وجهة نظر
بقلم |
محمد الصالح ضاوي |
الأسطورة والوحي نظرية في البغاء المقدس |
اتصل بي في عمق ليلة رمضانيّة... بعد أن ألقى التّحية، دخل في الموضوع مباشرة... يستفسر عن موضوع، سبّب له أزمة وجوديّة وحيرة مؤمن... موضوع التّشابه بين الأساطير البابليّة والسّومريّة والكنعانيّة مع القصص النّبوي في التّوراة والقرآن... كيف نفسر ذلك؟؟ حيرة ومأزق... مع أنه ملتزم دينيّا كما صرّح بذلك... ثم عرض عليّ مقالا من صفحة تبشيريّة، قال أنّه زلزله، بل وأخرج صديقة من ملّة الإسلام... وطلب ردّي عليه كباحث...(ردّي عليه في مقال آخر).
صديقي، طالب دكتوراه تونسي، اختصاص قانون، ولكنّه يتمتّع بملكة البحث والمطالعة والتّنقيب عن حقائق التّاريخ والحركات والدّول، وسبر أغوار السّياسة والمجتمع، وهو كثير المطالعة، حرّ التفكير، رغم انتمائه القومي العربي الواضح... موسوعة في قضايا حركات العروبة بمختلف تفرّعاتها وتفاصيلها... فتح ملف الأساطير في قراءاته الأخيرة... كتب «فراس السواح» أساسا... ومنها، ومن مقارنات مع تراكمات قديمة، دخل في حيرة من جرّاء التّشابه بين الأساطير والقرآن والتّوراة...
عقيدة الأساطير
والحقيقة، أنّ اتهام التّوراة بالأخذ عن الأساطير البابليّة أمر لا يحيّرنا نحن المسلمين... لسابق قناعتنا أنّ التّوراة لم تحفظ، وأنّها تعرّضت للتّحريف... وأنّها كُتبت بعد قرون من تنزيلها... أضف إلى عدائنا لليهود وكلّ ما يتّصل بهم... لا يهمنا ولا يقلقنا التّشابه بين الأساطير والتّوراة... لكنّ الأمر يختلف بخصوص القرآن... نحن لا نقبل بالتّشكيك في كتابنا المنزّل من الله والمحفوظ بأمره تعالى... وكلّ تشابه بينه وبين الأساطير يستدعي الدّفاع المستميت لتبريره... بأيّ وسيلة كانت... وهذا من منطلق أنّ التشابه الملاحظ من قبل علماء الميثولوجيا وغيرهم، هو اتهام مبطن بأنّ القرآن أخذ تلك الأساطير ودسّها في القرآن باعتبارها قصصا... هذا هو واقع المسألة عند أغلب علمائنا...
وكلّ مواقع التّبشير والإلحاد العربيّة، تعتمد على هذه الشّبهات لنقض القرآن والتّشكيك فيه... وتراهم يؤسّسون دعواهم على نصوص من كتب «فراس السّواح»، التي تحسن إخراج التّشابه بين القصص القرآني والنّص التّوراتي، وبين الأساطير البابليّة وما جاورها... الشّيء الذي دفعني إلى تأليف كتاب: «أساطير الأوّلين: رؤية إسلامية مغايرة» [1] ، لدحض زيف الأطروحة الإلحاديّة والتّبشيريّة التي هدفها نقض القرآن...
في هذا التّأليف، كتبت :
«حساسيّتنا المفرطة التي قد تبدو للبعض مبالغ فيها، لها ما يبرّرها. فكثير من الأبحاث الميثولوجيّة العربية، رغم قلّتها، أوجدت عقيدة جديدة اسمها: العقيدة الأسطوريّة، التي ترمي إلى إثبات أسبقيّة الأسطورة على كلّ أنماط الفكر البشري، وعلوّ مقام الأسطورة على كلّ المقامات المعرفيّة، وخاصّة: مقام الدّين،، حتّى أصبحت هذه العقيدة تروّج لإله اسمه: «أساطير الأوّلين».
