
‏-‏ أنّ الغلاف كان مكوّنا من الهيدروجين والهيليوم من 4,5 الى 4,4 مليار سنة،
‏-‏ أنّ تركيبة الغلاف تغيرت من 4,4 الى 4 مليار سنة، لتصبح كما يلي: ماء بنسبة 85 % من حجم الغلاف، من 10 الى ‏‏15 % ثاني أكسيد الكربون ومن 1 الى 3 % نيتروجين‎.‎
‏-‏ أنّ بكتيريا تنتج غاز الأكسجين الحرّ ( ‏O2‎‏ ) بآلية التّأليف الضّوئي ظهرت في المحيطات وذلك قبل 3,5 مليار سنة ‏وقد ظلّ هذا الغاز طيلة مئات الملايين من السّنين محلولا في مياه المحيط دون أن يتسرّب الى الفضاء ‏‎.‎
‏-‏ أن غاز الأكسجين الحرّ بدأ يخرج من مياه المحيطات الى الجوّ قبل 2,2 مليار سنة وهو ما يسمّيه العلماء الأكسدة ‏العظيمة. ‏
‏-‏ وأنّه بداية من الفترة الممتدة من 2 - 1 مليار سنة الى يومنا هذا، أصبح تكوين الغلاف كالتّالي: النّيتروجين: 78.09 %. ‏الأُكسجين: 20.93 % (أي أن غازي الأكسجين والنيتروجين يمثّلان حوالي 99 % من حجم الغلاف)، ثاني أكسيد ‏الكربون 0.036 %. أمّا نسبة الماء فضئيلة جدّا ومتغيّرة.‏
ماذا تفيد هذه الحقائق؟ إنّها تفيد بوضوح أنّ الغلاف الغازي تطوّر من وسط شافّ الى وسط شفّاف. لقد كان هذا الغلاف خلال مئات ‏الملايين من السّنين يتكوّن أساسا من بخار الماء وهذا يعني أنّ ضوء النّهار كان أبيضَ باهتا، كالضّوء الأبيض عند مروره من ‏خلال ورقة بيضاء. وإذا أضفنا كميّات الدّخان والغازات التي كانت تُقذف من البراكين التي غطّت سطح الأرض مئات الملايين من ‏السّنين، فإنّنا نجد أنفسنا أمام نهار لا صفاء فيه أي لا ضحى فيه.  
وهناك حقيقة أخرى تتمثّل في أنّ ضوء الشّمس كان في بداية عمر ‏الأرض أقلّ شدّة بنسبة 25 ‏‎%‎‏ من اليوم. كلّ هذا يعني أنّ ضوء النّهار السّاطع والصّافي المسمّى الضّحى لم يكن دائما موجودا لكنّه ‏ظهر تدريجيّا مع تغيّر مكوّنات الغلاف الأرضي أي أنّه خرج بعدما كان سجين الكثافة العالية للغلاف الجوّي. وما حدث للنّهار ‏حدث للّيل أيضا. فظلمة اللّيل كانت أقلّ من الآن لسببين: الأوّل هو طبيعة الغازات المشكّلة لجوّ الأرض والثّاني هو ابتعاد القمر ‏عن الأرض. لقد كان القمر قريبا جدّا من الأرض عندما تشكّل في المائة مليون الأولى من عمر الأرض وأخذ يبتعد بسرعة تقدّر ‏بـ3 صم في السّنة. وهذا يعني أنّ نور القمر كان أشدّ في الماضي السّحيق للأرض ثمّ ضعف تدريجيّا أي أنّ الظّلام لم يكن مدلهما ‏كما هو اليوم وهو ما تعنيه كلمة «أغطش» لغة.‏
لقد تحوّل ضياء النّهار من ضوء أحمر بنّيا (يحدث الغبار والأدخنة المبثوثة بالبراكين تشتيتا للضّوء الأحمر) الى ضوء أبيض ‏باهت (بخار الماء) الى آخر ناصع بفضل تغيّر الحالة الفيزيائيّة للغلاف الغازي الذي كان جسما شافّا وأصبح جسما شفّافا‎.‎‏ فالضّحى ‏وهو شدّة صفاء ضياء النّهار لم يكن ممكنا الاّ بعدما تطوّرت تدريجيّا تركيبة الغلاف الغازي من تركيبة غنيّة بالماء وغازات ‏أخرى الى تركيبة مختلفة تماما. كما تحوّلت ظلمة اللّيل الى أشدّ ظلمة وهو ما تقرّره الحقائق العلميّة وما تتضمّنه الآية القرآنيّة ‏التي تخبر بأنّ الليل قد أغطش أي قد صار ظلامه مدلهما ولم يكن كذلك وأنّ الضحى قد أخرج أي قد برز ولم يكن كذلك. وهذه ‏الصّدفة الثّالثة أن يخبر القرآن ضمنيّا أنّ الغلاف الغازي وشدّة سطوع «النيّرين»-أي الشّمس والقمر كما يقول العرب-تغيّرا عندما ‏صرّح بأنّ اللّيل قد أغطش وأنّ الضّحى قد أخرج.