ليس في كلامنا شيء من التّهويل ولا من التّرميز ولا من التّمثيل. نحن نتحدّث عن مجموعة في عالمنا العربي، اعتنقت الأساطير مذهبا عقائديّا وفكريّا لضرب الأديان، حتّى أصبح «النّضر بن الحارث» صاحب الاتهام الشّهير للقرآن بأنّه أساطير الأولين: شهيد الفكر الحرّ، أي شهيد الإلحاد، وأصبح السيّد فراس السوّاح، المرجع الأساسي لنظريّات الملحدين العرب، حتّى يمكن عدّ كتبه: أسفار الملحدين العرب، وأصبح شعارهم، اضرب الدّين وجز طريقك. هذا وإنّ أشهر الملحدين وأنشطهم اسمه الوهمي: «سواح»؟؟.
نشعر بشيء من الأسف، أن نظريات الإلحاد في المجال الميثولوجي، يروّج لها بطرق عديدة، أكاديميّا وإعلاميّا، ومعلوماتيّا..وكثير من الملحدين يختبئون خلف عباءة العلم والموضوعيّة والأكاديميّة والعصرنة والحداثة وما بعد الحداثة، وهلمّ جرّا من هذه المصطلحات التي تستعمل لتبرير نفي الوحي وإقامة شعائر الإلحاد والأسطورة.
وقلّة من هؤلاء، انتظموا ضمن منتديات على الشّبكة المعلوماتيّة، واتخذوا لأنفسهم أسماء وهميّة، وأخذوا يروّجون للفكر الإلحادي بكلّ صلف، مستعملين الدّراسات التي تناولت الأساطير، كمرجع فكري لهم.» [2] .
أسطرة الوحي
والفكرة الأساسيّة، التي حاولت بيانها في الكتاب، وهي الردّ الواضح على كلّ تشابه بين الأساطير والنّص الدّيني، أنّ مقولة: أخذ اللاّحق من السّابق غير صحيحة في موضوعنا الحالي... فلم يتأثّر اللاّحق الذي هو النّص الدّيني، بالسّابق، الذي هو الأسطورة... لأنّ أصل المعرفة الإنسانيّة ليس الأسطورة وإنما هو: الوحي... الوحي الأول الذي حمل إلينا معرفة وعرفانا عن الكون والإنسان والحياة، وهو الذي أسّس لنا رؤيتنا الكونيّة والمعرفيّة... الوحي الذي فتح لنا عالم الإلهيّات والطّبيعيات والمجرّدات العقليّات... وعلى بساطته وعمقه وثرائه، انطلق الإنسان في استثماره والاهتداء به... ومع مرور الزمن، وقرن بعد قرن، تضاءل المحمول الرّوحاني للوحي، وانطفأ نوره، وتحوّل إلى أسطورة، احتفظت باللّفظ، وتاهت عن المعنى الرّوحي الرّمزي الباطني، لتنحت معاني حسّية وخياليّة، تستعيد بها لحظتها الأولى... تحوّل من اللّطيف إلى الكثيف... وانحراف عن الأصل... تلك هي الأسطورة... تحمل بعض الحقائق التّراثية النّبوية الأصيلة... لكنّها خرجت عن السّياق الرّمزي والكون الرّوحي الحقائقي... لذلك، جاء النّص الدّيني، ليستعيد لحظة الوحي الأولى بكل مستوياتها المعرفيّة والكونيّة والرّوحية الرّمزيّة، وليصحّح الكون الأسطوري أو ينقضه... فالنّص الدّيني وحي الرّحمن، والأسطورة وحي الشّيطان، على حدّ عبارة «فراس السّواح»...
حقيقة البغاء المقدّس
أوضح مثال على تحوّل الوحي إلى أسطورة، هو: «الجنس المقدّس»... وهو موضوع لاقى الاهتمام من العلماء، عندما درسوا المعابد الشّرقية، وما يحصل فيها من جنس وبغاء تحت عنوان التّقديس والعبادة [3] ... لكنّهم عمدوا إلى خيالاتهم لتفسير هذا البغاء وترميزه وربطه بالعبادة... حتّى أنّهم قدّموا لنا نسخة ايروسيّة للعبادة تبدأ بالحركات ذات الايحاء الجنسي، كما صوّر لهم...
وأصل الموضوع في مجال الوحي والتّراث النّبوي الأصيل يسمّى: نظرية النّكاح المعنوي بين المخلوقات في عالم الخلق، فالتّوالد من نكاح معنوي بين موجودين، هو الذي يؤدّي إلى خلق موجود ثالث، وهذا سار في الكون، ناموسا ربّانيّا، عبّر عنه القرآن، بلفظ: الإيلاج، فالله سبحانه وتعالى، يولج اللّيل في النهار، ويولج النّهار في الليل، وهذا الإيلاج، الذي هو حركة نكاح معنوي، هو ناموس الخلق، يسري في كلّ الأشياء تقريبا. ونجد عند ابن العربي الحاتمي، وارث العلوم التّراثية الأصيلة، تفصيلات للنّكاح المعنوي، وتسميات متعدّدة، فنقرأ معه [4]: النكاح الإلهي، وهو توجّه الله على أعيان الممكنات بالتّجلي النّوراني لإيجادها، والنّكاح الغيبي، وهو نكاح الأرواح والمعاني، والنكاح الطبيعي، وهو اجتماع الصورتين الطبيعيتين بالابتناء والتوالد، وهو المسمى نكاحا، ويسمى: التثليث، ونكاح المعاني، والنكاح المعقول.
والنكاح المعنوي، نظريّة من رحم التّراث الأصيل، الذي هو الوحي، وقد كان من معارف النّبوة الأولى، إلاّ أنّ البعد الزّمني عن لحظة الوحي الأولى، واندثار العرفان النّبوي الأصيل، حوّل هذا النّكاح المعنوي السّاري في الكون، إلى نكاح مادّي جنسي، صوّر في نسخة مادّية غير تجريديّة، وأصبح يعبر عنه: بالجنس المقدّس، وأخذ شكلا انحرافيّا عن معانيه وحقائقه الأولى.
فالنكاح الذي تمّ بين الملك المسمّى: العقل الأول، والملك المسمّى: النّفس الكلّية، والذي تولّد عنه الكون، المعبّر عنه بالعرش، أصبح في أدب «أساطير الأولين» المنحرف عن الوحي الصّافي، نكاحا بين آلهتين، تولّد عنهما الكون. ويمكن الرّجوع إلى علم الميثولوجيا، وإعادة تفسير أساطير «النّكاح والجنس المقدس» في ضوء هذه النّظرية. ولو فصّلنا المسألة، لعرفنا أنّ الإنسان واقع بين آباء علويين، وآمّهات سفليّة، كما قال الأمير عبد القادر، في المواقف [5] :
[ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون، أنّ السّماوات، وهو ما علا من الأرواح والأفلاك والأملاك، آباؤنا العُلويّات. وأنّ الأرض، وهو ما سفل من العناصر والأركان، أمّهاتنا السُفليّات]اهـ
النّكاح السّاري في جميع الذراري
وأصل النّكاح السّاري في جميع الذّراري، كما جاء في معجم اصطلاحات الصّوفية للكاشاني [6] :