(2) رفع سمك السّماء وتسويتها.‏
ما هو السّمك؟ نجد في مقاييس اللّغة أنّ الجذر (س م ك) هو أصل واحد يدلّ على العلو. وقد اقتصر الرّاغب على معنى الرّفع في ‏الفضاء. أمّا في العين فالسّمك هو القامة من كلّ شيء. وعن الأصمعي فإنّ كلّ شيء ارتفع فهو سامك، وسمْكُ البيت مسافة أعلاه ‏الى أسفله. ورجل مسموك طويل (الجمهرة. ابن دريد). إنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو: مسافة الارتفاع أي مسافة الأعلى الى ‏الأسفل. أمّا عن الرّفع فهو نقيض الخفض وهو معروف. فماذا تعني الآية بالقول بأنّ سمك السّماء قد رُفع ونحن نعلم من اللّغة أنّ ‏السّمك يحيل الى الارتفاع؟ 
يقول ابن عاشور في تفسيره للآية ما يلي: «تعدية فعل رفع الى السّمك للمبالغة في الرّفع أي رفع رفعها ‏أي جعله رفيعا وهو من قبيل قولهم ليل أليل وظلّ ظليل». فهل للغلاف الغازي سمك مرفوع بل وهل هو مرفوع أصلا؟  يمتدّ ‏الغلاف الغازي كما سنرى في الفقرة الموالية مئات الكيلومترات الى الأعلى حيث يقدر العلماء متوسّط سمكه بـ 600 كم وهو ما ‏يجعل استعمال رفع السّمك وصفا حقيقيّا للمسافة الكبيرة بين أعلى الغلاف الغازي وأسفله وهي مصادفة رابعة ولا يمكن الاّ أن ‏تكون سارّة للبعض ومحرجة لآخرين.‏
قالَ الرّاغِبُ ـ في المُفْرَداتِ ـ: الرَّفْعُ يُقَال تَارَةَ في الأَجْسَامِ المُوْضُوعَةِ إِذا أَعْلَيْتَها عن مَقَرِّهَا فهل يمكن القول أنّ الغلاف قد رفع أي ‏قد أعلي عن مقره؟ نعم وبدون تردّد. يكفي أن نعلم أنّ غازي الأكسجين والنّيتروجين المحيطان بالأرض (السّماء) هما من إنتاج ‏الكائنات الحيّة وهي تسكن سواء على سطح الأرض أو تحت السّطح بقليل. فالغازات تنتج قرب سطح الأرض وترتفع فعلا الى ‏الأعلى بفعل خفتها قياسا بثقل الصّخور. وكذلك مكوّنات الغلاف في الماضي فكلّها تتشكّل على سطح الأرض أو في باطنها من ‏خلال البراكين وذلك مقرّها (بخار الماء، ثاني أكسيد الكربون، الميثان، الخ...) ثم تُعليها خفّتها. لقد رفع إذا سمك الغلاف الغازي ‏حقيقة لا مجازا بفعل خفّة مكوّناته وهذه مصادفة خامسة أن يخبر القرآن بأنّ السّماء (غلاف الأرض) رفعت ويفسر العلم كيف. ‏فماذا عن التّسوية؟ ‏
رأينا في الجزء الأول أنّ الطبري قال عن التّسوية ما يلي: « فسوّى السّماء، فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ‏ولكنّ جميعها مستوي الارتفاع والامتداد» أمّا الزّمخشري فقال « فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور. أو فتمّمها بما ‏علم أنّها تتمّ به وأصلحها، من قولك سوّى فلان أمر فلان». ليس للمفسرين القدامى أيّة فكرة عن حقيقة الغلاف الغازي وما قالوه هو ‏فقط ما يمكن أن تسمح به اللّغة فيما يتعلّق بالاستواء. ففي اللّغة يمثل الجذر (س و ي) ثراء كبيرا في الدّلالة وقد تعدّدت مشتقّاته ‏بشكل ملحوظ. ونستفيد من مجهود ابن فارس الذي قال في مقاييس اللّغة ما يلي: «(سَوِيَ) السِّينُ وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى ‏اسْتِقَامَةٍ وَاعْتِدَالٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ». هذا عن اللّغة، فماذا يقول العلم؟ 