[التّوجّه الحبّي المشار إليه في قوله: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف» فإنّ قوله: «كنت كنزا مخفيّا» يشير إلى الخفاء والغيبة، والإطلاق على الظّهور والتّعين سبقا أزليّا ذاتيّا. وقوله: «فأحببت أن أعرف» يشير إلى ميل أصلي وحبّ ذاتي، هو الوصلة بين الخفاء، المشار إليه بقوله: «كنت كنزا مخفيّا» وبين الظّهور، المشار إليه بـ «أن أعرف»، فتلك الوصلة هي أصل النّكاح السّاري في جميع الذّراري، فإنّ الوحدة المقتضية لحبّ ظهور شؤون الأحدية، تسري في جميع مراتب التّعينات المترتّبة، وتفاصيل كلّياتها، بحيث لا يخلو منها شيء، وهو الحافظة لشمل الكثرة في جميع الصّور عن الشّتات والتّفرقة، فاقتران تلك الوحدة بالكثرة: هو وصلة النّكاح أوّلا في مرتبة الحضرة الواحديّة بأحدية الذّات في صور التّعينات، وبأحدية جمع الأسماء، ثمّ بأحدية الوجود الإضافي في جميع المراتب والأكوان بحسبها، حتّى في حصول النّتيجة من حدود القياس والتّعليم والتعلّم والغذاء والمغتذى والذّكر والأنثى، فهذا الحبّ المقتضي للمحبّة والمحبوبيّة، بل العلم المقتضى للعالميّة والمعلوميّة هو أول سريان الوحدة في الكثرة، وظهور التّثليث الموجب للإيجاد، بالتّأثير والفاعليّة والمفعوليّة، وذلك هو النّكاح السّاري في جميع الذّراري]اهـ.
والنّكاح المادّي الجنسي الذي يتجلّى في الكائنات الحيّة، هو صورة من الصّور، ومستوى من مستويات النّكاح المعنوي الذي أصله: الوصلة الحبّية في حديث الكنز المخفي... ولمّا اضمحلت الرّوحانيّات، واختفى العرفان، وانطمست الحقائق، وبعدت الشّقة، واندثر زمان ذلك... ولم يبق إلاّ اللّفظ... عُبّر عنه بالمحسوس والملموس والمشاهد والكثيف... فاتخذت البغايا في المعبد تحت لبوس التّقديس والتّشريف... ولعب الشّيطان بعقول النّاس... وقلب لهم هرم العبادة والتّوحيد... وأنزلهم منزلة البهائم... ولوّث لهم كلّ قيمة طاهرة وكلّ نَفَس شريف... وانضاف إلى ذلك شهوات الكهنة ورجال الدّين ومصالحهم...
ثمّ يأتى العلماء اليوم، يؤوّلون كلّ ذلك بعبارات تربط الدّين بالبغاء والجنس... إمعانا في شيطنة المقدّس وتدنيسه... تحت مسميّات العلم والبحث الأكاديمي... ويتبعهم أبناؤنا الطّلبة والأساتذة والباحثون، بلا فهم ولا عقل... وكان أولى بهم استثمار نظريّاتنا المستخرجة من رحم تراثنا النّبوي الأصيل، لتفسير الكون الأسطوري، وتقديم رؤية مغايرة لما هو سائد في المجمع العلمي العالمي...
الهوامش
[1] الضاوي، محمد الصالح: أساطير الأولين، رؤية إسلامية مغايرة، دار الكتب العلمية، ط 1، 2011.
[2] ن.م. صص 112-113.
[3] في الشعوب القديمة، مثل ما بين النهرين، كانت العادة أن تضحي الفتاة ببكارتها في معبد إله المدينة، ويسكب دم العذارى على المذبح، كقربان للآلهة...
انظر: فريشاور، بول: الجنس في العالم القديم، ترجمة: فائق دحدوح، دار نينوى، دمشق، ط 1، 1999، ص 76.
[4] الضاوي، محمد الصالح: حقائق العرش في رؤية الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، كتاب ناشرون، بيروت، ط 1، 2016، ص 21، الهامش 1.
[5] ابن محي الدين الجزائري، الأمير عبد القادر، المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، دار الكتب العلمية، ط 2004، الموقف 248، ص 452.
[6] الكاشاني، عبد الرزاق، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق: عبد العال شاهين، دار المنار، صص 116-117. |