يقول العلم الحديث بأنّ نسب غازي النّيتروجين واللأكسجين هي على ‏التوالي: 78.09 % و 20.93 % وهي ثابتة لا تتغيّر منذ ملايين السّنين، كما أنّها لا تتفاوت على طول ارتفاع الغلاف وامتداده ‏الأفقي. وقد تطلّب تعديل هذه النّسب مليارات السّنين لتستقرّ على ما هي عليه الآن وهي نسب مثّلت شرطا من شروط خلق ‏الإنسان كما دلّت على ذلك الحفريّات بعدما استجاب الإنسان كرها لأمر الله تعالى له بالسّير في الأرض والنّظر في كيفية الخلق ‏‏(العنكبوت 20). إنّ تسوية السّماء يمكن أن تعني أنّ التّركيب الكيميائي للهواء قد عدّل في نسب لا تفاوت فيها، فكلّ من غاز ‏الأكسجين والنّيتروجين له تركيز مستقرّ نسبيّا ومتجانس وخاصّة في الطّبقة السّفليّة للغلاف وهي طبقة الضّحى واللّيل. وهنا نصل ‏الى الآية التي تقول بأنّ السّماء بناء. لكن لا ننسى مسألة الصّدف، فتسوية السّماء بمعنى تعديل نسب مكوناتها مع رفعها هو وصف ‏دقيق للكيفيّة التي تشكّل بها الغلاف الغازي كما توصل اليها العلم الحديث وتلك إذا صدفة سادسة.‏
(3) السّماء بناء ذو طبقات.‏
نجد في مقاييس اللّغة للجذر بنى ما يلي: « الباء والنون والياء أصلٌ واحد، وهو بناءُ الشيء بِضَمِّ بعضِه إلى بعضٍ. ‏تقول بَنَيْتُ البناءَ أبنيه. وتسمَّى مكةُ البَنِيّة». يدلّ لفظ البناء إذا في اللّسان العربي على هيكل مادّي مقام على الأرض وذلك برفع ‏لبناته وضمّها الى بعضها البعض. فهل الغلاف الغازي بناء؟ وإن هو كذلك فما هي لبناته الأساسيّة وما هو شكله وما هو الإسمنت ‏الذي يحفظ هيكله؟ تمثّل هباءات غازي النّيتروجين والأكسجين اللّبنات الأساسيّة التي يتشكّل منها الغلاف الغازي وقد رأينا أنّ تلك ‏اللّبنات قد رُفعت من سطح الأرض مثلما ترفع الحجارة مثلا لبناء منزل وهو بهذا المعنى الحرفي بناء. كما تبيّن الدّراسة الفيزيائيّة ‏أنّ هذا البناء قد شُيّد على شكل طبقات تعلو بعضها بعضا، لكلّ واحدة دور يميّزها عن الأخرى وأنّه محفوظ لا ينهار ولا تتشتّت ‏لبناته في الفضاء الكوني رغم خفّتها وذلك بفضل كتلة الأرض وحقل جاذبيتها الذي يضمن بقاء ذلك البناء واستمراره. أمّا عن أعلى ‏البناء فليس هناك حدّ فاصل واضح بينه وبين الفضاء الخارجي بل يحدث تغيّر تدريجي في كثافة الغازات الى أن يصبح صفرا. ‏فأعلى تركيز للغاز يكون قرب السّطح حيث تتركّز قرابة 99 % منه تحت 30 كم. ودون أن ندخل في التّفاصيل نعطي فقط لمحة ‏عامّة على أهم ما يميّز كلّ طبقة من طبقات البناء السّماوي المحيط بالأرض والتي وقع تحديدها باعتماد درجة الحرارة داخلها ‏وتغيّرها عموديّا. ‏
‏-‏ طبقة التروبوسفير: تعلو سطح الأرض من 7 الى 16 كم. تحتوي على 80 الى  90 بالمائة من مجموع كتلة الغلاف ‏الغازي وكامل كميّة الماء تقريبا.‏
‏-‏ طبقة السّتراتوسفير: يصل ارتفاعها إلى ما يقارب 50 كم، وتتميّز هذه الطّبقة عن غيرها من ‏الطبقات الأخرى، باحتوائها لحزام الأوزون ‏الذي يُعتبر درعا حاميا للمخلوقات وبخلّوها من السُحب وتكون فيها نسبة بخار الماء قليلة جداً.‏
‏-‏ طبقة الميزوسفير: من 50 الى 80 كم وتحدث فيها عمليّة احتراق الشّهب والنيازك.‏
‏-‏ طبقة التّارموسفير: تمتد من 80 الى 350-800 كم. وهي الطّبقة الرّابعة والأخيرة وتصل درجات الحرارة فيها إلى ما يقارب ‏‏1000درجة مائويّة، حيث تنتشر فيها الأيونات ويكمن مبدأ عملها على «عكس الموجات اللاّسلكية باتجاه الأرض ثم انتقال ‏الإشعاعات الممغنطة باتجاه القطبين ممّا يولد شحنات كهربائيّة في الأعلى تنتج عنها ظاهرة الوهج القطبي».‏
فالسماء بناء إذا، وتلك صدفة سابعة!‏
(4) خلاصة
لقد تبنينا في الجزءين الأول والثّاني من هذا المقال ذي أربعة أجزاء فرضيّة أنّ السّماء تأتي بمعنى الغلاف الغازي المحيط ‏بالأرض. وقد بيّنا أنّه بناء حقيقيّ كما تصفه الآية 27 من سورة النّازعات ويؤكّده العلم الحديث. وقد تكفّلت الآية التي تليها بتوضيح ‏الكيفيّة التي شيّد بها هذا البناء بالقول بأنّه رُفع عاليا وأخبرت بأنّه مُعدل تعديلا محدّدا أي مسويّا بالمصطلح القرآني. وفعلا، فقد ‏رُفعت أحجاره الأساسيّة (غاز النيتروجين والأكسجين) بعدما أنتجتها الكائنات الحيّة المستعمرة للأرض واستقرّ تركيز كلّ غاز في ‏نسبة ثابتة منذ ملايين السّنين وهي نسبة نفسّر بها الآن حالة الغلاف البصريّة. كما أخبرت بأنّ الضّياء الشّديد والصّافي للنّهار أي ‏الضّحى والظّلام الحالك للّيل هما ميزتان لم تكونا من قبل وذلك باستعمال الصّيغة الصّرفية «أفعل» والتي تدلّ من جملة ما تدلّ ‏على الصّيرورة وهذا بالضّبط ما يقوله العلم الحديث في شأن تطوّر الحالة الفيزيائيّة للغلاف الغازي الذي كان شافّا وأصبح شفّافا ‏وتأثير ذلك المباشر على شدّة ضياء النّهار وظلام اللّيل. لقد عدّدنا سبعة صدف تتمثّل في وجود تناغم بين ما في الآيات من أخبار ‏عن ظاهرة طبيعيّة وما يقوله العلم الحديث في شأنها وهي السّماء أي الغلاف الغازي للأرض نشأة وتطورا وهذا لعمري شيء ‏عجاب. ‏
سنتدبّر في الجزء الثالث آية الدّحو وهي التي، بإخبارنا أنّ الأرض دُحيت بعد بناء السّماء، دفعت بنا للبحث في الماضي السّحيق ‏لتاريخ الأرض الذي شهد بناء السّماء بمعنى الغلاف الغازي كما افترضناه وتأكّدنا من صحّته. لقد أخبرت الآية أنّ الدّحو حدث بعد ‏إقامة هذا البناء وما شهده من تطور انعكس مباشرة على الحالة البصريّة لكلّ من النّهار واللّيل. فالأول صار شديد الضّياء والصّفاء ‏واستحقّ تسمية الضّحى والثّاني صار شديد الظّلام ولم يكونا كذلك من قبل. فلم يكن بإمكاننا منهجيّا تدبّر آية الدّحو بدون أن نضع ‏ظاهرة الدّحو القرآنيّة في سياقها الزّمني الذي حدّدته الآية 29 من سورة النّازعات بنفسها .‏